ما بين محافظات الشرقية والجيزة والفيوم والأقصر يختلف المؤرخون والأثريون حول المكان الذي عاش فيه النبي يوسف، والذي جاء إلى مصر فتى، وكبر وترعرع ومرّ بمنعطفات حيايتة حتى قرّبه عزيز مصر إليه وجعله حارساً على خزائن الأرض.
وبينما يرى أثريون أن النبي يوسف ربما يكون قد عاش هنا أو هناك مدللين على أطروحاتهم بأسانيد تاريخية، يرى آخرون أنه لا توجد قرائن علمية تشير إليه من الأساس.
الشرقية والهكسوس
يرجّح البعض أن النبي يوسف عاش في مدينة بر رمسيس القديمة، وهي الآن محافظة الشرقية. قال الدكتور حجاجي إبراهيم أستاذ الآثار لرصيف22 إن يوسف جاء إلى مصر عن طريق حورس (طريق حربي قديم كان يمتد على طول الساحل الشمالي لسيناء) في عصر الهكسوس (في عصر الانتقال الثاني)، وأقام بمدينة بر رمسيس القديمة التي كانت مركزاً لهم، إذ أنهم لم يبسطوا نفوذهم على كل ربوع مصر حينذاك.
ودلل إبراهيم على ذلك بأن يوسف بيع بدراهم وهي عملة الفرس في ذلك الوقت، وليست عملة المصريين الذين كانوا يتعاملون بالمقايضة.
والحاكم الذي قرّب يوسف له لم يكن مصرياً، وإنما كان من الهكسوس ولقب بـ"عزيز مصر" كما ورد في القرآن، ولو كان حاكماً مصرياً لقيل له فرعون مثل فرعون موسى، حسبما ذكر إبراهيم.
ويوضح إبراهيم أن هناك اجتهادات أخرى حول المكان الذي عاش فيه النبي يوسف. ففي الأقصر توجد مجموعة من مباني الطوب اللبن (طوب بدائي يصنع من الطين) قيل إنها مخازن كان يخزن فيها يوسف الحبوب أثناء المجاعة، بالإضافة إلى مبان أخرى في منطقة العزيزية بالجيزة.
وكانت وزارة الآثار قد أعلنت في السابع من فبراير الماضي اكتشاف مجموعة من المباني المتجاورة في مدينة "بر - رمسيس" عاصمة الهكسوس القديمة، مما دفع أثريين للقول إن هذا الاكتشاف ربما يفك لغز إقامة النبي يوسف في مصر.
لكن نورالدين عبد الصمد، مدير إدارة التوثيق الأثري بوزارة الآثار، استبعد فكرة مجيء يوسف في عصر الهكسوس ومن ثم إقامته بمدينة "بر رمسيس". وقال لرصيف22 إن بعض المؤرخين ذكروا أن يوسف وصل إلى مصر في عهد الملك أبو فيس أشهر حكام الهكسوس، وادعوا أنه ظل في الحكم لمدة 26 عاماً وبالتحديد من عام 1876 إلى 1850 ق.م.
هؤلاء وقعوا في خطأ جسيم، فالملك المذكور كان معاصراً للملك المصري سقنرع، أي من عام 1574 حتى عام 1560 ق.م، ما يعني أن هناك خطأ يقرب من ثلاثة قرون من التاريخ الذي ذكره هؤلاء المؤرخون.
وذكر عبد الصمد أن دخول يوسف كان في نهاية حكم أسرة مصرية صميمة، وكان ذلك قبل بدء المجاعة والجفاف، ما يعنى أن يوسف جيء به إلى مصر قبل حكم الهكسوس، وكان دخوله إلى البلاد طبيعياً في ظل ظروف سياسية غير مضطربة.
والأرجح أن يكون الهكسوس اجتاحوا مصر أثناء وجود يوسف في السجن، ويبدو أنه كان هناك اضطراب في الحكم المصري، بدليل وجود ساقي وخباز الحاكم بالسجن، في إشارة إلى مؤامرة لتسميمه.
