شبرا ليس حياً كبقية الأحياء المتعارف عليها في القاهرة. إنه "كوزمبليت" Cosmopolite يحوي مجموعات عرقية متباينة. أتى أصحابها في فترات زمنية مختلفة من الشاطئ الآخر للبحر المتوسط، ومن دلتا مصر وصعيدها، ليخلقوا عالماً جديداً، انصهرت فيه ثقافاتهم المتباينة، وتبلورت في هذا الحي العريق.
أصل التسمية
في كتابه "أحياء القاهرة المحروسة"، قال عباس الطرابيلي إن شبرا كانت في الأصل جزيرة وسط النيل، تسمى الفيل، وبفعل إطماء النيل، اتصلت بالأراضي المحيطة بها، لتصبح أرض شبرا وروض الفرج. كلمة شبرا ترجع إلى اللغة المصرية القديمة، وانتقلت إلى اللغة القبطية، وأصلها "جوبرو"، ومعناها الكوم أو التل. ثم حرفت إلى "شبرو"، ووردت في كتاب "أحسن التقاسيم" للمقدسي، وفي "نزهة المشتاق" للإدريسي باسم "شبره"، بحسب ما ذكر الطرابيلي.الجاليات الأجنبية
في فترة زمنية قصيرة، مرت شبرا بتقلبات مذهلة، لم يحظ بها غيرها من أحياء القاهرة الكبرى. وروى حمدي أبو جليل في كتابه "القاهرة شوارع وحكايات"، أن الحي تحول فجأة من قرية صغيرة ومهملة وعشوائية، إلى رئة خضراء وحدائق للقاهرة الأوروبية، التي بناها الخديوي إسماعيل، ومنتجع ريفي متسع ومنعش لأمراء الأسرة المالكة، التي ما زالت شرفات قصورها تطل على شوارعه وحاراته حتى الآن. وإن كانت قد تخلت عن طابعها الملكي، وتحولت إلى مدارس ومنشآت حكومية، بعد ثورة يوليو 1952. سكنت الحي الجالية الشامية، بما فيها من تجار وحرفيين ومبشرين كاثوليك، بجوار الجاليات الأوروبية، التي كان معظم أفرادها من فقراء شرق ووسط أوروبا، الذين هاجروا إلى مصر بحثاً عن فرصة عمل. فكانت مصر بفضل مشروعات محمد علي، قبلة لراغبي العمل من كافة أنحاء أوروبا، وكان منهم عمال مهرة من الإيطاليين واليونانيين والقبارصة. حسن إسماعيل الباحث التاريخي، وأحد أبناء الحي، قال لرصيف22 إن أبناء الجاليات الأجنبية، كانوا يعملون في مهن معينة مثل البقالة ومحال بيع الخمور، والملاهي الليلية، وبعضهم كان يعمل "غرسونات" في المطاعم، أو سفرجية في القصور. من بين الأجانب الذين سكنوا الحي، كان "آرتين"، الذي أسس مصنعاً لـ"الكازوزة" (مشروب مياه غازية)، بأنواعها المختلفة، مثل سباتس وزوتس، ولاقت رواجاً كبيراً بين المصريين لعقود طويلة. ماجد الراهب، رئيس جمعية المحافظة على التراث المصري، التي تتخذ من شبرا مقراً لها، فسر لرصيف22 الكثافة السكانية العالية للمسيحيين بالحي. وأوضح أنه عندما قرر محمد علي، تعمير المنطقة بعد بنائه لقصره، هداه تفكيره إلى شق ترام فى شارع شبرا، الذي كان بمثابة منطقة مهجورة تحيط بها الحقول. واستعان في ذلك بشركات أجنبية استقدمت عمالة مسيحية من صعيد مصر، وبعد الانتهاء من شق الترام رفضت هذه العمالة العودة واستوطنت في الحي.شارعا فيكتوريا وأحمد حلمي
كل شبر في شبرا يحمل تاريخاً معيناً. أوضح أبو جليل أن شارع فيكتوريا الذي يقع في قلب شبرا، يعود اسمه إلى ملكة إنجلترا، التي جاءت إلى مصر وأصرت على زيارة الحي، للاطمئنان على أحوال الجالية الأوروبية التي كانت تستوطنه. شارع أحمد حلمي سمي على اسم الصحافي الشهير والشخصية الثانية في صحيفة "اللواء"، بعد الزعيم الراحل مصطفى كامل، وهو مؤسس جريدة "القطر المصري"، وأول من اتُهم بالعيب في الذات الملكية، وهو جد الشاعر الأشهر صلاح جاهين.شبرا حيث ولدت داليدا، وعاش البابا شنودة... حي شهد تنوعاً فريداً من نوعه في القاهرة
شبرا ليس حياً كبقية الأحياء المتعارف عليها في القاهرة...إطلاق اسمه على الشارع، أرجعه أبو جليل إلى سببين، أحدهما سياسي يتعلق بتاريخه الوطني الحافل، والثاني أسري وجغرافي، فكانت أسرته من أهم عائلات شبرا، وكانت تمتلك قصراً بالشارع بالقرب منه، كان قصر الزعيم محمد فريد الذي كان من أشهر سكان الحي. كان الحي أيضاً معقلاً لأهم معسكرات الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت مهمتها حماية مداخل القاهرة. ورحلت القوات الإنجليزية نهائياً عن الحي والقاهرة كلها، واستوطنت قناة السويس، بعد معاهدة 1936، قال أبو جليل.
