الموسيقى الكناوية أكتسبت شهرة واسعة النطاق في العقود الأخيرة. يبقى أن قلّة تعلم خارج المغرب أن هذه الموسيقى تتحدّر من طقوس ومعتقدات فرقة دينية من طراز خاص. فقد طوّرها المتحدرون من "الرقيق الأسود" الذي سيق في القرن السابع عشر من أفريقيا جنوب الصحراء إلى مدن المغرب، وتمازج مع خلفيات دينية وثقافية عديدة، فسكب في إطار إسلامي عام، يبدأ بذكر الله والصلاة على النبي، ليعود بعد ذلك في موسيقاه وأشعاره إلى أماكن في الوعي الديني مختلفة، تربط الموسيقى بفعل التفاوض مع الأرواح أو الجن، وجعل الجن تصلح بنفسها ما خربته.
العالم "المسكون" والشخص "المسكون"
العالم المعطى للإنسان هو عالم "مسكون". لا يقيم فيه وحده. هو عالم هشّ، والإنسان فيه هشّ، وفأل السوء يسرح بين العالم والإنسان ويمرح: حادثة من هنا، وحظ منحوس من هناك، كرب ومرض، وموت كابس على كل الأحياء. الأحياء يعيشون فكرة الموت كل يوم، والموتى يقضّون مضاجع الأحياء. حيال عالم هكذا، وفيه، تطوّرت "ديانات الخلاص"، كمنظومات معنية بخلاص الإنسان، بدءاً من هذا العالم، وربطاً بالعالم الآتي، دار الآخرة. لكن تطوّرت أيضاً أنساق مغايرة لـ"ديانات الخلاص"، أنساق غير معنية بتخليص العالم، أو الاستعداد للآخرة. معتقدات وطقوس معنية بـ"التفاوض العملي" مع الآخر الخفيّ الذي يساكننا ويسكننا، معنية بـ"تفريج الإرب" أو بالانفراج، وليس بـ"الخلاص" أو "النجاة". بالنسبة لهذا النوع من المعتقدات والطقوس، البشر في حالة اتصال دائمة مع كائنات تأكل مثلنا وتشرب، وتنام وتستيقظ، وتتناكح وتتوالد وتموت، سوى أنّها كائنات يمكنّها أن تبدّل صورها وتعصى على حواسنا وتخفي قدراتها على أحوالنا وأعمالنا. ولا نفع للإدراك الحسّي أو العقليّ، وحدهما، لأجل التعامل بشكل فطن ونافع مع هذه الكائنات، بل كثيراً ما يكون الإدراك مطيّة لها علينا، وحاجزاً نحبس فيه أنفسنا لمصلحة استباحتها لنا.معتقدات "الانفراج" وطقوسه: جذبة "الشامان" و"المبروك"
لا يتردّد الأنثروبولوجي برتران هيل عن وصف هذا النوع من المعتقدات والطقوس بأنّها صاحبة "النظرة الواقعية والبراغماتية"، ما دامت نظرة تقوم على التفاوض مع الأرواح التي تحيط بنا أو تستبيحنا، وما دامت نظرة تنطلق من كون هذه الأرواح التي تضرب تجارتنا وعافيتنا هي نفسها التي يمكن استيعابها لأجل منفعة وكسب، لأجل شفاء البدن والقلب. ينقسم هذا النوع من المعتقدات والطقوس الباحثة عن "الإنفراج" لا "الخلاص"، إلى نموذجين رئيسيين. أحدهما يعطي مكانة محورية للشخص الذي يجب عليه السعي، من خلال خبرة ينالها، للوصول إلى حال "الغشية" أو "الغيبة" أو "الجذبة" هذه، فيتجاوز حالة الإدراك العادية (ثنائية الحس والعقل)، ويسافر إلى المقام الذي يمكنه فيه التفاوض الندّ للندّ مع الأرواح، بقصد حمل هذه الأرواح لشفاء مريض كانت تغلظ عليه في مرضه. وهذا نموذج "الطبيب الساحر"، أي "الشامان". أمّا النموذج الثاني، فمحوره شخص "مبروك"، مطيّة لأرواح لم يسعَ وراءها، ولعبة في يدها.الكناوة تفاوض موسيقي فريد مع هذا العالم الذي يحيط بنا، مركزه المغرب
ما كان عند الصحابي بلال بن رباح، مؤذن الرسول، صوتاً للأذان، صار عند الكناوية فناً موسيقياً هائلاً.. تعرفوا إليهالنموذج الأوّل، "الشامان"، يلعب دوراً فاعلاً في عملية تحقيق الانفراج، وشفاء المريض أو الشاكي، أما النموذج الثاني، "المبروك"، فوظيفته العلاجية تُقوّم في أنّه مفعول به لا فاعل. ليس هو، بنفسه، من يفاوض الأرواح على أمر، وإنّما المجموعة التي تحتضنه وتكرّمه، وتنتظر كراماته، هي التي تفاوض الأرواح، من خلاله، ومن خلال طقوسها المموسقة. وفي تمييز مهم لأحد أعلام الأثنولوجيا الموسيقية جيلبير روجيه، أن "جذبة" المبروك مموسقة من قبل غيره، في حين أنّ "الشامان" هو من يموسق جذبته. بيد أنّ هذه القسمة التقليدية في الأنثروبولوجيا الدينية بين "الشامان" و"المبروك" لا تلغي التداخل والتمازج بين النموذجين، مثلما أنّ معتقدات وطقوس "الإنفراج" بشكل عام، تداخلت وتمازجت مع الديانات الكبرى، فالشامانية تمازجت مع المسيحية الأرثوذكسية في سيبيريا، ومع البوذية في التيبت أو في كوريا، ومع التصوّف الإسلامي في آسيا الوسطى. وبيرتران هيل يتميز في الأنثروبولوجيا الدينية في كونه يوسّع فهم الشامانية إلى شمال أفريقيا وأفريقيا الغربية، في التمازج الفريد بين جذور روحية وخلفيات رمزية مختلفة، كالتمازج بين الأرواحية الأفريقية جنوب الصحراء، وبين الصوفية الإسلامية واليهودية، وبين الشامانية، وهي الحالة الأكثر تعقيداً له، والأكثر جاذبية في آن واحد، من خلال قصتها، ومن خلال موسيقاها، وهي حالة "الطريقة الكناوية" في المغرب.
طريقة بلالية بخلفية أفريقية سوداء
تقدّم الطريقة الكناوية نفسها رسمياً اليوم طريقة صوفية بلالية. وهي بلالية بمعنيين. فـ"ضريح سيدي بلال" قرب مدينة الصويرة المغربية على المحيط الأطلسي هو المقام الأساسي لهذه الطريقة. وهذا الولي الصوفي مجهولة سيرته وسلسلته إلى حد كبير. لكنها قبل كل شيء بلالية نسبة إلى تنسبها إلى الصحابي بلال بن رباح الحبشي، مؤذن الرسول، ذلك أنّ الكناوية يتحدّرون من "رقيق أسود" جلبوا إلى المغرب، مما كان يسمى السودان الغربي (مالي والنيجر)، وما كان عند بلال صوتاً للأذان، صار عندهم فناً موسيقياً وشعرياً هائلاً، تستخدم فيه آلات تروي قصة الوقوع في الأسر، والمجيء إلى المغرب. ومن الآلات التي يستخدمها الكناوية "السنتير" أو "الكمبري" وهو عود بأوتار ثلاثة غليظة ورنات رخيمة، أضف للقراقب، وهي صنوج حديدية تحدث أصواتاً إيقاعية حين تحرّك باليدين، والطبول التي تقرع من الجهتين، بواسطة قضيبين أحدهما مقوّس. [caption id="attachment_87035" align="alignnone" width="700"] عضو في فرقة كناوة المعلم محمد كويو[/caption] ينتمي الكناوية إلى عائلة الطرق "الأفرو - مغاربية"، منها ما اندثر، بل قمع منهجياً كـ"السطمبالي" في تونس، وتتشارك هذه العائلة طقوس الجذب مع الأرواح، مع الفرق "الأفرو - أمريكية"، مثل "الفودو" في هاييتي، و"السانتيريا" في كوبا، و"الماكومبا" في البرازيل. ومع أن "كناوية" (والكاف هنا تلفظ كالجيم المصرية) قد تكون تحويراً للتحدّر من "غانا" (الإسم الذي كان لمالي وقت استقدام الرقيق منها)، أو أي تحدّر أفريقي غربي آخر، فلم تعد الطريقة حكراً على الأقلية السوداء في المغرب، أما الأرواح (وتسمى "الملوك") التي يجري استحضارها في طقوسهم، فمنها ما يعود إلى أصول أفريقية واضحة، ومنها إلى أصول أمازيغية أو صوفية عربية أو يهودية، نظراً للوجود اليهودي التاريخي في مدينة الصويرة. وثمّة الكثير مما تشترك فيه "الكناوة" مع طرق أخرى مثل "العيساوة" و"الحمادشة" في المغرب، خصوصاً من جهة المعادلة بين القالب الأفريقي عن "الأرواح" وبين فكرة "الجن" ذات الإطار الإسلامي. واذا كانت تونس في عهد بورقيبة قد اختارت قمع "السطمبالي" في تونس بشكل جدي، فإن ما طغى في المغرب هو الميل لتحويل "الكناوية" إلى فولكلور، أو كمصدر تفاعلي مع الموسيقى المعاصرة، خاصة بعدما حج إلى الصويرة لتعلّم موسيقى الكناوة واستلهامها، عازفون لامعون، وبالأخص جيمي هندريكس وبوب مارلي وبيتير غابرييل، في حين طوّر المغربي عبد الرحمن قيروش، باكو، أسلوباً خاصاً في العزف على "الهجهوج" أو "الكامبري"، وكان هندريكس Hendrix (عازف بلوز وروك أمريكي) يقصده ليعزف معه الموسيقى الكناوية، في “الليلة”.ليلة الدردبة
