شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أشجان سريّة

أشجان سريّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 فبراير 201505:46 م

اقترح علينا تركي محمود بيك، الفنان التشكيلي السوري، أن نكمل قعدتنا عنده في البيت، فوافقنا أنا وفاروق صبري الممثل العراقي، لكن مصطفى الحلاج الفنان التشكيلي الفلسطيني الشهير رفض الفكرة من أساسها، وفضَّل أن نكمل قعدتنا في مطعم اللاتيرنا تحت أنظار لورانس أشهر نادل في التاريخ السوري المعاصر، واستفسر تركي عن سبب الرفض وهو الذي سيقدم لنا البيرة والعرق والعشاء، لكن الحلاج استمر في رفض الفكرة، وعندما أصر تركي على الدعوة وافق الحلاج لكن بشرطين. الشرط الأول هو أن لا يعزف تركي على الناي، والشرط الثاني أن لا يجهش فاروق بالبكاء بعد الكأس الثاني من العرق، كعادته. وافقا وانطلقنا.

في التكسي، همس الحلاج لي بأنه في المحلات العامة يستطيع مغادرة الطاولة عندما لا تعجبه الجلسة، لكن في البيوت تكون المغادرة ذات وقع أقوى، وربما تؤدي إلى زعل بين الأصدقاء. لذلك فإن شروطه كانت كي لا تصل الأمور إلى هذا الحد، فهو لا يحتمل عزف تركي وشروحه، ولا يحتمل تراجيدية فاروق العراقية التي لا تنتهي على حد تعبيره… مد كفه لي كي أدق كفي بها كالعادة مطيِّباً له وموافقاً على ذكائه اللحظوي، وطرقت كفي بكفه وضحكنا ضحك طفلين معاً، ونزلنا من التكسي إلى البيت سابقين ظلنا إلى البيرة المثلجة التي يعشقها الحلاج، وإلى العرق الذي تثير لحظة تحوله من اللون الشفاف إلى الأبيض بعد صب الماء فوقه كل اللواعج في قلوب الشريبة المتميزين.

نزلت المازوات يا شباب على الطاولة التشكيلية الملطخة بكل الألوان الممكنة، وبعد أن شربنا كأسين والحلاج ما زال في زجاجته الأولى من البيرة، مدّ تركي يده إلى علبة ناياته العشر وقال مقدِّماً الناي الأول: هذا الناي يا حلاج ناي أذربيجاني أصلي… لكن الحلاج قاطعه بإشارة من يده كي يعيد الناي إلى صندوقه الأسود: تركي، اتفقنا، مش بمزح معاك كنت. كانت لهجته قاطعة، وكانت ردة فعل تركي سريعة أيضاً، فأعاد الناي إلى الصندوق وكأن شيئاً لم يكن، في حين بدأت علامات التعب تظهر على وجه فاروق، يريد أن يبكي الآن، قَلَبَ الكأس الثالث جرعة واحدة وقال: بغداد يا حلاج... لكن الحلاج عاجله بلهجة حاسمة: فاروق، انسَ بغداد. ونسي فاروق بغداد بلحظة، فالحلاج وضع شرطاً، والإثنان سيلتزمان، لأن الحلاج يستطيع تكسير البيت لحظة غضب، يمكنه أن يفعل ما يشاء.

تابعنا الجلسة الهادئة ونحن نستمع إلى مغامرات الحلاج الخيالية مع غورباتشوف وجمال عبد الناصر ونيلسون مانديلا التي يسردها علينا دائماً كلما أمعن في السكر. عبد الناصر قال لي: يا حلاج نِدّي مشروع السد العالي لأمريكا أم نعطيه للاتحاد السوفييتي؟ قلت له يا جمال أنا ما ليش دعوى، اسأل الشعب المصري…  قال الحلاج ومد كفه المفتوحة إلى كفي فدقيت عليها معجباً بشدة، ثم أردف: قال لي غورباتشوف: نعمل البيروسترويكا الآن أم نؤجلها قليلاً يا حلاج؟! قلت له: اسأل السوفييت يا ميشا. مد الحلاج كفه فدقيتُ كفاً أقوى من الذي قبله، وانتهت الزجاجة الثانية فنهض الحلاج إلى دورة المياه بفعل البيرة وهو يسألني: إيه الفرق بيننا وبين الحمير؟ ثم أجاب بنفسه: الحمير بتاكل الشعير ونحنا بنشرب العصير، ها ها ها ها. ومد كفه فعالجته بدقة كف معجبة من جديد قبل أن يمضي.

ما إن أغلق الحلاج باب الحمّام خلفه حتى أخرجَ تركي الناي من الصندوق الأسود وقال لي: يا لقمان، هذا الناي أوزبكي، اسمعْ. وبدأ بالعزف بينما أجهش فاروق بالبكاء وهو يتممتم: بغداد، شارع المتنبي، مطعم أبو نواس، دجلة، دَمَّرني المنفى، دَمَّرني.

سمعنا صوت الباب، الحلاج عاد، وتركي يعيد الناي إلى صندوقه، وفاروق يمسح الدموع بما تيسر له من مناديل متبقية في جيوبه، ثم استقبلنا مجيء الحلاج المظفر من الحمَّام بعد الجولة الأولى من إعادة البيرة إلى البلاليع كما يحلو له أن يقول وكأن شيئاً لم يكن.

تابع الحلاج شرب البيرة وهو يحدثنا عن مغامراته العبثية التي يحلو له سردها عندما يسكر فقط، فهو في حالات الصحو لا يتذكرها. كانت نوعاً من رسائل غامضة يرسلها الحلاج إلينا في هذياناته الكوميدية، إلى أن حان موعد الخروج إلى الحمّام من جديد وهو يردد: البيرة يا ابني، البيرة… إلى أن سمعنا صوت الباب وهو يوصد خلفه، أجهش فاروق بالبكاء بعنف، بينما أخرج تركي ناياً آخر وقال لي باعتبار فاروق يسبح في بحر الدموع الآن: هذا الناي يا لقمان من تركمانستان، اسمعْ. وبدأ العزف الشجي، وفاروق يشهق كموسيقا تصويرية لمشهد العزف.

طاخ، صوت الباب، الحلاج يعود من دورة المياه، تركي يعيد الناي إلى الصندوق، وأنا أزدرد قطعة مخلل وأتبعها برشفة عرق، وفاروق يبحث عن المناديل، لا مناديل، أزمة مناديل، أزمة محارم يا صاح أواخر الثمانينات في سوريا، مسح فاروق بكفيه دموعه والحلاج يدخل بتثاقل ضاحك وهو يقول: البيرة رجعت للتواليت، ها ها ها ها. ثم انتبه إلى أنَّ فاروق يبكي فأردف مستفسراً وغاضباً: فاروق، عم تبكي؟ أجابه فاروق أن لا، نظر الحلاج نظرته الخبيثة المولدنة وسأله عما تفعل الدموع المنبثقة من عينيه على خديه إذن؟ أجاب فاروق ثائراً: هذا عرق حلاج عرق مو دموع، البيرة ترجع للبلاليع، بس العرق يطلع من العيون، منين يطلع يا حلاج؟! من العيون، رددنا أنا وتركي معجبَين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image