بفستان يضجّ حياة، لا يظهر سوى نصفه السفلي، وسترة سوداء تصل إلى الركبتين، وشعر أسود ترك نفسه للهواء، وضعت "أنجل الشهري" يديها في جيبي السترة، ووقفت في شارع عام بلغة جسد واثقة، لتلتقط صورة.
حسناً، قد يبدو الأمر عادياً إذا ما قيس بملايين الصور التي تؤخذ يومياً في العالم وتتم مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه الصورة تحديداً لم تكن كذلك. لقد وقفت أنجل أمام الكاميرا من دون غطاء رأس في الفضاء العام السعودي. هكذا تصبح لقطة يُفترض أن تكون عادية، فعل مقاومة لجميع أنواع المحظورات على المرأة السعودية. لم يكن من داع لتبتسم أنجل كي تكون الصورة حلوة، شعرها أنجز المهمّة.
ولأن كسر المحظور لا يأتي على قياس جميع الأذواق، ظهر هاشتاغ "نطالب بالقبض على المتمرّدة أنجل الشهري"، وفيه كيلت الشتائم والتهديدات على أنواعها، لمن "خالفت شرع الله وأحكام القانون وعادات المجتمع".
هؤلاء وجدوا من يردّ عليهم. فانقسم المدافعون عن الفكرة إلى فريقين: الأول منتقداً "الازدواجيّة" في تعامل السعوديّة في قضايا مماثلة، فتترك الأجنبية سافرة وتُلزم السعودية، ومنهم من انتقد "العباءات التي تفضح مفاصل الجسد ومسموح بها في السعودية، بينما يخيف الشعر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وفي شقّ الازدواجية يندرج معطى آخر. في مطلع هذا العام، عندما سُئل ولي العهد السعودي في مقابلته مع مجلة "الإيكونوميست"، كما مع شبكة "بلومبرغ"، عن حقوق المرأة السعودية أبدى انفتاحه على الكثير من التغييرات. وعندما زارت زوجة الرئيس الأميركي ميشيل أوباما السعوديّة لم تُلزم بستر شعرها. وعندما يسافر السعوديون (والسعوديات)، لا سيما من الطبقة الحاكمة والثرية، إلى الخارج، يجارون الثقافة الغربيّة، ولا أحد يهدّد بمعاقبتهم بعد العودة إلى بلادهم.
أما الفريق الثاني فكتب مدافعاً عن أنجل التي عبّرت عن رغبة مماثلة لدى الكثير من الفتيات. هذه الرغبة لم تتوقف عن النمو خلال الأعوام الماضية. فكانت مبادرة "ثورة النساء السعوديات" عام 2011، بعدما دشنت مجموعة من النساء صفحة على فيسبوك نشرت من خلالها مطالب النساء السعوديات بالتحرّر من التمييز الجنسي المجحف والحصول على حق العمل وقيادة السيارة والتنقل بحرية خارج البلاد وداخلها. كذلك حملة "النساء للقيادة" التي دعت لمنح المرأة هذا الحق، ونشرت فيديوهات كثيرة لسيدات أثناء القيادة، منهن منال الشريف التي تمّت معاقبتها بالسجن.
وفي العام 1990، قادت 47 امرأة سعودية سياراتهن فاعتقلن مباشرة. كان ذلك خلال حرب الخليج، ولم يسمع أحد بهن حينها. أظهرت صورة أنجل قوة وسائل التواصل مرة أخرى على فتح كوة التغيير. ليس ذلك فحسب، بل أعادت إلى الذاكرة صورة نساء عربيات قويات من التاريخ تحدين مجتمعاً ظالماً وخلعن الحجاب لأول مرة، كما نظّرن لخلعه.
