"تركيا، للأسف، عاشت انقلاباً على الحرف العربي بعد إعلان الجمهورية، مثلما عاشت انقلاباً على اللغة والثقافة. وهذان الانقلابان أدّيا إلى ضياع القيم الإسلامية". بهذه العبارة وصف مواطن تركي حال بلاده عقب الابتعاد عن اللغة العربية.
ولكن منذ عام 2010، تسعى تركيا ومختلف أجهزتها الحكومية إلى إحياء اللغة العربية وعودة "الجنين العربي" الذي كاد أن يُشرف على الموت داخل الثقافة التركية خلال العقود الماضية، عبر تشجيع المواطنين على تعلم هذه اللغة وتحفيزهم للتعرف على تاريخ أجدادهم، فضلاً عن توفير الآليات الرسمية لتسهيل تعلم العربية في المدارس والجامعات.
جهود حكومية
تمثلت البداية في موافقة مجلس الوزراء في أبريل 2010 على مقترح تقدمت به وزارة التعليم بشأن جعل اللغة العربية مادة اختيارية في المرحلة الثانوية، وصدر القرار بالصحيفة الرسمية على نحو جعل اللغة العربية مادة اختيارية تاسعة، بالإضافة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والصينية والإسبانية واليابانية والروسية. وعُزي القرار إلى تقدم العلاقات مع دول الجوار العربية. وفي يونيو 2013 أصدرت المديرية العامة للتعليم الأساسي التابعة لوزارة التعليم التركية قراراً رقمه (1325231) بشأن المواد الاختيارية الواجب تدريسها أسبوعياً لطلاب المراحل الدراسية الأساسية والوسطى (الابتدائية والإعدادية) والمتضمنة اللغة العربية، وتم تطبيق القرار على طلاب الصفين الخامس والسادس اعتباراً من العام الدراسي 2013-2014. وقررت المديرية العامة للتعليم تدريس اللغة العربية بدءاً من الصف الثاني الابتدائي بداية من العام الدراسي 2016-2017، لتصبح دراسة اللغة العربية بتركيا بدءاً من الصف الثاني حتى الثامن. واستمراراً لجهود مؤسسات الدولة لتعليم اللغة العربية، قررت هيئة الشؤون الدينية في يوليو الماضي، تدريس اللغة العربية في المدارس الصيفية ودور "الروضة" للأطفال ما بين سن الثالثة والحادية عشرة. وفي يناير الماضي، أصدر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تعليماته لأجهزة الدولة للتحرك لإنشاء جامعات معنية بتدريس اللغة العربية، كما طالب جامعات في إسطنبول تدرّس هذه اللغة بزيادة الاهتمام بها.رسائل أردوغان
"ليس هناك أمة في العالم لا تستطع قراءة وكتابة تاريخها وحضارتها. ليس هناك أمة في العالم لا يمكنها قراءة شواهد قبور أجدادها"، كانت هذه كلمة أردوغان في ديسمبر 2014 خلال مشاركته في فعالية بأحد المراكز الثقافية، مستنكراً تراجع الاهتمام بالحرف العربي والقدرة على قراءة وكتابة اللغة العربية والعثمانية. واعتمدت رئاسة الجمهورية في أبريل 2016 صفحة رسمية لرئيس الجمهورية أردوغان، على فيسبوك، باللغة العربية. كما تم إطلاق حساب رسمي له على تويتر باللغة العربية. ولأردوغان مجموعة من العبارات باللغة العربية أطلقها في عدد من خطاباته داخل تركيا وخارجها، خاصة خلال جولاته في بعض الدول العربية، في إشارة منه إلى أهمية اللغة العربية، فضلاً عن استخدامها أداةً للتقرب إلى الشعوب العربية.آلاف الكلمات العربية
تكشف البيانات الاستقصائية مدى التداخل والاندماج بين اللغتين العربية والتركية، إذ إن بيانات الإنفوغرافيك الذي أعده موقع "تركيا بوست" بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية توضح أن اللغة التركية تحتوي على 6467 كلمة ذات أصل عربي، وأن نسبة الكلمات العربية المستخدمة في اللغة التركية تتجاوز الثلاثين في المئة. وتنتشر اللغة العربية بين الأتراك في مدن هطاي وسيرت وغازي عنتاب وديار بكر وباتمان وموش وبتليس ومرسين وآضنه وشانلي أورفا. كما تفيد البيانات بأن أكثر من 13 جامعة تهتم بتدريس اللغة العربية. وافتتحت بعض الجامعات الخاصة أقساماً لتدريس ومناقشة الرسائل العلمية الخاصة باللغة العربية.دور اللاجئين
وفقاً للبيانات الصادرة عن المديرية العامة للاجئين التابعة لوزارة الداخلية التركية في فبراير 2017، فإن عدد اللاجئين السوريين في تركيا بلغ نحو مليونين و896 ألف لاجئ موزعين في مدن ومحافظات تركيا. في السياق نفسه، أضافت "بلدية إسطنبول" اللغة العربية إلى اللوحات المرورية ولافتات الطرق، لتصبح اللغة الثالثة بجانب التركية والإنجليزية، وذلك بعد فترة من إدراج اللغة العربية في شاشات المعلومات في خطوط النقل الداخلي ببعض مناطق المدينة، مراعاة لتزايد أعداد العرب المقيمين ومعظمهم من اللاجئين السوريين. وقرر مجلس التعليم العالي التركي، في إطار استيعاب اللاجئين السوريين داخل المجتمع التركي، فتح أقسام للدراسة باللغة العربية، والتغاضي عن شرط الدراسة باللغة التركية، في 8 جامعات تركية في مناطق تمركز اللاجئين بجنوب وشرق البلاد. كذلك عقد أردوغان خلال جولته الخليجية الأخيرة منتصف فبراير الماضي، اتفاقاً مع أمير قطر، بشأن إنشاء جامعة جديدة في تركيا تختص بتدريس اللغة العربية، وتهدف إلى استيعاب اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، وتوفير آلية لتأهيلهم تعليمياً.تعريب تركيا
