عندما اكتشفت أن الفنان "إل سيد" El Seed يُشارك في سلسلة "أرت 101" التي ينظمها الحي الفني "السركال أفنيو" في دبي، والتي تريد أن تُعرّف الجمهور عن كواليس فن العالم، تحمّست لفكرة لقاء هذا الفنان الذي ذاع صيته في مختلف مدن العالم. إلا أنني ترددت لأن نادراً ما تجذب هذه الفعاليات الكثير من الناس… كنت على خطأ.
فقد غصّ مقهى "نادي القوز" في الـ22 من الشهر الجاري بالجمهور. وبدا الاهتمام بالتعرف على "إل سيد" واضحاً وانعكس من خلال جعبة كبيرة من الأسئلة التي طرحها الحاضرون عليه، ومن خلال الطابور الذي انتظره عند نهاية المحادثة من أجل أن يرسم أسماءهم على هواتفهم أو دفاترهم أو حتى أيديهم بالخط العربي.
واصل تلبية طلباتهم من دون تذمّر، لا بل دعاهم إلى الاستديو الخاص به في "السركال أفنيو" حتى لو أنه على عجلة من أمره. فهو يدرك أنني أنتظره لمقابلة وعدني بها كما أن زوجته بانتظاره لئلا يفوّت سفرته.
اشتهر "إل سيد" بأنه فنان الغرافيتي، فنان الخط العربي أو حتى فنان الشوارع. إلا أنه يقول لنا "أعرّف عن نفسي على أنني فنان معاصر فقط"، هو الذي استوحى اسمه الفني عندما كان في الـ16 عاماً من عمره من مسرحية الكاتب الفرنسي الشهير بيير كورنيل عام 1636 "لو سيد" Le Cid.
هذا الشاب الذي ولد عام 1981 في باريس هو من أصل تونسي، ولعل ازدواجية الجنسية انعكست، كما يقول، في أعماله حتى لو أنه تعرّف على اللغة العربية والفن العربي لاحقاً.
يخبرنا أنه لم يشعر يوماً أنه فرنسي وحتى عندما كان يزور تونس خلال عطلة الصيف لم يكن يشعر أنه تونسي لا بل هو من الذين يُطلق عليهم التونسيون لقب "جماعة شي نو" Chez nous.
حينها، قرّر أن يتعلم كتابة وقراءة اللغة العربية ليكتشف لاحقاً الخط العربي ويبدأ بدمجه بفنه حتى لو أنه غالباً لا يُراعي قواعده. يقول "الخط العربي جعلني أتقبّل أنني عربي وفرنسي وأن أتصالح مع نفسي"، مصالحة انعكست من خلال تحول الخط العربي إلى علامة تجارية لأعماله.
يرى "إل سيد" أن الخط العربي يحمل جمالاً عالمياً حتى لو أن الجميع لا يفهمه. فهو يؤمن أن هذا الخط يُحاكي الروح لا النظر، وبالتالي لا يحتاج إلى ترجمة. فيقدّر الناس أعماله بشكل عام بدايةً ليُحاولوا لاحقاً فهم الرسالة وراء العمل.
طالما كان الفن رفيق "إل السيد" الدائم هو الذي تتلمذ على يد الفنانين حسن المسعود ونجا المهداوي، إلا أنه تحوّل إلى مهنة بدوام كامل عام 2010 عندما قرر أن يترك مهنة الاستشاري ليتفرّغ لها.
يقول إن امتهان الفن كان عملية تدريجية، هو الذي مارس العديد من الوظائف خلال تنقله بين مختلف المدن العالمية، من باريس إلى مونتريال ونيويورك والدوحة ودبي. يخبرنا أنه عمل في تنظيم حفلات عيد الميلاد في "ماكدونالدز" وبائعاً في "فوت لوكير" وحمّالاً في الفنادق… ليضيف "كل هذه الوظائف سمحت لي بالسفر إلى كل أنحاء العالم وساعدتني لاحقاً في مسيرتي. فعلى سبيل المثال، تخصّصي في الخدمات اللوجستية ساعدني على تنظيم مشاريعي الفنية".
