14 عاماً أمضاها "يوسف يوئيل ريفلين" بين ألمانيا والقدس، في إنجاز ترجمة مشوقة للقرآن الكريم إلى اللغة العبرية. وهي الترجمة التي تطلبت منه جهداً كبيراً للوقوف على مواطن الجمال في القرآن ومعانيه، وسبر أغواره. لكن، لبالغ الدهشة، كان الهدف من الترجمة، التي جاءت في فترة انطلاق الهجرات اليهودية الأولى لفلسطين، التأكيد على "الروح السامية" المشتركة بين القرآن والتوراة، بين العرب واليهود، وربط الثقافة اليهودية الناشئة في فلسطين، بالفضاء العربي الإسلامي. بكلمات أخرى حاول ريفلين ترويض النص ليناسب أبعاد الثقافة العبرية اليهودية، بإتاحة القرآن للقارئ العبري، وتقديمه كجزء من التراث السامي المشترك. صحيفة "هآرتس" نشرت بتاريخ 23 ديسمبر تحقيقاً مطولاً بعنوان "القرآن... رائد التجديد اليهودي في إسرائيل"، تناول ظروف وملابسات إنجاز العمل، والصراعات الفكرية بين ريفلين ودار النشر التي طبعت الترجمة، وصولاً إلى نشرها عام 1936. وهنا نص التحقيق:
قبل 80 عاماً صدرت ترجمة القرآن للغة العبرية، نتاج عمل شاق قام به يوسف يوئيل ريفلين، والد رئيس إسرائيل، وبياليك، اللذان اعتبرا المشروع مهمة قومية.
في 17 أبريل 1922، وُقّع في القدس اتفاق مبدئي بين دار نشر "دفير" ممثلة في ألتير درويانوف، وبين الدكتور يوسف يوئيل ريفلين. ووفقاً لما تم الاتفاق عليه، تعهد ريفلين بتقديم ترجمة كاملة وبالتشكيل للقرآن حتى نهاية عام 1922، أي بعد خمسة شهور ونصف الشهر من ذلك الوقت.
لكن عملياً بدأ القرآن المترجم على يد ريفلين في الظهور عام 1936، بعد مرور 14 عاماً على الموعد الأصلي. في وقت لاحق من ذلك العام سافر ريفلين إلى فرانكفورت، وهناك درس التاريخ الإسلامي تحت إشراف البروفيسور يوسف هوروفيتس.
بعد حصوله على درجة الدكتوراه، المخصصة في موضوع التشريع في الإسلام، عاد إلى القدس. وعام 1928 عُيّن مساعداً في معهد الدراسات الشرقية بالجامعة العبرية، الذي تأسس قبل فترة وجيزة على يد جودا ليون ماغنيس وهوروفيتس. وعام 1929، عُيّن مدرساً في الدورة التحضيرية "مخينا" للغة العربية، وبعد مرور سنوات ترقى إلى محاضر وبروفيسور للغة والأدب العربيين.
ما هو المغزى من مبادرة ترجمة "أبو الكتب الإسلامية" للعبرية في برلين والقدس خلال فترة الانتداب البريطاني؟ وهل تقدم شخصية ريفلين، المولود في القدس، الصهيوني ابن المستوطنة الأشكنازية "القديمة" الذي تنقل بين دمشق وألمانيا، إجابة على هذا السؤال؟ وما هو دور هذه الترجمة في الثقافة العبرية في الثلث الأول من القرن العشرين؟
ولد يوسف يوئيل ريفلين في القدس عام 1889 لأسرة يهودية ليتوانية، من مجموعة تلاميذ فيلنا جاؤون (عالم تلمود وحاخام وعالم قبالاهي وقائد سابق لليهود الحاسيديم). ودرس في "تلمود هتوراه" التقليدي "عيتس هحاييم"، (تلمود هتوراه هو المقابل العبري للكتاب لدى المسلمين)، وفي المدرسة الحديثة "لمل" ذات الاتجاه النمساوي المجري. وفي وقت لاحق انضم إلى الحلقة الدراسية "عزرا" الخاصة بالمعلمين، الـHilfsverein der Deutschen Juden.
