بقدر ما يكثر المجاملون أو "مسّيحو الجوخ" حولنا، بقدر ما تكثر مسمياتهم في الشارع العربي. فيقال عن واحدهم: "مبيض طناجر" و"ملوفك"، و"هزيز دنب"، و"مرائي"، و"منافق"، و"لاعق أحذية" و"متزلف".
تقترن غالباً شخصية المجامل بصفات موازية، فيقال عنه أيضاً "السحيب" و"الحربوق" و"البندوق" و"الفنيص"، و"الانتهازي" و"الوصولي"، و"المصلحجي".
تدل كل تلك الصفات على الشخص "المتملق"، الذي يقوم بالمديح الزائف والرياء والنفاق والتزلف وتقبيل الأيادي، ويقبل التذلل والخضوع لأصحاب المال والسلطة، وكل من له مصلحة معهم، بهدف التسلق وتحقيق مكتسبات لا يستحقها. وتجده في أي خلاف أو صراع مع الطرف الأقوى.
هو ذلك الشخص الذي يقفز من مكانه سريعاً ليلبي طلب المدير، بكأس ماء أو شيء آخر، خلال اجتماع عمل. وهو الذي يضحك بصوت عالٍ حين يلقي المدير بفكاهة غير مضحكة.
فمن ينسى عضو مجلس الشعب السوري، الذي وقف في مكانه، ونادى بأعلى صوته: "الوطن العربي قليل عليك يا سيادة الرئيس، أنت لازم تقود العالم".
وهو الذي، بينما تقضي ليلك ونهارك في العمل، وفي إعداد خطط أو متابعة تنفيذ مشروع للحصول على مكافأة أو ترقية، ينافسك من دون أي جهد، وفي كثير من الأحيان يحظى بالترقية قبلك.
أقوال
لا يمكن إنكار أن الكثير من الأقوال الشعبية تدعم هذه التصرفات، فيقال في سوريا: "تمسكن لتتمكن" و"يلي بيعرف يمسح جوخ أحسن من يلي بأيدو صنعة"، و"بوس الأيادي لتضحك عاللحى"، و "تملق لتتسلق". ويقال في الأردن: "هز الذنب هز اذا حابب تعيش بعز، وظل احلم بالمدير لما تشوفه فز، ما يفوتك يوم دون ما تبوس الراس، وهز الذنب لازم يكون طبع ومراس، فكر بكلامي إذا بدك تصير كبير، والوصول سهل حتى لمنصب الوزير". فهل حقاً من سار بـ"هز الذنب" وصل؟في الواقع الافتراضي أيضاً
يمكن لمسّيح الجوخ أن ينظم قصيدة في تعليق، وهو غالباً أول معلق لمن يتملق له، وأول مشارك لمنشوراته وإن كانت شخصية. لا ينكر حمزة، الطالب الجامعي في كلية الهندسة المعلوماتية في الأردن، أنه يتملق عدداً من أساتذته الجامعيين، ممن يصعب إرضاؤهم. ويقول: "فيسبوك وسيلة سهلة للتقرب من الأستاذ والتواصل معه، وكما يحب الأستاذ المغرور أن يجد من يوافقه في الواقع، ينقل هذا الغرور إلى الواقع الافتراضي". ويضيف: "قمت بنشر صورة معه، وأتفاعل مع جميع منشوراته، وأثني عليها، ولدي إشعارات خاصة تعلمني بكل ما ينشره. لدي حيلي أيضاً أحياناً، فأنشر منشورات تحتوي على رسائل مبطنة توحي له بأنه مثل أعلى لي، ولا أشاركها إلا معه ومع بعض أصدقائي الذين يعلمون بالأمر مسبقاً. العام الماضي حصلت على علامات شبه كاملة في القسم العملي من مواده ولم يتطلب الأمر الكثير. لست وحدي من يفعل هذا، لكن عدم جود العدل يفرض علينا هذا الأمر".أما علاء محي الدين (29 عاماً)، محاسب، فيرى أن شخصية المتملق على وسائل التواصل مكشوفة جداً ومكروهة. ويوضح: "مسّيحو الجوخ متذبذبين، ليس لهم مبدأ، يتفقون مع كل من لهم عنده مصلحة. ومن خلال فيسبوك لاحظت أن واحداً من أصدقائي مسّيح جوخ من الدرجة الأولى، فهو يتملق الأطراف المختلفة لتحقيق مصلحته، أراه يثني على المؤيد وعلى المعارض، والقومي وذي النزعة الانفصالية، والإسلامي والشيوعي. يظن أن هذه شطارة وذكاء، لكنه سقط من عيني ولم أعد آمن طرفه".
