حكمت محكمة الاستئناف بالقاهرة علي غيابياً بالسجن ثلاث سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة. أصبحت مطارداً. كان لا بد من الخروج بالاستعانة بسماسرة الهجرة.
نصحني صديقي بأن أتعامل معهم بحذر وألا أجادلهم في تعليمات التحرك أثناء الرحلة، وإلا تركوني بالصحراء.
رن هاتفي. رقم غير معروف. قال لي المتحدث: عليك التحرك الآن. حملت حقيبة خفيفة الوزن بها قليل من الملابس. كانت عقارب الساعة تقترب من السابعة صباحاً بتوقيت القاهرة.
انطلقت إلى محطة القطار، وأخذت تذكرة إلى أسوان (محافظة حدودية بجنوب مصر)، حاولت الاتصال بنفس الرقم لمزيد من المعلومات حول وجهتي بعد القطار، لكن دون جدوى.
زاد قلقي، وشغلت نفسي بمطالعة الجرائد متلافياً عيون رجال المباحث الذين يتجولون في القطار تفتيشاً واستفساراً وبحثاً عن مطاردين وهاربين من أحكام يقصدون المحافظات الحدودية مثلي.
كلمة السر
بعد ساعات قضيتها في القطار، جاءني اتصال آخر بـ"كلمة سر"، وأمرني بعدم الكلام مع أحد هاتفياً أو بشكل مباشر، إلا إذا بدأ بهذه الكلمة... تلاه اتصال آخر مبدوء بكلمة السر، وتعليمات بالنزول في إحدى المحطات النائية. وصلت إلى المكان بعد منتصف الليل ولم يكن على رصيف المحطة سواي. ازداد قلقي وبينما توشك بطارية هاتفي على النفاد، جاءني اتصال بالذهاب إلى محطة سيارات الأجرة وأخذ سيارة توصلني إلى مكان أخبروني به. قبيل الفجر وصلت للمكان، جاءوا بسيارتهم ملثمين. ركبت معهم وانطلقنا بالسيارة في طريق غير ممهد بالصحراء في رحلة استمرت من 16 إلى 25 مارس 2016. برغم الظلام ووعورة الطرق، لا يستخدم المهربون أنوار السيارة لكشف الطريق حتى لا يتتبعهم أحد فيعرف طرقهم وأماكن اختبائهم. أغلب المهربين على حدود مصر الجنوبية من قبيلتي "البشايرة والعببابدة". لديهم قدرات خارقة في الإحاطة الجغرافية بالمكان والسير في الصحراء الشاسعة بسرعة جنونية وبهذه الحرفية.الحدود ملتقى طرق المهاجرين
قطعنا مساحات شاسعة من الطرق الصحراوية تخللتها استراحات قليلة، مشاهد أقرب ما تكون إلى أفلام المغامرات. حتى أسماؤهم التي اخبرونا بها لم تكن حقيقية. مزيد من احتياطات الأمن والسلامة. أخبرني أحدهم أن مهمتهم هي توصيلي إلى السودان، وطالبني بألا أسعى إلى أكثر من ذلك. جلسنا في كوخ لا يرقى لأن يطلق عليه حتى اسم خيمة صحراوية. خلال خمسة أيام بلياليها، شاركت تفاصيل الحياة مع مجموعة المهربين وعشرين أفريقياً من أربع جنسيات هي التشادية والإريترية والصومالية والإثيوبية. تقاسمنا المأكل والمشرب وفرش النوم. كانوا في محطتهم الأخيرة لدخول مصر، وأنا في طريق الخروج منها. &feature=youtu.be التقينا في مرحلة "التخزين"، وهي مرحلة المكوث في نقطة آمنة خلال الطريق بانتظار تحسن الظروف. خلال هذه المرحلة يجري التأكد بأن الطريق آمنة لمواصلة الرحلة. كانت فترات الراحة فرصة لسماع الشهادات من المهاجرين والتعرف على تجاربهم عن قرب. الصحراء المصرية هي طريق الهجرة غير الشرعية إلى إسرائيل عبر سيناء أو إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. تحدثت مع مايكل ر.، شاب إريتري (32 عاماً)، أعزب، كان يدرس الطب البشري بجامعة اسمرة، أُجبر على ترك كليته للالتحاق بالجيش، ليكون ورفاقه وقوداً لحرب بلاده ضد إثيوبيا، على حد تعبيره. [caption id="attachment_95681" align="alignnone" width="700"] مايكل ر.[/caption] لم يستسلم هذا الشاب لسياسات من وصفه بـ"الديكتاتور المستبد" رئيس بلاده "اساسي افوركي" وقرر الهجرة إلى الشمال، إلى بلاد تحترم الإنسان وحقوقه وحرياته، على حد قوله. ولأنه لا يستطيع السفر بالشكل المعتاد لصعوبة الحصول على تأشيرة، عدا تعنت سلطات بلاده في السماح لشبابها بمغادرة البلاد، اختار الهجرة عبر طريق الموت. قال مايكل: "تنشط تجارة الهجرة غير الشرعية في إريتريا، مع ازدياد الاستبداد وإجبار الشباب على ترك دراستهم الجامعية والالتحاق بالجيش، فيدفع الواحد 6 آلاف دولار لكي يخرج من بلاده إلى مصر، وهناك من يستقر بها، لكن الأغلبية تواصل الرحلة إلى أوروبا، عبر مراكب الهجرة". حول المخاطرة برحلة أقرب إلى الموت يقول: "في بلادنا نموت ضحايا للديكتاتورية والاستبداد التي تجعلنا وقوداً لحرب لا نريدها، وإذا كان الموت مصيراً محتوماً إذا اخترنا البقاء، فلمَ لا نبحث عن الحياة في مكان آخر؟ فإن كان الطريق يمكن أن يقودنا إلى الموت أيضاً، إلا أن ذلك لا يمنع المحاولة". وأضاف مايكل: "استغرقت رحلتنا إلى الحدود المصرية قرابة عشرة أيام بين السير على الأقدام وركوب السيارات في أماكن وعرة بين الصخور والجبال وكُثبان الرمال، وعبرنا مناطق تبعد عن العمران آلاف الكيلومترات، حتى لا يتبعنا أحد. لدينا أصدقاء قضوا في الرحلة لقلة الطعام. سافر معنا فتيات وسيدات وأطفال. إنه طريق للموت من أجل الحياة، ندفن من مات في الطريق، ونستكمل الرحلة".الطعام والشراب
تحمل العربات المهاجرين وخزانات مياه وبنزين وبقوليات أشهرها العدس والفول. أما المشروب السائد فهو قهوة "الجابنة"، ويتم اعدادها بأوقات الراحة. تسخن حبات القهوة على الحطب لتصل إلى اللون البني الغامق أو "تتحمص" ثم يوضع عليها الماء، وتخلط بالزنجبيل وتقدم للمسافرين وهم يلتفون حولها في مجموعات. حول سر التمسك بهذا المشروب يقول أحد المهربين: "الجابنة تساعدنا على الانتباه أثناء القيادة، كما أنه مشروب يقي من ضربات الشمس ومشاكل المعدة أثناء السفر، مع طول ساعات القيادة ووعورة الطريق التي تواجه السائقين". تقوم السيدات المهاجرات بإعداد العدس والفول وتتقاسم الأعمال مع الرجال الذين يجمعون الحطب ويوقدون النار، ويعدون الجابنه.الموت في الطريق
مع السرعة الجنونية لسائقي السيارات من المهربين وبعضهم لا يتجاوز عمره العشرين عاماً في هذه الدروب الصعبة، يموت بعض المهاجرين نتيجة للحوادث وانقلاب السيارات. قبل أيام من وصولي انقلبت سيارة بمن فيها من المهاجرين نتيجة السرعة الزائدة واختلال توازن العجلات في الرمال والمناطق الجبلية. انقلبت العربة بالمهاجرين ومات بعضهم وتم دفنهم بالصحراء بدمائهم وملابسهم. كان لا بد من المغادرة السريعة حتى دون الصلاة عليهم، انشغل الجميع بحفر الأرض لتغطية الأجساد والتحرك بسرعة من المكان.حوار مع أحد المهربين
ب. ط.، أحد المهربين، تحدث عن سر تمسكه بمهنة صعبة كهذه، فقال: "إنها طريق جيد لكسب المال لكنها مليئة بالمخاطر، وأقرب الناس من عائلتي لا يعرفون عملي بالتهريب كاحتياط للسلامة لي ولأسرتي، فأنا رب أسرة وأريد أن يعيش أبنائي بسلام".وعن أنواع المهاجرين من مصر قال: "مع بداية ثورة يناير كان أغلب الفارين منها هم رجال الشرطة ومن يعملون بجهاز أمن الدولة، أما بعد الإطاحة بمرسي أصبح أغلب الهاربين من جماعة الإخوان ومعارضي النظام الذين يواجهون أحكاماً أو صدرت ضدهم إجراءات المنع من السفر". وبسؤاله عن حجم هذه التجارة وأعداد المهاجرين شهرياً من أفريقيا إلى مصر قال: "يعبر من الصحراء قرابة 5000 شخص شهرياً، توجد 50 مجموعة من المهربين تعمل على الحدود، كل واحدة منها تقوم بتهريب 100 شهرياً تقريباً". وأضاف: "بدأت أمواج الهجرة غير الشرعية عام 2000 من بلاد الصومال وإريتريا وإثيوبيا وتشاد وجيبوتي، إلى أوروبا عبر صحراء مصر والسودان، وازدادت أعداد هذه الموجات بعد عام 2005 نظراً لسوء الأوضاع السياسية بهذه البلاد". وفي ما يتعلق بوسائل التأمين التي يتبعها المهربون حتى لا يقبض عليهم، قال: "نستخدم هواتف تعمل عبر الأقمار الصناعية، ويساعد بعضنا بعضاً في استطلاع الطرق أثناء الرحلة، ونتواصل معاً عند الشعور بأي خطر، وذلك لتواجدنا في نقاط تمركز على طول الطريق". واستطرد: "هناك عشرات الطرق للتهريب وليست طريق واحدة، ونعرفها كلها جيداً، كما لدينا مهارات تقفي الأثر للسيارات التي تمر بالطرق، وخاصة سيارات الدفع الرباعي لحرس الحدود، فيمكننا معرفة ذلك بمجرد رؤية آثار عجلاتها في الرمال فنعرف متى مرت، وإذا كان هذا المرور من أيام أم أنه جديد، وبالتالي نغير الطريق بشكل مستمر". &feature=youtu.beتعرفوا على الجابنة، القهوة التي يشربها المهاجرون غير الشرعيين، وعلى أساليب المهربين للإفلات من حرس الحدود
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين