أن يحاكي الإنسان صنيع خالقه، ويجمع كتلة من الطين، ويحاول بثّ الحياة فيها، والحركة، من دون النطق، وأن يحدث ذلك باكتشاف سرّ الأحرف والأعداد والمزاوجة بينها، وإضافة بعض الطلاسم، فهذا هو مبحث "الغولم"، الذي حفر عميقاً في التراث الشعبيّ اليهودي، مع أنّ اليهودية ديانة توحيدية، تنزّه الخالق الأبديّ عن جميع المخلوقات الزائلة، وتحظّر فيها صناعة التماثيل، ورسم الصور. فما حيثية ذلك؟
Dura-Europos-Synagouge كنيس الصالحية في سوريا[/caption]
حظر التماثيل والصور حفرَ عميقاً في التراث والوجدان. مع ذلك، ستنبت من رحم التراث اليهوديّ نفسه قصّة كائن يصنعه الإنسان بيديه، من دون أن ينحت له معالم، ومن دون أن تتحدّد صورته، كائن مخلوق من صلصال كالإنسان نفسه، أي من مادة طينية، من مزج عنصري التراب والماء. إنّه "الغولم".
و"الغولم" بالعبرية، يوازي "الهلام" في العربية. إنّه "الغلام الهلام". يرد اللفظ أحد مزامير داود (139)، بالشكل التالي: "عندما لم أكن سوى هلام (أي مادة غير متشكلة) كانت عيناك تراني".
الغولم هو إذاً مادة غير متشكّلة، لكن لها هيئة. ما سيتطور في التراث اليهودي، وخصوصاً في الباطنية اليهودية (القبالاه)، هو إشكالية محاكاة صناعة الخالق للإنسان من طين، بإعادة اشتغال الإنسان على المادة الطينية نفسها، بالاستعانة بالطلاسم وأعمال السحر.
Intext_Shifra-Diniyya-from-author3
Intext_Shifra-Diniyya-from-author2
وهذا الغولم هو، بمعنى من المعاني، "الروبوت" السحري في غيتو براغ. تعدّدت أساليب تشكيله في المرويات. التقت أكثرها على أنّ المهارال غرس ورقة عليها الإسم، رباعي الأحرف، لله في التوراة، في فم الغوليم، الذي طالما ظلّ مختوماً فاهه بهذا الشكل بقي حياً، إن كانت الحياة توصّف بها فعلاً حركة الغولم.
كان يمكن لهذا الغولم في التراث الشعبي أن يعمل ويكد، ويلبي أوامر سيّده، ويحمي يهود الغيتو، من دون أن يعطى إمكان الكلام. فهو مأمور بالتنفيذ ما دامت تعوزه نعمة الكلام، الذي لا يمكن إلا للخالق الحقيقي أن يعطي لمخلوق.
في المقابل، نجد الغولم في هذه المرويات وجسمه ينمو كل يوم، وهو كآدم لا يمرض أبداً، وله حق الراحة يوم السبت (يختلف بالتالي عن خادم اليهود، غير اليهودي). ومساء كل جمعة، كان يسحب المهارال الورقة من فم الغوليم، فيستحيل بلا حركة إلى حين وضعها مجدّداً.
ويأتي مساء نسي فيها المهارال ورقة الإسم في فم الغولم، وانصرف إلى الكنيس الكبير الذي يبعد عن الغيتو، فهاج الغولم، وأخذ يضرب الناس، ويخبط يمنة ويسرى ويرعب من كان يحميهم. لم يعرفوا كيف تهدئته إلى أن حضر المهارال، واستطاع بعد جهد جهيد أن ينتزع الورقة من فم الغولم، فتهاوى هذا على الأرض، وعاد كتلة طينية بلا هيئة.
Intext_Shifra-Diniyya-from-author
وفي رواية أخرى، أن الربّي تمكّن من تجميده، لكن كتلة الطين هوت عليه وقتلته. وهناك من ذهب إلى أن "جثّة" الغولم لم تزل مختبئة في مكان من براغ، تنتظر من يحييها.
وهذا الضرب من المخيّلة غير بعيد عن الاحتفاء الثقافي والسياحي بفولكلور الغولم في مدينة براغ، فضلاً عن الكمّ الهائل من الأعمال الأدبية والسينمائية، التي تنطلق من هذا التراث، أبرزها رواية النمساوي غوستاف مايرينك.
وهناك تقاليد أقدم تربط حياة الغولم وموته بأحرف كتبت على جبينه. ألف – ميم – تاء، إيمت، الحقيقة، تدبّ فيه الحركة، حتى إذا أزيلت الألف، بقيت الميم والتاء، "مت"، فمات.
من حظر التصوير إلى إنشاء كائن طينيّ مسحور
جاءت الوصية الثانية التي أنزلت على موسى، بحسب "سفر الخروج" تحظّر صناعة التماثيل والصور: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما ممّا في السّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض". تكفّل "سفر الخروج" نفسه بإظهار عاقبة عصيان ذلك: عندما اجتمع الناس على هارون، مطالبين بآلهة تسير أمامهم، اعتقاداً منهم بأنّ موسى مات في الجبل، فصنع لهم هارون عجلاً مسبوكاً من أقراط الذهب (القرآن يظهر هارون على العكس من ذلك معترضاً على هذا العمل)، فكان أن كسر موسى ألواح الشريعة المنقوشة عليها كلمات الرّب عندما نزل وهاله المشهد. ثم "أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذراه على وجه الماء، وسقى بني اسرائيل" (الخروج، 32، 20). وبالمحصّلة، سيمارس "سفر الخروج" تأثيراً كابحاً على تطوّر الفن الأيقوني في التاريخ اليهودي، وإن كانت لهذا الفن محطّاته، التي تشهد عليها خصوصاً جدران كنيس الصالحية في سوريا، التي تروي رسوماته مشاهد من سفر الخروج. [caption id="attachment_87693" align="alignnone" width="700"]

ألغاز العالم الوسيط بين الخالق والمخلوق
يبقى فارق أساسي بين "الغولم" وبين أصنام الإغريق أو العرب في الجاهلية، على ما يقترحه موشيه إيديل، وهو أنّ الأصنام هذه مرتبطة بحسابات تنجيمية فلكية، أي برغبة في التقاط "روحانية النجوم" وإيصالها للناس، فالصنم بمثابة "قرص لاقط" هنا. أمّا "الغولم"، والسحر القبالي بشكل عام، فلا يستندان إلى تعقّب الأجرام والأفلاك، بقدر ما يستندان إلى رؤية معيّنة للحروف والأعداد، بوصفها الأدوات التي استخدمها الله لخلق العالم، وأنّ لها قوى سرية سحرية خارقة، يمكن الوصول إليها وتسخيرها.ما هو الفرق بين "الغولم" اليهودي وبين أصنام الإغريق أو أصنام العرب في الجاهلية؟
الغولم في التراث اليهودي: عندما يحاول الإنسان أن يحاكي فعل الخالق ويصنع مخلوقاً طينياً يبث فيه الحياةفالقبالة تتضمن تصوراً ثلاثياً عن الوجود كما يوضح مارك آلان اواكنين في كتابه "أسرار القبالة". ثمة عالم العليين، عالم الرحمنوت والجبروت والملكوت، وثمة عالم التحتيين، الذي نحن فيه. لا يمكن اجتياز أحد هذين العالمين إلى الآخر. لكن الفاصل بينهما هو مقام بحد ذاته، عالم يتوسّط بينهما، العالم الوسيط (امتسا). هو مسافة لا يمكن عبورها إلى العالم الفوقي، لكنه في الوقت نفسه بمثابة "حساب مشترك" بين العالمين. إنّه عالم الشوق المتبادل بين الخالق والمخلوق. في هذا العالم الوسيط تقيم أحرف الأبجدية العبرية الـ22، والأعداد العشرة (من واحد إلى عشرة)، وأسماء الله، والكتب المقدّسة، وفيه "سلّم يعقوب" (في العهد القديم يبصره يعقوب، الهارب من غضب أخيه، في منامه كسلّم يربط الأرض بالسماء)، والهيكل. لأجل انشاء عالم التحتيين، استخدم الله الأحرف والأعداد الموجودة في العالم الوسيط. هناك مجال بالتالي، لـ"خلق محصور" يتوصّل له الإنسان العالم بخفايا هذا العالم الوسيط إذاً.
صنعة مهارال براغ: الغولم الذي خرج عن السيطرة
اختلفت المقاربة حول "الغولم"، أصله وفصله، بين كبار الدارسين لتاريخ الباطنية اليهودية (القبالاه) في القرن الماضي. فغرشوم شوليم، أهمّ مؤرّخي القبالة كما المسيحانية اليهودية في القرن الماضي، سيتعامل مع "الغولم" كظاهرة فولكلورية بالدرجة الأولى، كمؤشّر على تحوّل الباطنية اليهودية من دائرة خاصة هي حكر على المتبحّرين فيها، إلى رافد أساسيّ من روافد التراث الشعبيّ اليهوديّ. فقد انشغل المخيال أكثر فأكثر، بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلادي عند يهود شرق أوروبا خصوصاً، بما إذا كان للإنسان المتفقّه بعلوم الشريعة وعلوم الباطن والسحر في آن واحد، أن يحاكي صناعة الخالق لمخلوقاته على نطاق أضيق، فيحرّك بما تيسّر من علم الأحرف والأعداد، المادة الطينية التي جمعها على هيئة إنسان مثله، لتدبّ فيها حياة ما، وتصير أداة تقنية تلبي للإنسان احتياجاته، وفي طليعتها، حماية اليهود من أعمال الاضطهاد أو التنكيل بهم. ارتبط هذا الفولكور تحديداً بالمرويات عن الربّي يهودا لوي بن بتساليل، المعروف بـ"ماهارال براغ". نُسبت لهذا الحبر، الذي كان عالم رياضيات أيضاً، الكثير من الكرامات والمشاهد، ونُسب له أيضاً إنشاؤه لكائن على هيئة إنسان، من طين نهر فلتافا.

انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.