علاوة على ذلك، كان ريفلين أحد التلاميذ اليهود القلائل الذين درسوا في المدرسة الإسلامية الخاصة روضة المعارف، التي تأسست عام 1906.
كان للدراسة بثلاث لغات، العبرية والألمانية والعربية، تأثير كبير على الشاب، الذي شبّ في بيئة تتحدت اليديشية في المستوطنة الأشكنازية القديمة بالقدس.
طُرد ريفلين إبان الحرب العالمية الأولى إلى دمشق، مثله في ذلك مثل الكثيرين من شباب المستوطنة. وعمل هناك مديراً للمدرسة العبرية للبنات. وعندما وضعت الحرب أوزارها، عاد إلى الوطن. لكن عام 1919 رجع إلى دمشق وواصل نشاطاته في الحقل التعليمي. ثم في مطلع العشرينيات انتقل للتدريس في طبريا، وبعدها كما ذكرنا سافر للدراسة في فرانكفورت.
بدأ ريفلين سيرته الأدبية في مرحلة مبكرة من حياته. كان النص الأول الذي نشره كتيباً ساخراً صدر عام 1910. وقتها كان في العشرين من عمره. كان الكتيب "ميثاق روس" محاكاة ساخرة لسفر راعوث. سخر من زعماء حزب عمال صهيون وعدد من النشطاء المحليين الآخرين، في ما أصبح يعرف باسم "المستوطنة الجديدة".
مقال مطول عن الترجمة العبرية الأولى للقرآن في فلسطين، والدور الذي لعبته في الثقافة اليهودية في بدايات القرن الـ20
قصة الترجمة العبرية الأولى للقرآن عند انطلاق الهجرات اليهودية إلى فلسطين، الترجمة التي تطلبت 14 عاماً!الكتيب كان تجسيداً واضحاً للتوتر المتصاعد بين النخبة المحلية الأصلية وأعضاء حزب عمال صهيون، الذين وفدوا في موجة الهجرة الثانية (خصوصاً إسحاق بن تسفي وزوجته راحيل ينائيت)، وفي القدس كان مقر صحيفتهم "هأحدوت" التي تأسست في العام نفسه. هذه الحلقة المبكرة كانت ذات صلة أيضاً ببقية حياة ريفلين. ورغم أنه كان صهيونياً مخلصاً وقاتل في الحرب العبرية خلال فترة "حرب اللغات"، إلا أنه لم ينضم لأحزاب العمال، التي اكتسبت زخماً لدى الجماهير اليهودية في إسرائيل. من الناحية السياسية، كان قريباً جداً من الحركة الإصلاحية التي نشأت في العشرينيات، ونشطت في جهة اليمين من الخارطة الصهيونية. ومن الناحية الاجتماعية، انتمى إلى دوائر النخبة المحلية، كعائلة يالين، أليشار، ميوحس ويهودا، عائلة زوجته الأولى راحيل. في مقدمته لمؤلف آخر مبكر، قام عام 1916 بترجمة قصائد الشاعر العربي ابن القرن الثالث عنترة بن شداد، عرض ريفلين التعقيد في التعامل مع الشعر العربي. وكتب: "معرفة الشعر العربي أمر في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن اليهود، فتأثيره ملحوظ بشكل كبير في أدبنا القديم، لا سيما في العصر الأندلسي. فكل مَن يقرأ قصيدتين أو ثلاثاً من الشعر العربي، ويتبعها بقصائد لشعرائنا في الأندلس، سيدرك على الفور أن لها الروح نفسها، وأنها خرجت من رحم واحدة. حظي الشعر العربي بإشادة من قبله كمصدر للتأثير على قمة الإبداع الشعري اليهودي، وكتعبير عن الروح الإبداعية نفسها. لكن في تلك المقدمة، وضع ريفلين الإبداع العربي في مواجهة الأدب اليوناني، وقارن، مقارنة غير مشجعة، بين الأساطير اليونانية وبين "الشرق الرتيب". وتحت تأثير الخطاب الشرقي الأوروبي، دمج ريفلين في كلامه بين الإعجاب والتحفظ في آن واحد. مع ذلك رافقت فكرة الروح المشتركة للشعر العربي واليهودي أعماله الأدبية في مراحل لاحقة من حياته. من الناحية الشخصية والاجتماعية والثقافية، كان ريفلين مرتبطاً بما تسمى "المجموعة الأورشليمية"، مجموعة من المثقفين والأدباء اليهود، معظمهم من مواليد البلاد، ومن أصول إسبانية أو شرق أوسطية، وكانوا جزءاً من الفضاء الثقافي العربي، وتطلعوا إلى إحياء العلاقة اليهودية العربية. وكما أشارت البروفيسور روث رودد، تأثر ريفلين بالمجموعة وبقربها الفكري والاجتماعي من الثقافة العربية المحلية. لكن لم تكن تلك الصلة المفتاح الوحيد لفهم شخصية ريفلين وأعماله الأدبية. وقد أعرب عن ذلك في رسالة إلى عم زوجته البروفيسور أفراهام شالوم يهودا، عام 1924. تطرق في الرسالة، وكان وقتها يدرس في فرانكفورت، إلى زيارة ديفيد يلين للمدينة وكتب: "كان هنا.. ابن عمكم السيد ديفيد يلين، وشرفنا بزيارته. لكنني لم أتمكن للأسف من الوجود في المنزل وقت قدومه، لأننا لا نلغي تلمود هتوراه حتى من أجل بناء الهيكل". سلوكه المستغرب تجاه معلمه ديفيد يلين، يتضح قليلاً في بقية كلامه: "حدثني البروفيسور هوروفيتس عن أن الدكتور ماغنيس من أميركا كان هنا لديه، وتحدث معه حول الجامعة في القدس. وعلى حد قول هوروفيتس، فإنه شرح للدكتور ماغنيس أنه ليس بمثل ابن عمكم تتجهز جامعة. صحيح أنه يحترمه، لكنه هو شيء والبروفيسورية شيء آخر". يتضح الآن، بعد عامين من سفره للدراسة في ألمانيا، أن ريفلين أحس بالراحة في الأجواء الأكاديمية لفرانكفورت، وبدأ ينظر من أعلى قليلاً إلى يلين، المفكر المقدسي المخضرم. الآن المثل الأعلى لريفلين أصبح البروفيسور الألماني صاحب الأسلوب الأكاديمي الذي جاء من الخارج، وليس الباحث الذي ترعرع في الشرق على أرض الثقافة اليهودية - العربية. أعرب ريفلين عن موقف هوروفيتس وماغنيس اللذين امتنعا عن تعيين يلين لتدريس اللغة في الجامعة المحلية، وعيناه لتدريس شعر العصور الوسطى (وهو مجال اعتُبر أدنى في المكانة الأكاديمية). في مدخله للترجمة، التي ظهرت بعد 16 عاماً من ذلك الوقت، لم ينكر ريفلين العنصر المحلي. فعلى حد قوله، دمجت الترجمة العنصرين، المحلي والألماني - الأكاديمي، جنباً إلى جنب مع التأثير الإسلامي: "لدى شروعي قبل 20 عاماً في هذا العمل، أدركت حجم المسؤولية الملقاة على عاتقي، لكني قمت بذلك انطلاقاً من إلحاح داخلي. من أجل ذلك اتبعت نصيحة معلمي وسيدي الحكيم إسحاق حزقيال يهودا، الخبير إلى حد لا يصدّق في كل الآداب العربية، وأحد أعظم الباحثين اليهود، كما اتجهت إلى أوروبا للاستماع إلى درس في التوراة من معلمي البروفيسور يوسف هوروفيتس رحمه الله، وذلك بعد استماعي إلى دراسات في القرآن على يد شيوخ عرب وفقاً لتفسيرهم الخاص". مصدر "الإلحاح الداخلي" مذكور في بداية المقدمة، لدى وصف أهمية المشروع. بعد التطرق إلى قدسية القرآن لدى المسلمين، وتأثيره السياسي الهائل في آسيا وأفريقيا، اتجه ريفلين إلى تفسير أهميته للشعب اليهودي في فترة إحيائه: "قيمة خاصة نعثر عليها نحن اليهود في القرآن، كونه أحد أعمال الروح السامية الأكثر إبداعاً، هو عمل يفيض بالخطاب العاطفي النبوي الخاص بأنباء سام، وعلى إيقاع أقدم إبداعاتنا، كما لو كنتم من مصدر واحد يترجل من خيام سام. صدى التوق إلى الواحد الأعلى والسامي للمؤمنين بالوحدانية، يتردد دائماً وأبداً من داخله. الوقت مناسب لترجمة هذا الكتاب إلى العبرية مع انبعاث الشعب اليهودي للعودة إلى الشرق، إلى روحه وحياته". لذلك، فإن القرآن ليس مجرد كتاب، بل هو تعبير عن "الروح السامية"، وبالتالي فهو ليس غريباً عن اليهود. على العكس تماماً، هو مثل الكتاب المقدس، يعج بـ"العاطفة الجياشة لأبناء سام". وهو جزء مهم من مجموعة النصوص السامية، العربية-العبرية. وبروح الفيلسوف الألماني ابن القرن الثامن عشر يوهان جوتفريد هردر، الذي كتب عن "الروح في شعر العبرانيين" التوراتي. لم يختر ريفلين الجانب الديني لتسليط الضوء عليه، بل "الجانب الشعري". فالقرآن العربي، مثل التوراة العبرية، يعبّر عن "الروح السامية". تسليط الضوء على القاسم السامي المشترك وليس الاختلاف الديني بين اليهودية والإسلام، يبيّن كيف تمت إعادة كتابة النص المترجم وتكييفه مع المنظومة الثقافية للغة المستهدفة، العبرية الحديثة، في هذه الحالة. جنباً إلى جنب، فإن هذه الترجمة تربط الثقافة اليهودية الوطنية الناشئة بالفضاء العربي الإسلامي، وتطمح إلى خلق فضاء مشترك، يهودي-عربي. وقد انعكس هذا النهج المقرِب أيضاً على أعمال أخرى كتبها ريفلين، مثل ترجمته "ألف ليلة وليلة"، ومؤلفه "حياة محمد" (صدرت بالعبرية فى جزئين)، وكانت تطمح إلى التفاهم والمصالحة بين اليهود والعرب. فضلاً عن أن الأسلوب التوراتي واضح في الترجمة، فاستخدام كلمة "براشا" كترجمة للكلمة العربية "سورة"، تشير إلى أن ريفلين طمح إلى "ترويض" النص ليناسب أبعاد الثقافة العبرية-اليهودية. وبإتاحة القرآن للقارئ العبري، وتقديمه كجزء من التراث السامي المشترك وكجزء من موروثات الثقافة العبرية المستهدفة. ذهب ريفلين ضمنياً إلى الملكية المشتركة للنص المقدس، أي التعتيم على "إسلامية" و"عربية" القرآن لصالح شاعرية سامية يمكن لليهود أن ينسبوا أنفسهم إليها كالعرب والمسلمين. رغم هذا كله، لم تكن ترجمة القرآن مشروع رجل واحد. فإلى جانب ريفلين وقفت دار النشر "دفير"، وهي دار "عامة وطنية" كما أسماها مؤسسوها عام 1924، في العام الذي وقُع فيه الاتفاق المبدئي، مع ريفلين. وعلى رأس "دفير" وقف حاييم نحمان بياليك، الذي، جنباً إلى جنب مع شركائه، يهوشع حنا رفنيتسكي، والتر درويانوف، وشمرياهو ليفين وآخرين، أخذ على عاتقه مهمة إحياء "الروح الوطنية اليهودية"، من خلال جمع وتحرير ونشر الكنوز الروحية للإبداع العبري في كل الأزمنة. "مشروع الاجتماع"، مثلما كان يُسمّى، كان يرافقه كتابة ونشر الأعمال الأدبية والشعرية الأصلية كجزء من إحياء الأمة العبرية إلى جانب ترجمات من الكلاسيكية العالمية. الاتفاق بين ريفلين ودرويانوف، كان ينص على أن ترجمة القرآن يجب أن تجد طريقها داخل ذلك الإطار الصهيوني الفريد. ويتضح من المراسلات بين فروع دفير في برلين والقدس أن ترجمة القرآن كانت ضمن جدول أولويات دار النشر بين عامي 1922 و1924 رغم الصعوبات المختلفة التي أدت إلى تأخير كبير. ومن المثير للاهتمام أيضاً التدخل العميق لبياليك في الترجمة. لسوء الحظ، فإن معظم أرشيف دفير اختفى في مكان ما مطلع الألفية الحالية، وكذلك لا توفر أرشيفات أخرى إجابات واضحة. لكن ثمة مصادر غير مباشرة يمكنها المساعدة في هذه المسألة. على سبيل المثال في 1924، بعد وقت قصير من وصول بياليك إلى إسرائيل، سُئل في حوار أجرته معه صحيفة "هآرتس" (حصلت على بعضها من شموئيل أفنيري، مدير منزل بياليك)، على يد الصحفي المقدسي يوسف كستل، الذي أصبح في ما بعد سكرتير بياليك في "دفير"، عن إبداعات الثقافة العبرية "بروح شرقية" في ضوء عودة اليهود إلى الشرق. فقال بياليك في رده: "نولي اهتماماً خاصاً للأدب العربي. تواصلت في هذا الصدد مع باحث مهم في شؤون الشرق، من مواليد القدس، يعيش في الخارج، وهو من سيتولى هذه المهمة. نحن بحاجة إلى خطة شاملة في مسألة الأدب العربي. لدي أفكاري الخاصة حول هذا السؤال المهم، لكن الوقت غير مناسب لعرضها بالتفصيل". على الأرجح كان الباحث المهم الذي ألمح إليه بياليك هو يوسف يوئيل ريفلين، الذي قضى معه بياليك ساعات طويلة في العمل على النص العبري للقرآن. لكن بياليك، ومن واقع عمله على الترجمة، لم يشعر بالارتياح. في أواخر 1922 أفاد تسفي ويسفلسكي من برلين مباشرة لدرويانوف في تل أبيب، بأن بياليك يرى أن الكتاب يتطلب تحريراً دقيقاً. وكتب: "هذه الترجمة ليس لها مثيل في دقتها وحسها السليم، لكنها لا تعطي أي فكرة عن القرآن". بعد مرور عشر سنوات، اشتكى بياليك في رسالة لرفنيتسكي (نشر يوسف سدان أجزاء منها في 2005 على صفحات هذا الملحق)، من ريفلين وعمله وانتقد أسلوبه، أو انعدام أسلوبه الأدبي. في الرسالة التي أرسلها إلى ريفلين نفسه، وبخه بياليك على التغييرات التي أدخلها على الترجمة بعد أن كتباها معاً: "ها أنا أمرّ شيئاً فشيئاً بالمخطوط، وأمضي قدماً. اعتقد أنه لأمر سيئ أن تهدم النسخة القديمة، نتاج الجهد المشترك. العديد من التغييرات التي ربما تكون جيدة من ناحية القراءة اللغوية للتلاميذ، لكن من الناحية الأدبية ليست سوى فشل جسيم، ويتعيّن علي استنزاف قوتي مرة أخرى في القيام بالتعديل". كان بياليك مهتماً بصفة خاصة بالجوانب الأدبية والجمالية للترجمة. وكانت الدقة في المقابل أقل أهمية بكثير بالنسبة له. ورغم أن كليهما كان معنياً بالقرآن كأدب، فإن ريفلين الذي قطع شوطاً طويلاً كي تخرج من تحت يديه ترجمة مناسبة، كتلك التي تجمع بين روح الحكماء العرب والأساتذة الغربيين، وجد صعوبة في تبني أسلوب بياليك الحر. مثلما وصف ذلك بنفسه كان ريفلين خاضعاً لتأثير كبير من قبل بياليك، لكن بعدما عاد للنص بعد العمل، بدأت الشكوك تراوده. على أي حال، بدا أن الخلافات تعلقت بالتنفيذ وليس بجوهر المشروع، لكن من الواضح أن بياليك، الذي لم يكن يعرف العربية، سمح لنفسه بأن يكون إلى حد كبير محرر الترجمة. كان الهدف بالنسبة له