لا يوجد في علم الآثار ما يشير إلى شخص اسمه يوسف، وبالتالي فإن البحث عن تاريخ النبي يوسف يعد نوعاً من العبث
الآثار لم تقدم معلومات وافية عن أي من الأنبياء والرسل الذين وردوا في الكتب المقدسة...
الفيوم ومخازن الغلال
قد يكون النبي يوسف عاش في الفيوم. إذ يعتبر الدكتور أحمد عبد العال، أستاذ الآثار القديمة بجامعة المنيا، أن يوسف عاش في مصر في عصر الدولة الوسطى التي كانت في حالة من الازدهار، وفي ذلك الوقت كانت الفيوم مليئة بخيرات الأرض وبها كثير من مخازن الغلال.
ولكنه أشار لرصيف22 إلى عدم وجود أي دليل أثري يثبت أن يوسف عاش في الفيوم، وهي مجرد اجتهادات تاريخية.
علماً أن فرضية أن النبي يوسف كان يعيش في مدينة الفيوم تتفق مع مرويات شعبية أوردها كثير من الرحالة والمؤرخين العرب في هذا السياق، بعدما تأثروا بالموروث الشعبي المتخم بالحكايات التى ربطت بين المدينة ويوسف.
يقول الرحالة التركي أوليا جلبي (ولد عام 1610) الذي زار مصر في سبعينيات القرن السابع عشر في كتابه "سياحتنامه مصر" إنه لما كانت مصر أرض الجبارين، فقد غادرها يوسف إلى وادي الفيوم حيث الهواء المنعش والجو اللطيف، فسر بها واعتزم الإقامة فيها، وبنى المدينة في ألف يوم، فسميت الفيوم تصحيفاً من "الف يوم".
وذكر المؤرخ المصري ابن إياس (1448-1522) في كتابه "بدائع الزهور" أن يوسف بنى مدينة الفيوم، وقيل إنها بنيت بالوحي إليه على لسان جبريل، ثم عمرّها في مدة يسيرة، فلما تم بناؤها، ركب ونظر إليها الملك وصار يتعجب، فقال ليوسف هذا كان يعمل في ألف يوم فسميت بذلك الفيوم.
يستبعد عبد الصمد هذه الفرضية بقوله إن المصريين عرفوا تخزين الحبوب قبل مجيء يوسف إلى مصر بزمن طويل، إذ عثر على وثائق من عصر الأسرة الحادية عشرة تذكر أن مجاعة حدثت في مصر، وأن المصريين احتاطوا لذلك فبنوا مطامير لتخزين الحبوب في مدينة الفيوم، بلغ عددها 165 مخزناً يعود تاريخها إلى الألف الخامسة قبل الميلاد.
كما عثر في مكان آخر بالمدينة على مطامير أخرى يعود تاريخها إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وكانت هذه المطامير ذات سعة محدودة وتخص إنسان ما قبل التاريخ، وكانت سعة الواحدة منها لا تكفي سوى أسرة واحدة لبضعة أيام.
سقارة والهرم المدرج
يرى بعض المؤرخين والأثريين أن النبي يوسف عاش في منطقة سقارة، مستندين في ذلك إلى قصة المجاعة التي حدثت في أيامه.
قال عبد الصمد إن الملك بطليموس الخامس دشن نصباً حجرياً في جزيرة سهيل بالقرب من جزيرة إلفنتين في أسوان عام 187 ق.م، وعليه نقش يروى قصة مجاعة حدثت في عهد الملك زوسر مؤسس الأسرة الثالثة، عندما روى همومه من جراء تردي الأوضاع في مصر.
