يناقش الكاتب المغربي "فؤاد العروي" في روايته "العودة إلى كازابلانكا" قضيتين شديدتي الصلة بواقعنا الحالي: الدين والسلطة، محاولاً أن يفكك تلك العلاقة التي تنشئها الأنظمة المستبدة بينها وبين مظاهر التديّن المختلفة، لتسخّرها في تكريس سلطتها.
الشخصية الأساسية في العمل "آدم سجلماسي" المتحدر من أزمير، والذي يعمل مهندساً في شركة كبيرة في كازابلانكا، ويتمتع بحياة رغيدة مع زوجته. يكتشف فجأة وهو عائد من إحدى رحلات عمله أنه غير سعيد بحياته التي تسير وفق إيقاع سريع فرضته الحياة العصرية، وأنه يرغب في أن يعيش حياة بطيئة، تشبه حياة جده ووالده اللذين أمضيا عمريهما دون أن يتجاوزا سرعة حصان يركبانه في تنقلاتهما. "بينما كان أزيز الطائرة يهدهده أدرك آدم أن هذه هي المرة الأخيرة التي يطير فيها جسمه بسرعات تتحدى الخيال. رأى نفسه جالساً في مقعده، مثل دودة مغرورة، متأنقاً ببذلته، يرحل داخل الكون اللانهائي. بالنسبة إلى حفيد الحاج معطي، كان هذا سخيفاً. يفتقر إلى الكرامة. بصراحة، هذا لا يشبه شيئاً. قرر، الآن وهنا، ألا يركب طائرة بعد الآن".
هكذا، يقرر "آدم" التخلي عن كل مظاهر الحياة المرفهة، فيستقيل من شركته، يغادر البيت الذي استأجره، ويقرر العودة إلى "أزمير"، لكن زوجته ترفض كل ذلك وتهجره، وتطلب منه مراجعة طبيب نفسي ليجد حلاً لمشكلته.
تناقش الرواية فكرة "البطء" والحياة السريعة التي نعيشها اليوم وجعلتنا كائنات متشابهة نلهث وراء الأشياء نفسها، لاغيةً خصوصية كل فرد منا. كما تناقش كيف أن المجتمع نفسه يقف في وجه من يحاول الخروج من هذه الحلقة التي دخل الكل فيها، لدرجة يغدو من يحاول النجاة أشبه بغريب الأطوار تلزمه مراجعة طبيب نفسي لإعادته إلى جادة الصواب. "استأنف باسماً: "إذاً، ما لا أفهمه هو أنك تريد التباطؤ، كما تقول، كإنسان، إنسان عاقل، لأن العالم المعاصر يسير بسرعة كبيرة، أو كمواطن مغربيّ ما بعد الاستعمار (هكذا تقال، أليس كذلك؟) أو كمغربيّ ما بعد الاستعمار رافض للغرب والسرعة؟... يريد العودة إلى إيقاع حياة أجداده؟ ثمة شيئان مميزان في كل هذا". الوغد، لقد حشرني. وضع إصبعه على شيء غير واضح لم أكن أراه".
يبني الكاتب روايته على شكل فصول تطول أو تقصر بحسب الفكرة التي تناقشها، ولكل فصل منها وحدته المستقلة، معتمداً على مناقشة كل الأفكار الفلسفية التي يطرحها بشكل هزليّ مفعم بخفة الدم والأجواء الساخرة والمواقف الفكاهية، شاحناً السرد بانفعالات الشخصيات، وبلغة سلسة يستخدم فيها بجرأة أي أحرف تشير إلى الأصوات المرافقة للمشهد المكتوب، ممهداً، عبر انتقالات بسيطة من حدث إلى آخر، الطريق أمام الفكرة الرئيسة التي يريد الوصول إليها وطرحها. لا يتراجع "آدم" عن قراره، رغم كل المحاولات من محيطه، فيذهب إلى قريته. وهناك، في أزمير الهادئة، تبدأ أكبر المفارقات بالحدوث، فبين صندوق الكتب المتهالك الذي كان لجده، وجدالاته العقيمة مع قريبه المتديّن "عبد المولى" الذي لديه أفكاره الجافة حول الدين، والتي استقاها بالتقليد وبطريقة عمياء ببغائية تتمسك بحرفية النص دون محاولة فهمه وفهم سياقاته، يكتشف حجم الفجوة الكبير بين ما كنا عليه وما أصبحنا عليه في مجتمعاتنا العربية، "أصدم بعد قراءتي حي بن يقظان الذي فهمته أخيراً. نعم، هذا حقاً ما كنت أبحث عنه. ابن طفيل، ابن رشد، صيف قرطبة الهادئ.. عندما كان العرب يعرفون كيف يفكرون، عندما كان الإسلام ذكياً... بوسعي أن أكون حفيد الحاج معطي دون أن أنكر شيئاً، وأنا فخور وقويم، ومع ذلك العالم مشغول على مقاسي.. فجأة، يظهر عبد المولى! الغباء المتجسد، التلبينة، الحجامة.. هل هذا ما نحن عليه، هل هذا ما أصبحناه بعد ثلاثين سنة؟ ثقلاء؟ أغبياء؟ ببغائيون؟".
تطرح الرواية، ببطء، وبعد أن تكتمل الأفكار التي تريد مناقشتها، فكرتها الأهم، وهي كيف أن الديكتاتوريات الحاكمة تعمل على تكريس المفاهيم الدينية الخاطئة والجهل والإيمان بالغيبيات من أجل استخدامها في تثبيت سلطتها، وفي السيطرة على الناس، وجرّهم بالتالي إلى فعل ما تريده السلطة مع إيهامهم بأنهم يفعلون ما يريدونه هم بملء حريتهم. هذه الفكرة الشديدة العمق، لا يخبرنا الكاتب بها بشكل مباشر، بل ينسج حبكة طريفة يورّط آدم بها جاعلاً من أفكاره العلمانية مدخلاً لخرافة يصبح فيها صاحب طائفة، له مريدون وأتباع ومعجزات. كل ذلك بتخطيط من رجال المخابرات الذين يعرفون كيف يسخّرون كل شيء لتنفيذ مآربهم.
فؤاد العروي، كاتب مغربي من مواليد عام 1958. يكتب القصة القصيرة والرواية باللغة الفرنسية.
حصلت مجموعته القصصية "قضية بنطال داسوكين الغريبة" على جائزة "غونكور Goncourt" عام 2013، كما حصلت روايته "أسنان خبير المساحة" على جائزة "ألبير كامو" عام 1996. وحصلت رواية "العودة إلى كازابلانكا" (اسمها الأصلي: les tribulations du dernier sijilmassi) على جائزة "Jean Giano" عام 2014.
المؤلف: فؤاد العروي/ المغرب
ترجمة: لينا بدر
الناشر: دار الساقي/ بيروت
عدد الصفحات: 304
الطبعة الأولى: 2016
يمكن شراء الرواية على موقع النيل والفرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.