قرآناً عبرياً يصبح جزءاً من الأدب العبري ويثريه. كانت اللغة المستهدفة في بؤرة الاهتمام، وكان من المنتظر أن يصبح هذا العمل جزءاً من ذلك الأدب العبري بروح الشرق التي سئل عنها في الحوار المذكور سلفاً. في نهاية الأمر بقي التحرير في يد ريفلين وحده. في مقدمة الجزء الأول من الترجمة عام 1936 تطرق إلى تلك الخلافات، لكنه كتب عن بياليك مبدياً إعجابه: "وقفت مشدوهاً أمام روح الإلهام التي تفيض من ذلك العملاق". ونسب له حدساً يفوق طاقة البشر تقريباً. وبالفعل فإن الإبداع والاستقلالية الكبيرين قد يضران بمدى مصداقية ودقة الترجمة. وفقاً لريفلين، فرض بياليك شخصيته على القرآن، وكذلك على ترجمات أخرى ألفها وحررها، وأخضعها لإبداعه. في هذه الأمور يمكن الإحساس بالتوتر الأساسي في عمل المترجم بين الخضوع للنص وبين إخضاعه. في الكتالوغ الخاص بدفير عام 1939، بعد وفاة بياليك بخمس سنوات، يظهر القرآن بترجمة ريفلين في قسم "كتب الشعب"، وهو الكتاب الوحيد غير اليهودي بشكل واضح. تشير هذه المكانة الفريدة إلى أنه، وعلى غرار كتب أخرى في هذه الفئة، ينظر إلى القرآن على أنه تعبير عن روح الشعب، وعن العمل الشعري الشعبي للعرب. ويبدو أن هذه الفكرة كانت بمثابة القوة الدافعة لبياليك وشركائه لإصدار ترجمة القرآن. الكتاب المهم للشعب العربي الذي سوف يثري الأدب العبري المتجدد من خلال العمل الأدبي بروح الشرق. كذلك كان ريفلين قريباً من طريقة التفكير هذه. مع ذلك، كانت الترجمة بالنسبة له دمجاً بين الحكمة المحلية والخبرة الأكاديمية الألمانية، والصهيونية المندمجة بشعور قرابة يهودية عربية واضحة. على أن نهاية "الروح السامية" التي تتجلى في الكتاب المقدس والقرآن، هي الربط بين فرعي العرق السامي. القرآن العبري يعتبر خطوة هامة في هذا الاتجاه.
ترجمات عبرية للقرآن
يشار إلى أن ترجمة "ريفلين" لم تكن الأولى للقرآن الكريم، فقد سبقته ترجمات في القرنين السابع والثامن عشر في أوروبا، قام بها يهود، لكنها لم تكن ذات قيمة كبيرة إذ ترجمت أصلاً عن ترجمات إيطالية وهولندية. وعام 1857 ترجم تسفى حاييم هرمان ركندورف القرآن إلى العبرية، لكن ترجمته اعتمدت على مجهودات الكثير من المستشرقين الغربيين حوله، وقد كان لهذا أثر سلبي خطير على تعامل "ريكندروف" مع ألفاظ القرآن الكريم. بعدها جاءت ترجمة "ريفلين" عام 1936، التي تعد حتى الآن أفضل ترجمة للقرآن، وقد كُتبت بلغة تلمودية بحتة. ثم عام 1971، ترجم "أهاران بن شيمش" معاني القرآن إلى العبرية، وهي ترجمة يرى مختصون أنها حرة وغير دقيقة مقارنة بالنصل الأصلي. وقدّم البروفيسور اليهودي "أوري روبين" ترجمة توصف بالسلسة عام 2005 للقرآن، ضمن سلسلة كتب جديدة حول الأديان. وفي عام 2015 أصدر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى العبرية. وفي العام نفسه صدرت آخر ترجمة لمعاني القرآن على يد الفلسطيني صبحي عدوي بعنوان "القرآن بلغة أخرى"، وتمت تحت إشراف مركز "بيّنات" للدراسات القرآنية في عمان بالأردن.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...