كوميديا تمسيح الجوخ
لطالما كان "مسّيحو الجوخ" موضوعاً خصباً لثرثرة زملائهم عليهم، حيناً بسبب الغيرة والغضب مما يحققونه، وأحياناً أخرى بسبب المواقف الفكاهية التي يضعون أنفسهم فيها أمام المديرين. لذا تناولتهم العديد من الأعمال الدارمية والكوميدية، منها المسلسل السوري الشهير "ضيعة ضايعة"، فيقول واحد من شخصيات المسلسل، جودة: "طول عمرنا متعلمين عتمسيح الجوخ، صرنا معلمين بتمسيح الجوخ، خبرة، لكننا ما منعرف كيف الواحد بدو يعبر عن رأيه".
أما الكوميدي أحمد مساد، فتناول ساخراً شخصية المتملق، ورأى أن السر في حصوله على رضا مديريه، يكمن في أن المدير كان مثله.
مهارات مسّيح الجوخ
تتعدى المهارات التي يتمتع بها المتملقُ كالدبلوماسيةَ واللباقة في التعامل، فيتطلب الموضوع لساناً حذقاً، قادراً على التفوه بما فوق الحقيقة أو المتوقع، وعقلاً قادراً على نسج المبالغات. عادةً، يقوم المتملق بأدوار خارجة عن المهمات التي يقوم بها زملاؤه، ويوظف مهاراته بالتمثيل في التعامل مع الغير، الذي يحتاج وفق عقليته إلى لبس وجوه متعددة، لكن، قبل ذلك، يتطلب التملق استعداداً تاماً لهدر الكبرياء والكرامة. يبتلع المتملق عادةً كبرياءه، حين توجه إليه إهانة من قبل من يتملق له، الذي بدوره يعرف جيداً أن من هو أمامه على استعداد لتحمل أي شيء ليظل راضياً عنه. يروي جميل، وهو مهندس سوري: "أحد زملائي المتملقين كان يرضى أن يحمل حقيبة المدير معظم الأوقات، يفتح له الباب وباب السيارة، يقضي معظم وقت الدوام بقربه كأنه ظله، ولا يقوم بأي من مهماته الإدارية الحقيقية، حتى أنه يذهب لشراء وجبة طعام له. في أحد الأيام، أهانه المدير أمامنا، لأنه اشترى له وجبة غير تلك التي طلبها منه، ووصفه بالحيوان. المفاجئ أنه لم يرد بأي كلمة، وكل ما فعله هو خفض رأسه، وتحمل الإهانة، ثم التعامل مع المدير، كأن شيئاً لم يحدث. لكنه في النهاية، تلقى ترفيعاً على مثابرته في لعق الحذاء". ويضيف: "أما ما فعلته أنا فقد قبلت بأول عرض عمل تلقيته بعد هذه الحادثة".سرقة الأفكار
يمتلك مسّيحو الجوخ قدرة عالية على سرقة أفكار غيرهم، لإيهام المديرين بمساهمتهم بتطوير الشركة. وهو ما يعاني منه حسام، المبرمج في إحدى شركات تطوير المواقع في دبي. يقول: "بدأ أحد الزملاء بالتقرب مني بشكل مفاجئ، وصار يبدي لي إعجابه بأفكاري بالعمل. في أحد الاجتماعات كنا نقدم اقتراحاتنا للمدير، ففوجئت بأن المدير لم يعر انتباهاً لأفكاري ورد علي في إحدى المرات: شكراً لك لقد قدم إلينا أحد الزملاء الاقتراح نفسه، مع أن الأمر لم يحدث أمامي. خلال شهرين بدأوا بتنفيذ فكرة المشروع وعيّنوا هذا الزميل مديراً له، وأنا أحد أعضاء الفريق، علمت حينها أنه هو من سرق الفكرة". ويضيف: "لم نفكر يوماً أنه قد يكون منافساً لنا، لكنه صار مديرنا، وأي فكرة لدينا اليوم يجب تمر من خلاله للإدارة، لطالما كان هذا الشخص منافساً خفياً لم نشعر به، كل ما كان يقوم به هو التملق للمدير، يشتري له لوزام مكتبه، يصلح حاسوبه، يرافقه إلى السيارة، في الوقت الذي كنا نحن نركز على عملنا".لماذا يحبه المدير؟
صحيح أن المديرين يسعون إلى تطوير العمل وتحسينه، لكنهم يحتاجون أولاً للحفاظ على مناصبهم وسلطاتهم. وهو ما يوضحه عبد الغني، الحائز درجة ماجستير في إدارة الأعمال. فيقول: "أحد أبرز الأساليب التي يتبعها المديرون لاكتساب السلطة والمحافظة عليها في شركاتهم، هي أن يحيطوا أنفسهم بمجموعة مختارة من الموالين، ليكونوا تحت تصرفهم التام في أصعب الأوقات. المتملقون في الشركة هم أقدر من غيرهم على إقناع المدير بولائهم، حتى إن لم تكن كفاءاتهم بالقدر المطلوب لتسلم المنصب، لكنهم في المقابل لا يشكلون منافساً قوياً للمدير مستقبلاً، ويسهّلون وصوله إلى منصب أعلى وهكذا". ويضيف: "لطالما شكلت هذه النوعية من الموظفين خطراً على الكفاءات الحقيقية في أي شركة، لذا ليس كافياً لأي موظف إظهار كفاءاته أو مواهبه إنما عليه أن يتمتع بالذكاء لإداراتها والتعامل مع البيئة المحيطة به. لهذه الظاهرة أثر سلبي بشكل عام إذ تضع غير الكفوئين في موضع اتخاذ القرار"."مسّيح" منذ صغره
يبدو أن "هز الذنب" وفقاً للتعبير الأردني على ارتباط وثيق بهز الرأس. تؤكد جمانة ديبو، أستاذة التربية وعلم النفس، أن جزءاً كبيراً من عادة التملق يعود إلى التربية، وغالباً ما تزداد هذه العادة عند الأطفال الذين يكون آباؤهم شديدي التصلب في آرائهم، فيعتاد الطفل منذ سنواته الأولى الكذب لإرضائهم، بعد أن يدركوا أن لا مجال للحوار معهم. والتملق مرتبط ببعض العادات التي يلقنها الأهل لأطفالهم، كعدم الاعتراض وهز الرأس بالإيجاب على كل ما قد يتفوه به الأب أوالأم. تختم ديبو: "نرى كثيراً من الأمهات اللواتي يقلن لأطفالهن مثلاً: قل لجدتك إنك تحبها، إذهب وقبّل خالك، قبّل يد جدك ليعطيك المال... من خلال ذلك، نوصل رسالة مبكرة للطفل، مختصرها أن بإمكانه المتاجرة بمشاعره، واستخدامها لتحقيق مكسب، في حين يمكن أن نصححها ببساطة، ونقول إن جدتك تحبك ومشتاقة إليك، إن كنت تحبها أيضاً اِذهب وقبّلها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...