أنا مطلوب إلى الخدمة الإلزامية منذ عشر سنوات، مع ذلك استطعتُ الهروب والتملّص بالطرق التي يتيحها الفساد.
عدم ذهابي إلى الجيش جعلني في حصار دائم، فإصدار نشرة شرطيّة كل فترة يعني أن إسمي وأسماء من هم في وضعي معممة على نقاط الحدود ومراكز الشرطة.
وهذا يعني أنه لا مجال للسفر، ومن الضروري جداً تجنّب الإشكالات، حتى الحوادث المرورية منها، لأن الوقوع في أية مشكلة مهما صغرت يعني الذهاب إلى الجيش في ليلة لا قمر فيها. وهو أمرٌ مضنٍ ومرير، ويتطلب اتمام دورة كاملة على السجون العسكرية في كافة محافظات البلد.
صدفة عمياء كسرت بطاقة هويتي الشخصية، ولم أستطع تبديلها بواحدة أخرى لئلا أسوح في سجون الوطن وجيشه الأبي. حين جاءت الثورة ظهر على الإعلام دعاة متدينون حمقى طالبوا بكسر بطاقات الهوية كإعلان للعصيان المدني، وكأن العصيان يبدأ في أن نضرب هوية المواطن، لا الإضرار بمصالح الطغمة الحاكمة والحيتان الكبار. العصيان لم يحدث، لكني وجدتُ نفسي من العصاة المطلوبين للقصاص، إضافة إلى كوني مطلوب أساساً، ولا أستطيع تبديل هويتي. كان المتاح أمامي فقط هو التجوّل ببطاقات إخوتي.
الحلول النوعية تصبح تجارة، لا سيما وأن ما يقارب ثلثي الشعب من المطلوبين. انتشرت بطاقات الهوية المزوّرة، التي بدأت مع رجال الأمن أنفسهم، إذ راح الواحد منهم يحمل بطاقات صالحة للعبور في كل مكان، كي لا يقع تحت رحمة المعارضة المسلحة.
اشتريت هوية وصار إسمي مروان حمد حسن. بشجاعة زائفة رحتُ أتجول غير مبالٍ بالحواجز والتفتيش. ولما راقتني اللعبة بدأت أقدم نفسي في كثير من الأماكن، ومع أناس جدد بوصفي مروان الذي اخترعت له سيرة مشتهاة. جعلته بائع ألبسة نسائية تهدّم محله، خليعاً لا يؤمن بالحب، ذا نظرة متدينة نسبياً، إضافة إلى لجوئه إلى حل كثير من المسائل بعضلاته. جعلت له آراء راديكالية راح يعبّر عنها على صفحةٍ له على فيسبوك، لتصير نادياً لتدريبي على مرواني في حال انكشف أمري، فالخوف لا يمكن أن يزول في بلاد كهذه، ولا بد للشجاعة كثير من البروفات!
المشكلة أن مروان في كثير من اللحظات كان يتلبسني فعلاً، فيملي عليّ ما لم أفكّر فيه؛ تشاجرتُ به، سكرتُ به، دخلت منطقة شبيحة لأجل عيون فتاة لم أجرؤ على الذهاب إليها سابقاً لشدة التضييق الأمني. زرتُ «الحجر الأسود» و«برزة البلد» و«كفر سوسة» في أحلك أوقاتها.
حين أخبرني صديق أنهم بدؤوا يكتشفون أمر الهويات المزورة بجهاز فحص «الكود» قلّلت حركتي، فقد قُتل الكثير من الـ"مروانات" فوراً، بإعدام ميدانيّ لا نقاش فيه. تضاءل مروان فيّ مع عودة الخوف، قلّت رغباتي الثورية، ولم أعد أحرّكه في المدينة خارج المربع الآمن الذي يتوسطه بيت حبيبته. آخر ظهور لمروان حمد حسن هو اليوم الذي خرج فيه من منزل حبيبته حين واجهته دورية التفتيش في ممر البناية، فالذي حدث أن الضابط أشار إليه بالبندقية:
- أين تسكن..؟
- في الطابق الثالث.
- مع من؟
- مع زوجتي.
- اصعدْ إلى بيتك.. سنأتي إليك بعد قليل.
تراجع مروان عدة خطوات إلى الوراء حين ناداه أحد عناصر الدورية وطلب هاتفه المحمول. قدم الهاتف المحمول وأشعل سيجارة له ولرجل الأمن، في نوع من ادعاء الثبات، وربما يكون رائد هو من قدم السيجارة وليس مروان... فالأخير شخص لا مبالٍ ولديه نزعة ثورية لا تضارع، ربما ساعده على ذلك إيمانه القليل الذي سيشتد في هذه اللحظة. بينما الأول جبان وخائف، فهو نتاج كل مدخلات الخوف ومخرجاتها خلال ثلاثين سنة كاملة من الإرهاب الأمني والمجتمعي، لكن مروان نتاج اللحظة الثورية وانكسار الخوف والخروج إلى الميادين والصراخ بإسقاط الاستبداد.
نبش عنصر الأمن التلفون نبشاً. بحث في الأغاني والصور. بحث في الأسماء وسجل الاتصالات. وحين بدأ بالرسائل راح يضحك. كان بريد رائد لا مروان هو المضحك. رسائل بالعشرات من نساء شهوانيات يمارسن رغباتهن في رسائل قصيرة ستبدو كوميديا رخيصة لو سردتها الآن، لكنها أعجبت عنصر الأمن، أعجبته إلى درجة أنه راح يضرب كتفي (كتف رائد ومروان معاً) كصديق. ركن كلاشينكوفه جانباً واستند إلى الجدار بينما مروان يقف أمامه بثبات، ورائد يقف داخلي مترنحاً.
أعاد رجل الأمن الموبايل وطلب إلى مروان الصعود إلى زوجته كي يستقبل التفتيش. «لكني متأخر عن عملي» قال مروان، «أخبر زوجتك بأننا قادمون ويمكنك أن تنصرف»، أعلن رجل الأمن. صعد مروان وأخبر المرأة بوصول الأمن. قال لها سأمضي قبل أن ينتبهوا لبطاقتي وعليك إكمال الفيلم.
ثم مضى، أو مضيت. مضيت وودّعت مروان إلى الأبد. وها أنني أتمنى لو أتيح أن أكونه أكثر. عندي المزيد من الأفكار لأغادرني نهائياً، كل ما لا يعجبني موجود فيه، ومروان فرصتي لأكون ما لا يعجبني. أريده قاسياً، بارد الأعصاب، لا يؤمن بالحب، لئيماً حين يقتضي الأمر.
لدي خطة كاملة لمروان رغم أن رائد بلا أي خطة. هل كان مروان صديقي بما أن الأصدقاء جزء منا، ومن هوياتنا؟ أم أنه مرحلة عمرية كالطفولة والمراهقة؟ هل من الأنسب اعتباره مرحلة الشجاعة؟ ربما... فالأعمار من الطفولة إلى الكهولة في هذه البلاد خوف أعمى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...