اختلفت الآراء حول أسباب ودوافع حرص حكومة "العدالة والتنمية" على الاهتمام المتزايد باللغة العربية داخل المجتمع التركي خلال السنوات الأخيرة، إذ عزتها بعض الآراء لمصالح شخصية تصب في مصلحة أردوغان وحكومته لكسب شعبية اللاجئين والمتشددين، بينما يرى فريق آخر أنها لأسباب حضارية ودينية واجبة لإحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية. يقول البرلماني السابق والمحلل السياسي إبراهيم أوزدوغان، إن "(تعريب تركيا) من أهم أهداف أردوغان، زاعماً أن ذلك بهدف مرضاة الله، وأداته في ذلك اللغة العربية، إذ تم توظيف مدارس إمام خطيب، التي تعد مصدر التعليم الديني الرسمي بتركيا، لتحقيق هذا الهدف، فأجبرت هذه المدارس الطلاب والمعلمين على التحدث بالعربية بدلاً من التركية داخلها، ومدارس أخرى استبدلت دروس الإنجليزية بالعربية في مختلف المراحل الدراسية". وأفاد تربويون أتراك أن الحكومة التركية تهدف من وراء إدراج اللغة العربية في مناهجها الدراسية ليس فقط إلى تعلم العربية، بل أيضاً اللغة العثمانية التي تعتمد الحرف والرسم العربيين. وحول دوافع الدولة للتوجه نحو الاهتمام باللغة العربية، تضمن الموقع الرسمي لوزارة الخارجية التركية كلمة لوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، مؤكداً أن تركيا تقع وسط منطقة تتحدث العربية والفارسية، وقال: "جميع دول الشرق الأوسط تتحدث العربية، ولدينا العديد من السفارات والقنصليات في هذه المنطقة. ولكن كم شخصاً لدينا يتحدث باللغة العربية؟ كم دبلوماسياً لدينا يتحدث العربية؟". وأضاف جاويش أوغلو: "لدينا 40 دبلوماسياً فقط يتحدث العربية، ونأمل زيادة هذا العدد عبر إرسال بعثات إلى الخارج أو عبر الاهتمام بدراسة العربية في تركيا، مما يساعد على إزالة أية خلافات مع الدول العربية والشرق أوسطية، قد تنجم عن اختلاف اللغة". ويؤكد الكاتب والشاعر التركي أحمد يوزجات، أن "عوامل تغيير العصر وضرورة فهم المسلم وقراءة القرآن والتعرف على تاريخ حضارتنا، كانت من أهم دوافع الاهتمام بإحياء اللغة العربية في تركيا".مستقبل "العربية"
وحول مستقبل اللغة العربية في تركيا، قال يوزجات لرصيف22: "أتوقع أن يتجاوز مستقبل اللغة العربية آفاق الحضارات، وإذا كنا نترقب سقوط الحضارة الغربية وأن تكون تركيا محرك للحضارات من جديد، فلن يكون ذلك دون التمسك بالإسلام وبلغته العربية التي ستحل بديلاً عن الإنجليزية، فإمبراطوريتنا العثمانية في الأساس بُنيت على الحضارة العربية والفارسية". وأضاف يوزجات أن جهود الحكومة التركية لإحياء اللغة العربية تهدف إلى "ولادة جيل جديد مدرك وعاشق لتاريخه وحضارته العثمانية، وكذلك ملمّ باللغة العثمانية التي ذابت منذ القدم في العربية. فعلى أبنائنا الإلمام باللغة العربية والحرف العربي حتى يتسنى لهم تعلم العثمانية".أسباب ودوافع
وحول أسباب ودوافع تركيا لإحياء اللغة العربية وتزايد الاهتمام بتدريسها بمختلف المراحل التعليمية، أكد الأكاديمي التركي محمد حقي صوتشين، بروفيسور اللغة العربية بجامعة "غازي" التركية، لرصيف22 أن الأمر يعزى إلى دوافع أمنية واقتصادية وثقافية بغية تعزيز الدور التركي في العالم العربي. والدوافع الاقتصادية التي يقصدها هي "الرغبة في تشجيع المستثمرين العرب وجذب استثمارات الخليج إلى تركيا، وتعزيز العلاقات مع الدول المصدرة للطاقة في الشرق الأوسط، والاستحواذ على حصة كبيرة من إيرادات السياحة العربية في المنطقة، فضلاً عن الرغبة في مشاركة قطاع التشييد التركي في عملية إعادة الإعمار بالدول المتضررة من الحروب الأهلية ودمار تنظيم داعش". أما عن الدوافع الأمنية، فقال صوتشين: "في ظل تصاعد حدة مشكلات الإرهاب والهجرة واللاجئين، تزايدت أهمية الإلمام باللغة العربية لدى الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، خاصة مع تفاقم الحروب الداخلية لدى دول الجوار سوريا والعراق". وأشار أيضاً إلى دوافع ثقافية، قائلاً: "يكمن الأمر في رغبة تركيا التي يحكمها كادر ذو مرجعية إسلامية في تطوير اللغة العربية كرمز ثقافي للدولة، بما يمكنها من تعزيز العلاقات مع الشعوب والمؤسسات المعنية في الدول العربية، وبالتالي زيادة التأثير التركي في العالم العربي".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...