تحيي الكناوة مناسبات شتى، خصوصاً ليلة النصف من شعبان، فهي واحدة من هذه الفرق العديدة التي تعتبر أنّ النصف الثاني من شعبان هو أفضل موسم للتواصل مع الجن، والتفاوض مع ملوك الجن. بيد أنّ أكثر ما يميّز الكناوة هو إحياؤهم لليلة الدردبة بطلب من شخص يبتغي الشفاء لما يعتقده أن المكروه أو الحظ العاثر الذي أصابه هو بفعل تدخّل من كائن خفي. والدردبة تعني نزول الجن، القصد اذاً استحضار "ملوك" الجن، لغرض شفائي. تنقسم هذه الليلة الى قسمين، عام، يمكن أن يشاهده الجميع، ويحصل في الشارع، وخاص، يحصل في منزل أحد شيوخ الطريقة، ويقتصر على المنتظمين فيها، وعلى الشخص الذي يقصدها للعلاج. القسم الأول، "العادة" أو "الدخلة" يجوب الشوارع، قارعاً الطبول، بقصد طرد الأرواح الشريرة، أما القسم الثاني، في المنزل، بعد منتصف الليل، فيتعاون لإحيائه "المعلّم" وفرقته من العازفين من ناحية، و"الشوافة" أو "المقدّمة" التي سينزل الجن عليها في نهاية الليلة من ناحية ثانية، لجعلها "تنطق" بالخافي. يستغنى في القسم الثاني عن الطبول ويحتكم إلى عود "الكنبري". يلبس فيه كل مريد بما يرمز إلى "ملك" خاص، كعبد القادر الجيلاني المعّرف بالأبيض، أو سيدي حمو المعرّف بالأحمر. تكون رقصات، ويكون بخور وإحراق أطايب الأعشاب، إلى أن يصل الأمر إلى لحظة تقديم ذبيحة للملوك: تيس أسود يجري ذبحه. للإطلاع على ليلة كناوية، هذا الفيلم الوثائقي: &t=322sالجن والملح والسكّر
يقارن الأنثروبولوجي برتران هيل بين ذبيحة عيد الأضحى، وذبيحة "ليلة الدردبة". في الحالة الأولى ترفع الذبائح إلى الله في الحالة الثانية القصد منها اقناع الجن بالنزول على "العرافة" أو "الشوافة" أو "المقدمة”. في الحالتين، من يذبح الخروف أو التيس هو رجل. لكن في حالة "الأضحى"، الاهتمام ينصب على شطف الدماء، وعدم لمسها، وفي المغرب خصوصاً يرش الملح على الدماء لإبعاد الجن. أما في ليلة الدردبة، فإن التيس الأسود الذي يستبق ذبحه بشربه للحليب، ونثر ماء الزهر عليه، فإنه ما أن يذبح حتى يقدّم أول دم يسيل منه إلى المرأة التي ستنطق بما يقوله الجن. وبعد الذبح، تقوم باستخدام الدم المراق في وصفات سرية علاجية، تقوم كلها على خلطه بالسكّر، هذا في حين يطبخ لحم الحيوان في طبق خاص من الكسكسي يعده الكناوية ويحظر فيه استخدام الملح، ويكون محلى، لاجتذاب الجن. تنفرد "العرافة" أو "المقدمة" عن الحلقة في غرفة مجاورة بعد ذلك، ثم تأتي الحشد بالسرّ، وهذا ما يصيب - يفترض - الشخص المقصود علاجه بتفاقم رجفاته حد مفارقة الوعي لدقائق، يتبعها الانفراج، كما في كل نماذج "حلقات الزار" المعروفة. في عملية التفاوض مع الجن، يمكن لملكة من الجن مثل "لالا ميرة" التي تثير الغيرة والحسد في النساء، أن تتحول بفضل "الليلة" الى ملكة طيبة، أو يمكن لملكة أخرى مثل "عيشة قنديشة" أن تتحول من سبب لكون المرأة عاقراً، إلى سبب لتجعلها حاملاً. الكناوة تفاوض موسيقي فريد مع هذا العالم الذي يحيط بنا.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...