للمطارات رهبة، فأنت الآن تحت الأنظار، مشبوه ومتهم حتى تثبت العكس، ستمر حقائبك كلها على المفتشين بما فيها لاب توبك وموبايلك، كما أن جسدك سيمر أيضاً... هذا في الدول الراقية، أما في الدول الأرقى، أي دولنا العزيزة، فسيفتشون حقائبك وسيفتحون لاب توبك ويتصفحون كتاباتك وملفاتك، فهم من محبي العلم والثقافة، ويستغلون كل لحظة من لحظات عملهم الشاق لاكتساب المعرفة، وسيسألونك عن فلان الذي وجدوا اسمه في موبايلك، وعن علتان الذي قرأوا رسالة منه على حسابك في الفيسبوك، سيطلبون باسوورد رأسك، سيفتحون دماغك ليباشروا أعمال التنقيب فيه، لكي تعرف أن للمطارات رهبة، وأن مطاراتنا هي الأرهب، وبغض النظر عنا، إذ أننا في هذا الردح من الزمن أصبحنا مشبوهين حتى في المطارات الراقية.
في زيارتي العام الماضي إلى باريس سألتني الموظفة عن الأموال التي أملكها في حسابي، فقلت لها أنني بلا حساب في البنك، فسألت عن "الكاش موني" في جيبي فقلت لها بأنني مدعو إلى مؤتمر ثقافي وهم سيصرفون علي لثلاثة أيام ويصرفونني بعدها، لكنها أصرت أن تعرف كم أملك في جيبي من نقود، قلت لها بأنني أحمل مائتي دولار فقط لا غير، لكنها لم تصدق هذا الرقم! يبدو أن شكلي أندبوري زيادة عن اللزوم... غضبتُ يا شباب، وأخرجت المائتي دولار من جيبي ورميتها أمامها بعصبية تليق بالشعراء، فوقفت على قدميها وأشارت إلي أن أقف هناك، نعم! قف هناك.
قالتها بغضب شديد فوقفت هناك، وانتظرت لمدة ساعة حتى جاءني موظف وأخذني إلى غرفة البوليس، وأجلسني. الدعوة ليست معي، لكنها على بريدي الإلكتروني، فتحنا البريد الإلكتروني، وقرأ الدعوة، اسم الفندق عليها، والفيزا موجودة على جوازي، كما أنني سبق وزرت باريس قبلاً، لكن الشك بقي يعتصر قلبه، رغم أنه سمح بدخولي إلى باريس أخيراً لكن على مضض ومو من قلبه.
في النروج قبل شهر طلب مني الموظف أن أجلس على الطرف فور مشاهدته لجوازي السوري، وجلسنا يا أبو شريك، ثلاث أرباع الساعة وأنا أنتظر حتى نفد صبري. أشرتُ إليه بأنني تأخرت، فأرسل لي الشرطي. بدأ الشرطي بسؤالي عن سبب زيارتي، وجلستُ أشرح وأشرح، وأعطيته اسم الفندق، واسم رئيس اتحاد الكتاب النرويجيين ورقمه، وأنا في قمة الغضب، بل وطلبت منه أن يجد طريقة لعودتي إلى تركيا فأنا لم أعد أريد الدخول إلى أوسلو، قال لي بأن أهدأ، ونصحني أن لا أتحدث بكل هذا الغضب كي لا يغضبوا مني، ودخل إلى مكتبه وعاد بعد أن أجرى اتصالاً برئيس اتحاد الكتاب وفي يده جوازي السوري المشبوه وقد نال ختماً أوروبياً جديداً على صفحاته.
سافرتُ إلى لاتفيا، ولم يستوقفني أحد في مطار ريغا، هذه رحلة داخلية بين المدن الأوروبية الشقيقة، وفي طريق العودة إلى أوسلو وأثناء خروجي رمقني الشرطي بنظرة ذكاء وأنا أدفع بعربة حقائبي أمامي، قلت لنفسي أن فصلاً جديداً سيبدأ بالتأكيد، جوازك، تفضل، سوري! إي يا أهلين وسهلين، شرِّف يا حبيب... وبدأ التفتيش من جديد، فتح الحقيبة الأولى، لا مخدرات للأسف، لسان حاله يقول، لا حشيش، لا قنابل، لا سكاكين، لكن توجد زجاجة بالزام، وهو كحول لاتفي شهير، هز رأسه وقال: معك بالزام. قلت نعم معي بالزام، ظننتُ أنه سيصادرها بشكل ودي كما يحدث في مطاراتنا، لكنه لم يفعل، ولما سألني عن سبب زيارتي أعطيته رقم رئيس اتحاد الكتاب النرويجيين وطلبت منه أن يسأله، دخل إلى مكتبه وخرج، ثم تركني أدخل إلى أوسلو على مضض، يعني مو من قلبه هو كمان…
كان أصدقائي ينتظرونني في محطة القطار كما هو مفترض عندما نزلت في محطة أوسلو سنتر قادماً من المطار، لكنني لم ألمح أحداً، أشعلت سيكارة وأنا على الرصيف بين قطارين، وبعد النفس الثاني جاءني خمسة مدنيين، أشهر أحدهم بطاقة في وجهي تفيد بأنه من الشرطة السرية، يعني الأخ مخابرات، والأربعة اللي معه متله، ولكنني لم أفهم، ابتسمت له، سألني إلى أين أذهب، فحكيتُ له قصة حياتي، ومتى موعد طيارتي إلى تركيا، وطلب الجواز، وشاهد الفيزا، كما شاهد بطاقة الطائرة، بل وسوَّلت له نفسه أن يطلب مني أن أسمح له بتفتيش حقائبي، فأشرت له أن يفتحها بنفسه ويفتش بكل انزعاج وأنا أدخن بغضب كراكب فاته القطار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...