في المنزل رقم 11 في شارع خمارويه، المتفرع من شارع شبرا، ولدت يولاند كريستينا جيجليوتي في 17 يناير عام 1933، التي لقبت بعد ذلك بداليدا، من أبوين إيطاليي الأصل مولودين في مصر. وذكر الدكتور محمد عفيفي في كتابه "شبرا... إسكندرية صغيرة في القاهرة"، أن ولادة داليدا في هذا المنزل لم تكن مصادفة، بل تعبيراً عن الوجود الإيطالي في هذا الحي. يقع المنزل على بعد مئة متر من كنيسة سانت تريزا الكاثوليكية، التي كانت من أهم الكنائس المفضلة للجالية الإيطالية في القاهرة، ويبعد نحو 200 متر من المدرسة الإيطالية الشهيرة، التي تحولت أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مدرسة فيكتوريا. وفي تلك الأثناء، أي نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الشباب الإيطالي "الفاشيست"، يقوم باستعراضات على طول شارع شبرا، وكأنه أحد شوارع روما، تعبيراً عن ولائه لموسوليني آنذاك. فازت داليدا بلقب ملكة جمال مصر عام 1954، ولم يقل أحد يومها إنها غير مصرية، وفي العام نفسه شاركت في فيلم "سيجارة وكاس"، وبعده رحلت إلى فرنسا لتنطلق إلى العالمية. داليدا بنت شبرا
السينما في شبرا
عرفت شبرا مبكراً فن السينما على أيدي الأجانب، تحديداً عام 1910، عبر ما يسمى بـ"غران سينماتوغراف". وعام 1915، عرف الأهالي سينماتوغراف شانتكلير لأول مرة. العقار 104 شارع ساحل سليم في منطقة روض الفرج، كان شاهداً عام 1937، على إنشاء استوديو سينمائي كبير، شيده المخرج كوستانوف. في هذا الاستوديو تم تصوير فيلم جحا وأبو نواس في القرن العشرين، كما روى عفيفي. وذكر عفيفي أن حي شبرا أنجب كثيراً من رواد الفن السينمائي في مصر، مثل المخرج هنري بركات، الذي ينتمي إلى أسرة شامية، هاجرت إلى مصر عام 1860، إبان الحوادث الطائفية التي شهدتها بلاد الشام بين أتباع المذاهب والديانات المختلفة، التي على أثرها هاجر الكثيرون من الشوام إلى مصر. أخرج بركات عدداً من كلاسيكيات السينما المصرية، مثل دعاء الكروان وفي بيتنا رجل، والباب المفتوح. وشاركت أفلامه في مهرجانات عالمية وحصلت على جوائز عديدة. وعلى مسارح روض الفرج، قام علي الكسار وفرقته التمثيلية على مسرح روض الفرج، ومن الحي نفسه خرجت أمينة رزق وحسين رياض وفاخر فاخر، وبعد ذلك نبيلة عبيد وسعاد نصر. علاقة شبرا بالسينما ظهرت بوضوح في انتشار عدد كبير من دور العرض في شوارعها، مثل سينما شبرا بالاس، والأمير، وبلازا، حيث الحفلات الصباحية. وسينما روي، التي كانت تعرض الأفلام الأجنبية، وفريال، والنزهة.تنظيم سري
أثناء سيرك في شارع شبرا الرئيسي، سيستوقفك المنزل رقم 56، الذي شهد تشكيل تنظيم شبابي سري، في الفترة التي صاحبت الحرب العالمية الثانية، عبر مجموعة من الشباب، أطلقت على نفسها جبهة الأحرار الديمقراطيين، واتخذت من هذا المنزل مقراً لاجتماعاتها. كانت تهدف إلى تغيير الأوضاع السيئة التي كانت تشهدها مصر في ذلك الوقت، وتحريرها من المغتصبين المصريين والأجانب، روى عفيفي. وأوضح أن الجبهة ضمت طلاباً من مختلف التوجهات الفكرية، وبعض صغار التجار، والعمال من ذوي الاهتمامات النقابية، وعقدت حوارات مع الماركسيين والإخوان المسلمين، وتواصلت مع بعض المجموعات الوطنية في الجيش المصري، مثل مجموعة الضابط عبد القادر طه، وهو من شبرا أيضاً. كان متأثراً بالفريق عزيز باشا المصري، وأصبح بعد ذلك أحد رموز الضباط الأحرار في ثورة يوليو 1952.مدارس شبرا