حول العالم
السفر نقل فنه إلى مختلف مدن العالم. فعاد إلى تونس حيث خرج مع كتاب بعنوان "الجدران المفقودة" والذي يعود برحلة فنية قام بها على مدار شهر رسم خلاله 24 لوحة غرافيتي في 17 مدينة تونسية، ليكشف صورة مختلفة عن بلاده وليُعيد اكتشافها بنفسه. في تونس أيضاً، تحديداً مدينة قابس، رسم آية قرآنية حول التسامح والتعايش على منارة جامع جارة. أما العاصمة الفرنسية، فحملت بصماته على جدار معهد العالم العربي وعلى "جسر الفنون". أونتاريو، نيويورك، شيكاغو، ريو دي جانيرو هي أيضاً مدن حملت مبانيها بعض أعمال "إل سيد"، إضافة إلى الدوحة حيث صمم 52 جدارية على طريق سلوى وأيضاً دبي حيث تابع برنامج إقامة مع مؤسسة "تشكيل" وجعل المدينة اليوم مقراً لإقامته وعمله. ولكن من كل هذه الأعمال والمشاريع، يبقى الأحب إلى قلبه مشروعه "إدراك" في حي منشية ناصر الفقير الذي يخلو من أي طابع جمالي وتعلوه تلال القمامة ويُعرف بحي الزبالين. يقول "كان أكثر من مشروع فني. فالفن تحوّل إلى ذريعة من أجل الاستفادة من التجربة الإنسانية". احتاج هذا المشروع الذي كان مبادرة شخصية منه إلى عام من التحضير، وإلى ثلاثة أسابيع من التنفيذ. نجح إل سيد في تلوين واجهات 50 منزلاً بطريقة مبتكرة وجمالية لا مثيل لها لتظهر مقولة "إن أراد أحد أن يبصر نور الشمس، فإن عليه أن يمسح عينيه"؛ مقولة قبطية تعود إلى القرن الثالث ميلادي وقد نُسبت إلى البابا أثناسيوس، بابا الإسكندرية حينذاك. لم يكن اختيار المقولة اعتباطياً، إذ إنها الرسالة التي أراد "إل سيد" نقلها للعالم حول كيفية تغيير وجهة نظرك. ويشرح لنا "العمل الفني هو تعبير مجازي للرسالة الكاملة. فإذا أردت أن تستمتع بكامل هذه اللوحة الفنية، يجب أن تقف في الزاوية الجيدة. أحياناً نحكم على مجتمع أو مجموعة من الناس ولكن إذا غيرنا وجهة نظرنا، نتخلص من الأفكار المسبقة، وقد تتغيرّ رؤيتنا للواقع تماماً". يعتبر إل سيد أن المشاريع المجتمعية تحمل ميزة خاصة لأنها غالباً ما تحملك على اختبار أمور لم تكن في الحسبان، وتتحول إلى تجربة خاصة مع الناس. ففي القاهرة، مثلاً، يخبرنا أن الناس رحّبوا بهم وكانوا يساعدونهم ويدعونهم إلى منازلهم ويقدمون لهم الشاي، إضافة إلى أن العمل كان في ظروف استثنائية، إذ كان يجب التصرف سريعاً بسبب انتشار العديد من الحيوانات التي تتغوّط عليهم أو تهاجمهم. لكل مشروع إذاً ميزته الخاصة ورسالة يحملها. يرفض إل سيد أن يفصح عن مشاريعه المستقبلية، قائلاً "لن أتكلّم أبداً عنها". إلا أن الأكيد أنه حطّ الرحال في دبي، مع أن كثيرين يتساءلون حول هذا الاختيار، لكنه يردّ "في دبي، أنت تشارك في موجة مختلفة. لربما ركّزت دبي كثيراً على صورتها التي تتمركز حول المشاريع الضخمة والكبيرة، إلا أن هناك مجتمعاً فنياً يتطوّر، وهناك اهتمام متزايد بالفن ومن الجميل أن أكون جزءاً من هذه اللحظة". وتبقى نصيحته لكلّ فنان شاب "اختر الفن لأنك تحبّه، لا لأنك تريد أن تكون على شبكات التواصل الاجتماعي. واحرص على التعبير عمّا أنت عليه وأن تتحلّى بالكثير من الصبر".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين