بينما كانت قائمة الفراعنة تزخر بالأسماء الكروية الرنانة مثل أحمد شوبير وحسام حسن وعبد الستار صبري، سلطت الصحافة الجزائرية الضوء على النجمين، اللذين أتيا من أوروبا لتمثيل منتخبهما في مواجهة محاربي الصحراء، عام 1995.
الأول من ألمانيا، هو المدافع الدولي هاني رمزي، والثاني من نادي دمياط، الذي ظنته الصحافة الجزائرية نادياً "أوروبياً"، وهو الحارس الشاب عصام الحضري.
كانت هذه المرة الأولى التي ينضم فيها الحضري إلى المنتخب الأول، قادماً من صفوف نادي دمياط، الذي يلعب في دوري الدرجة الثانية. وكانت أيضاً المرة الأولى التي يضم فيها المنتخب الأول حارساً من دوري الدرجة الثانية. فالقاعدة المعمول بها، هي ضم المشاهير من لاعبي الأهلي والزمالك، ومَن حالفهم الحظ للعب بقمصان الأندية الأوروبية. لكن ابن كفر البطيخ كان استثناءً.
وجه عريض يتوسطه شارب أسود كث، ولهجة ريفية لا تخلو من التلعثم، رهبة بأضواء المدنية، وعينان زائغتان تلمعان بشدة أمام الكاميرات. هكذا أطل ابن الـ19 عاماً على عالم آخر، لطالما حلم به منذ الطفولة.
هناك في مدينة الأثاث، حيث الشوارع غير الممهدة التي ترسمها الأراضي الزراعية على ضفاف دلتا مصر، وجد التلميذ الفاشل نفسه يهرب من الحصص الدراسية، متنقلاً بين الملاعب، التي تفرض نفسها على الطرقات، تاركاً خلفه أحلام الأب الذي كان يتمنى أن يكون ابنه تلميذاً نجيباً، ليلهث وراء حلم من نوع آخر في عالم الساحرة المستديرة بحثاً عن النجومية.
لم يهنأ الفتى بطفولة ناعمة، كالتي حظي بها اللاعبون الذين مارسوا الكرة في الأكاديميات، أو مدارس الكرة المؤهلة لصناعة المواهب الكروية بالعاصمة. لكنه كان يقطع مسافة 7 كيلومترات، من كفر البطيخ إلى دمياط، ركضاً، للالتحاق بالدورات الرياضية التي ينظمها الكشافون بحثاً عن مواهب الأقاليم.
يتحدث الحضري لرصيف22 عن ملامح البدايات الصعبة: "كنت أغسل ملابسي في الترعة، لمحو آثار الغبار عنها، لعدم كشف أمري أمام والدي بأنني ألعب الكرة بدلاً من الدراسة، حياتي منذ صغري هي كرة القدم، لا أعرف سواها سبيلاً لإثبات ذاتي وسط إمكانات ضعيفة".
رغم لعبه لنادي دمياط الذي ينافس في "دوري المظاليم"، حظي الحضري بمتابعة جيدة من مدربي المنتخبات، وسجل مشاركات معدودة مع المنتخب الأول والمنتخب الأولمبي. كتبت له شهادة ميلاده في الكرة المصرية ليصبح أول حارس ينضم إلى المنتخين من خارج دائرة الضوء، وفتحت له الباب بعدها لتحقيق حلمه بحراسة عرين النادي الأهلي.
من دمياط إلى الأهلي
يُعدّ عام 1996 عاماً مفصلياً في تاريخ الحارس الأسطورة. حينذاك، وقّع عقد انتقاله من دمياط إلى الأهلي، بعد لقاء مع عملاق آخر، حافظ على عرين الأحمر لسنوات طويلة هو ثابت البطل، ليضع الحارس قدمه على أول طريق النجومية. بدأت الرحلة التاريخية بين الحضري والأهلي، بعد سنة من توقيعه للمارد الأحمر، فلعب بقميص الفريق الدمياطي عاماً أخيراً في الدوري الممتاز لاكتساب الخبرة. لم تتوقف أحلام الحضري عند حد الانتقال إلى النادي الأهلي. فأطلق العنان لموهبته ليعلن نفسه حارساً أساسياً للمنتخب المصري. يسترجع الحارس ذكريات البدايات من معسكره الأول مع الأهلي في ألمانيا عام 1995: "في أول يوم معسكر لي مع النادي في ألمانيا، استيقظت مع الفجر وانتظرت التدريب أمام باب الفندق، كالوحش الذي يكشر عن أنيابه. أحب أن أضع نفسي تحت ضغط المنافسة طوال الوقت، فهذا يثبّت قدمي بشكل كبير". في تلك الأثناء، في منتصف التسعينيات، كانت الأضواء تُسحب من تحت أقدام الحراس القدامى في الكرة المصرية، فاعتزل ثابت البطل وإكرامي الشحات، في نهاية الثمانينيات، ولحق بهما أحمد شوبير من النادي الأهلي، وحسين السيد من الزمالك. ورُسمت خريطة جديدة في حراسة المرمى، في قلبها نادر السيد وعبد الواحد السيد، ليظهر الحضري ثالثاً. رغم البداية الجيدة، وسط نشوة الانتصارات، التي تحققها القلعة الحمراء باحتكار درع الدوري لمدة 7 سنوات منذ عام 1993 حتى مطلع الألفية، عاش الحضري أياماً سيئة في منتصف رحلته مع الشياطين الحُمر، بين دوريي 2000 و2004. فاستقبلت شباكه أهدافاً غريبة، تلقى بسببها انتقادات لاذعة من الجماهير والصحافة. كانت تلك فترة الخيبات التي لم يفز خلالها الأهلي بالدوري، رغم حصوله على دوري أبطال أفريقيا، والسوبر الأفريقي، وكأس مصر والسوبر المحلي.احتفال البطيخة
لا يعرف كثيرون من محبّي الكرة المصرية، السر وراء احتفال الحضري بالبطيخ، سوى انتمائه إلى كفر البطيخ. لكن القصة كما يرويها، أنه فوجئ بعد إحدى المباريات التي فاز بها المارد الأحمر على غريمه التقليدي الزمالك، بإمساك أحد مشجعي الأحمر في استاد القاهرة ببطيخة في يده، فركض الحضري صوب المشجع وكسر البطيخة احتفالاً بالفوز. ومنذ ذلك الحين، اعتادت الجماهير الحمراء اصطحاب البطيخ للاحتفال مع حارسها. 26 هو عدد البطولات التي حققها ابن كفر البطيخ مع المارد الأحمر، من أصل 36 بطولة حققها في مسيرته مع مختلف الأندية، ومع المنتخب المصري. هذا العدد يتوزّع بين 8 بطولات دوري عام، و3 دوري أبطال أفريقيا، و3 كأس مصر، و4 كأس السوبر المصري، و3 كأس السوبر الأفريقي، بالإضافة إلى تتويجه ببرونزية كأس العالم للأندية في اليابان عام 2006. وخارج صفوف الأهلي، حقق 4 بطولات مع المنتخب المصري بتتويجه بكأس الأمم الأفريقية، في أعوام 1998، 2006، 2008، و2010، وكأس العالم العسكرية عام 2001، وذهبية دورة الألعاب الأفريقية مع المنتخب الأولمبي. وأحرز 3 بطولات مع المريخ السوداني، وبطولة وحيدة مع سيون السويسري.الحضري خارج الأهلي
كانت الأجواء شبة مثالية على مستوى الرياضة المصرية، وبالنسبة للحضري نفسه، في فبراير 2008. فالأهلي كان يتصدّر الدوري العام، البطولة المفضلة للفريق الأحمر، ويستعد لتخطي الأدوار الإقصائية في دوري أبطال أفريقيا. كل ذلك ولم تكن مرّت أيام قليلة على تتويج المنتخب المصري ببطولة كأس الأمم الأفريقية، للمرة الثانية على التوالي. كانت الجماهير الحمراء تحلم باستمرار فريق الأحلام، الذي أحكم سيطرته على الكرة الأفريقية لبضع سنوات في حصد البطولات، مع حارسه الذي أُطلقت عليه ألقاب السد العالي، والصخرة، والمدفعجي، والقديس، والقناص، والفهد الأسمر... لكن الحضري كان له رأي آخر، فاستيقظ الجميع في مصر، في 21 فبراير 2008، على خبر هروبه إلى سيون السويسري، لبدء رحلة احتراف في العام الرابع بعد الثلاثين. يقول الحضري: "استمراري في الأهلي كان مستحيلاً في هذا التوقيت، بعد وصول علاقتي بالبرتغالي مانويل جوزيه إلى طريق مسدود. لم ألق التقدير منه في قمة أدائي أو في سقطاتي، وحتى بعد منحي لقب أفضل حارس في كأس الأمم الأفريقية، للمرة الثانية، لم يشاركني في فرحي. تركت تاريخي مع الأهلي خلف ظهري ورحلت إلى سيون". هو يعلم حساسية جماهير الكرة في مصر، خصوصاً الحمراء منها. ففي الأيام التي تلت هروبه، لعب الأهلي أمام غزل المحلة، وكانت الهتافات تدوي في أرجاء معقل الفلاحين بسباب لاذع للحضري. يقول صاحب الـ44 عاماً تعليقاً على الواقعة التي مر عليها 9 سنوات: "أعتبر رحيلي من الأهلي في 2008 أكبر خطأ ارتكبته في حياتي كلها، لأنني أهلاوي منذ الصغر وتربطني علاقة قوية بالنادي وجماهيره... استمراري كان سيغيّر مسار حياتي للأفضل"."كعب داير"
لم يقضِ الحارس الدولي المتوّج بلقب أفضل حارس مرمى في القارة الأفريقية ثلاث مرات، مع سيون السويسري سوى عام واحد توج معه ببطولة الكأس، ليعود إلى مصر من جديد في بداية موسم 2009-2010، ولكن هذه المرة من بوابة الإسماعيلي، دراويش الكرة المصرية. لعب مع الفريق سنة واحدة أيضاً، ومنها انتقل إلى الغريم التقليدي الزمالك، الذي يُعدّ المنافس الأول للشياطين الحمر محلياً وقارياً. استمر الحضري في رحلة "كعب داير" بين الأندية المصرية، حتى كرر تجربة احترافه مع المريخ السوداني، وحقق معه 3 بطولات خلال العامين اللذين قضاهما هناك. ثم عاد إلى الدوري المصري مرة أخرى، إلى الاتحاد السكندري، ومنه إلى وادي دجلة، ثم الإسماعيلي من جديد. لكنه استقر منذ العام الماضي في النادي الدجلاوي، بسبب استقراره الإداري والمادي والكروي أيضاً. فناديه اختتم الموسم الماضي في المركز الخامس بفارق نقاط محدودة عن المربّع الذهبي. الانتقال من ناد إلى آخر، لم يكن بهدف التنوع الكروي، لكنه يعزز من رسالة الاستمرار، ويحقق فرضية الوجود رغم كبر السن. يضيف: "أعشق الأهلي لكن أنا لاعب محترف ألعب لجميع الأندية بالكفاءة نفسها، والتي شيرت الذي ألعب به أنام به". رغم تألق الحضري مع المنتخب المصري في كل مناسبة يظهر فيها، إلا أن الجماهير لا تغفر له هفواته في مباريات الدوري الممتاز. فتجد صفحات التواصل الاجتماعي تسخر من مرور الكرة بين قدميه تارة، وخروجه الخاطئ من مرماه في أخرى. لكنه لا يلتفت إلى التعليقات المقذعة. ويوضح: "الانتقادات تزيد من عزيمتي للرد على المشككين، ومن يبحث عن صناعة التاريخ فأهلاً بالمنافسة".العودة إلى الأهلي
يؤمن الحضري، الذي حلت التجاعيد على أجزاء من وجهه، أنه لا توجد أحلام عصية عليه في المستطيل الأخضر. فمع اقتراب رحلته مع كرة القدم من النهاية، يمني نفسه بأن يتقدم صفوف لاعبي الفراعنة في مونديال كأس العالم في روسيا 2018، الحلم صعب المنال منذ آخر مشاركة رسمية في 1990. أما الحلم الآخر الذي لم يتخلَّ عنه الحضري، فهو ختام رحلته بين صفوف الأهلي. وماذا لو خُيّر بين حمل شارة القيادة في مونديال روسيا والعودة إلى جدران المارد الأحمر بعد هروبه منه في 2008؟ يبتسم الحضري ويجيب: "كأس العالم حلم حياتي، بكيت من الفرحة لاقترابنا منه في 2010 أمام الجزائر، وأتمنى أن ألعب، لأنني حينها سأكون من أكبر حراس المرمى مشاركة، وفي الوقت نفسه لديّ يقين داخلي من أنني سأعود للأهلي يوماً ما رغم صعوبة ذلك".الحضري مدرباً
لا يملك حراس المرمى في مصر رصيداً كبيراً في الظهور الإعلامي بعد اعتزال الكرة، لذا يفضّل الحضري العمل على مشروعه التدريبي من خلال الحصول على دورات تدريبية، تؤهله للانضمام إلى الأجهزة الفنية في المستقبل القريب. لكنه لم يحدد وجهته المقبلة. فهل تكون في وادي دجلة، الذي يلعب له الآن، أو يتدخل الأهلي ليحدد مستقبل حارسه السابق من جديد؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...