خرجت من مدارس شبرا صفوة أهل الفكر والفن في مصر، وربما يرجع ذلك إلى طبيعة أبناء المهاجرين الجدد إلى المدينة آنذاك، وإحساسهم بأهمية التعليم، كوسيلة للترقي الاجتماعي، والاستقرار في المدينة، وعدم العودة إلى الريف من جديد.المدرسة التوفيقية
كانت ولا تزال أكبر وأهم مدرسة في شبرا. ذكر عفيفي أن تاريخها يعود إلى عام 1858، عندما أنشأ سعيد باشا حاكم مصر قصراً جديداً له في الحي، سمي "قصر النزهة". ثم آل إلى الخديوي إسماعيل، الذي استعمله كدار للضيافة الخديوية. وعندما تولى الخديوي توفيق الحكم أمر بنقل مدرسة المعلمين، من درب الجنينة إلى قصر، الذي تحول في ما بعد إلى مدرسة ثانوية، أطلق عليها اسم الخديوي توفيق. كانت التوفيقية شرارة لانطلاق تظاهرات الطلبة ضد الاحتلال الإنجليزي، لا سيما أثناء انتفاضة عام 1935، ومطالبة الشباب بعودة دستور 1923، الذي ألغاه إسماعيل باشا عام 1930. فخرج الطلاب في الشوارع، يهتفون "يسقط هور ابن التور"، في إشارة إلى صمويل هور، وزير الخارجية البريطاني، الذي أدلى بتصريح قال فيه إن دستور 1923 يجب ألا يعود، بحسب ما قال عفيفي. تخرج من هذه المدرسة عدد من نوابغ الفكر والطب في ذلك الوقت، منهم الطبيب الشهير الدكتور نجيب محفوظ، الذي تسمى أديب نوبل نجيب محفوظ على اسمه تيمناً به، لأنه هو الذي تمت على يديه ولادة الأديب الشهير، فأطلق أبوه عليه اسماً مركباً تقديراً للطبيب النابغ.مدرسة شبرا الثانوية
هي المدرسة الثانية في الأهمية في شبرا. اشتهر طلابها بالانخراط في العمل السياسي، وانتهاج العنف عند قيام التظاهرات. كان من بين طلاب المدرسة عدد من اليهود، أحدهم يدعى شالوم داوود يوسف، الذي كتب في مجلة المدرسة طرفة عن أحد قضاة محاكم الأخطاط (محاكم كانت تُنشأ للبت في الخلافات العقارية وبعض الخلافات حول قضايا الملكية)، وكيف كان يحرك عمامته إلى ظاهر رأسه، إذا أراد الحكم بالبراءة، دون أن يتهمه شالوم بالتجرؤ على مقام قاضي شرعي وهو الطالب اليهودي، روى عفيفي. وكان من طلاب هذه المدرسة الروائي والسياسي الشهير يوسف السباعي، الذي نشر في مجلة المدرسة أول قصة كتبها في حياته، وهناك أيضاً القانوني الراحل يحيى الجمل، والمؤرخ الراحل رؤوف عباس.القس الذي خطب من منبر الأزهر
في نهاية فيلم "بين القصرين"، يعرض المخرج بعض المشاهد عن ثورة 1919، من بينها مشهد قس يعتلي منبر مسجد الأزهر خطيباً ورمزاً للوحدة الوطنية. قال الراهب إن هذا القس هو سرجيوس، الذي ولد في الصعيد، وعاش في شارع البعثة في شبرا، وخدم في كنيسة الملاك طوسون وناهض الاحتلال الإنجليزي، وخطب أثناء الثورة من منبر الأزهر. ثورية سرجيوس لم تكن سياسية فقط، فصدمت آراؤه الكنسية المستنيرة، مع عدد من الأساقفة في ذلك الوقت، كما ذكر الراهب.نظير جيد الذي تحول إلى البابا شنودة
في الأربعينيات من القرن الماضي، عاش نظير جيد روفائيل شبابه في منطقة مسرة بشبرا. قال عفيفي إن روفائيل كان كثير القراءة، وواسع الاطلاع، ما أهله للانتماء لذلك الجيل الأول من الرهبان الجامعيين من أصحاب التخصصات العلمية المختلفة، وبعدها قاد الكنيسة المصرية على مدى 41 عاماً، تحت اسم البابا شنودة.إبراهيم تكلا
إبراهيم تكلا أحد المشاهير الذين عاشوا في الحي. قال الراهب إن تكلا كان من بين الأنصار البارزين في حزب الوفد، الذين لعبوا دوراً مهماً في الحياة السياسية آنذاك. وكان من أوائل مَن درسوا في جامعة كمبريدج مع محمود فهمي النقراشي، ودخل مجلس النواب عن دائرة شبرا، وهو أول مدير لمدرسة التوفيقية، التي تخرج منها أشخاص أصبحوا وزراء في ما بعد.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...