وربط البعض بين هذا النقش وهرم زوسر المدرج في سقارة واعتبروه بمثابة مخازن الغلال التي استخدمها يوسف، إذ يُشبّه مبنى الهرم المتعدد الدرجات بسلة القرابين اليومية التي ظهرت في الحياة اليومية في عصر الفراعنة، وكانت مصممة على شكل هرم وتوضع فيها القرابين من خبز وفاكهة، واستند الأثريون في رؤيتهم هذه إلى أن الهرم لم يكن قبراً، وأن عدد الغرف داخله بلغت عدة آلاف، وجميعها خصصت للتخزين.
ويشير نور إلى أن ما يدحض هذا الرأي هو أن الهرم المدرج عثر بداخله في وقت لاحق على تابوتين من المرمر، وآلاف الأواني الحجرية الخاصة بالدفن، وكذلك أربع حجرات مخصصة للدفن، وباقي الفراغات عبارة عن ممرات خصص معظمها لتخزين الأواني الجنائزية، كما أن علماء الآثار والحفارين الذين عملوا بالهرم لم يكتشفوا أي أثر لحبة قمح.
اجتهادات بلا قرائن
قال الدكتور محمد الكحلاوى أمين عام اتحاد الأثريين العرب لرصيف22 إن النبي يوسف كان يتنقل فى أرجاء مصر، لأن فرعون عيّنه حارساً على خزائن الأرض، ولا توجد نصوص تاريخية أو نقوش أثرية توضح أين كان يعيش بالضبط.
لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في أن هناك من يبحثون عن تاريخ أثري لموضوع غير أثري. قال الدكتور لؤي محمود سعيد أستاذ الآثار لرصيف22 إننا عرفنا النبي يوسف من الكتب المقدسة، لكن لا يوجد في علم الآثار ما يشير إلى شخص اسمه يوسف من الأساس، وبالتالي فإن البحث عنه يعد نوعاً من العبث.
هناك سبب آخر يرجح عدم وجود أي أثر للنبي يوسف في مصر. يوضح سعيد أنه وفقاً للكتب المقدسة، فقد كان إخوة يوسف غرباء على مصر، وجاءوا إليها من أجل لقمة العيش، وبالتالي كانوا مهمشين ولم تكن لهم قيمة تاريخية أو دينية تذكر عند المصريين في ذلك الوقت على نحو يدفعهم إلى تدوين سيرتهم أو ذكرهم بشكل قد تحفظه الآثار في ما بعد.
ويضيف: "قد يقول قائل إنه من الوارد أن يكون المصريون سجلوا سيرة يوسف وإخوته، ولكن ليس كل ما سُجل قد وصل إلينا، كما أن هناك أشياء قد سجلت ولم تكتشف حتى الآن، ومن ثم فالمحصلة النهائية هي عدم وجود قرائن أثرية أو تاريخية تشير من قريب أو بعيد للنبي يوسف".
وأشار إلى عدم وجود مطابقة بين الآثار والكتب المقدسة في ما يتعلق بالأنبياء والرسل في معظم الحالات. فالآثار لم تقدم معلومات وافية عن فرعون، ولا عن النبي موسى أو إبراهيم أو أي نبي آخر.
وقال إن قصص الأنبياء الواردة في الكتب السماوية قد تذكر أجزاءَ من تاريخ الأنبياء والرسل بهدف الوعظ والاعتبار، ولكنها لا تقدم دليلاً أثرياً أو علمياً على صحة ما ورد بها من أن نبياً ما كان يعيش هنا ويسافر إلى هناك.
واعتبر إن ربط الكتب السماوية بالآثار ومحاولة إثبات أمر ورد بها بشكل أثري وعلمي يهدد النص، وهذا ما اتجه إليه اليهود الذين أسسوا علم الآثار التوراتي لإثبات ما ورد بالتوراة أثرياً وإيجاد دلائل على شرعية اغتصابهم أرض فلسطين، إلا أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حتى أن أحد علماء الآثار اليهودية ويدعى زائيف هيرسوغ قال إن الحفائر التي أجريت بإسرائيل لا تثبت ما جاء في التوراة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...