من هؤلاء:
هدى شعراوي في مصر
كانت هدى محمد سلطان باشا، التي كُنيت لاحقاً بهدى شعراوي على كنية زوجها علي شعراوي (في أول تقليد للغرب بحمل اسم الزوج)، أول من نادى بنزع الحجاب في مصر. وقد فعلت هي ذلك ونزعت حجابها عام 1923. تحمل قصة شعراوي الكثير في طياتها عن بدء حركة تحرّر المرأة المصرية.زوّجها أهلها لابن عمتها الذي يكبرها بأربعين عاماً وهي في الثالثة عشرة من عمرها، ولم تكن تعرف بذلك الزواج إلا قبل حدوثه بنصف ساعة. كان زوجها أحد قادة ثورة عام 1919، وكان صوت النساء في تلك الحقبة غير مسموع. في العام 1919، قررت شعراوي أن تبدأ الكفاح عندما خرجت على رأس تظاهرة نسائية مع صفية زغلول للمطالبة بالإفراج عن سعد زغلول ورفاقه.
كانت شعراوي صديقة مقربة من زغلول التي نادت بتحرير المرأة، كما تأثرت بزوجة حسين رشدي الفرنسية التي كانت قد ألفت كتابَيْ "حريم ومسلمات مصر" و"المطلقات".
صورة يُفترض أن تكون عادية قد تصبح فعل مقاومة لجميع أنواع المحظورات... هذا ما تشي به روايات التاريخ عن نساء تجرأن على خلع الحجاب والتنظير لخلعه، من هدى شعراوي إلى صلوحة بوزقرو
"رفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي سيزا نبراوي وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه"... هدى شعراوي، نظيرة زين الدين، فاطمة الحسين وأخريات تحدين مجتمعاتهن عبر التاريختقول الأديبة وداد سكاكيني في مذكراتها "لما عادت هدى شعراوي للمرة الأولى من الغرب كانت تفكر في هذه التقاليد الموروثة التي لا تسمح لها بالظهور سافرة في بلادها، فثارت عليها وما كادت تطل على الإسكندرية، حتى ألقت الحجاب جانباً ودخلت مصر مع صديقتها سيزا نبراوي بدون نقاب، فلقيتا جراء هذا السبق بالسفور لغطاً وتعنتاً من المتزمتين".
وكان أن شجعت شعراوي عدداً من الفتيات على السفر "كي تعود الطالبات حاملات إلى الوطن عناصر الثقافية الغربية ومثلها العليا في الحياة الاجتماعية"، وذلك بعدما تعرفت على الثقافة الأوروبية في رحلة استشفائية للخارج.
وتروي الشعراوي في مذكراتها التي نشرت عام 1976، بعد رحيلها بـ29 عاماً، ما جرى وقتها، وتقول: "رفعنا النقاب أنا وسكرتيرتي سيزا نبراوي وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه…".
أسست الشعراوي جمعية الاتحاد النسائي المصري، ثم نالت عضوية الاتحاد النسائي العالمي، بينما عاد اسمها للتداول عام 2015 مع انطلاق حملة مليونية خلع الحجاب.
نظيرة زين الدين في لبنان
تجرأت ابنة أحد أبرز أعلام القضاء نظيرة زين الدين على نشر كتابها "السفور والحجاب" الذي يدعو المرأة إلى التمرّد على الحجاب، في عام 1928 حين كان المجتمع العربي غارقاً في التشدّد وإقصاء النساء.وألقت زين الدين العديد من المحاضرات التي كان لها دور في التأثير على النساء، خاصة بعد إصدار كتابها "الفتاة والشيوخ" عام 1929 والذي حظي حينذاك بردود ترحيبية من كتاب وشعراء. وقد أبدى خليل مطران إعجابه بكتاب زين الدين واعتبره رشيد سليم الخوري "كتاب الجيل" كما أشاد به أمين الريحاني.
تزوجت زين الدين لاحقاً وأجبرها زوجها على التفرّغ لأعمال المنزل. لم تخلع نظيرة الحجاب، لكنها كانت من رائدات التنظير لخلعه والتعمق في الآيات القرانية الخاصة بالمرأة، والداعية لعدم تشييئها. رفضت أن يكون ضعف المرأة سببه ضعفاً جوهرياً فيها كما يسوّق الرجل بقدر ما هو ناتج عن طول فترة استعبادها.
بعد تلقيها العديد من تهديدات القتل، رضخت زين الدين أخيراً لسلطة الرجل فاختفى اسمها من التداول لسنوات طويلة. قد ينتقد البعض الكثير من التناقضات بين ما كتبته وما عاشته، لكن لا يمكن محاكمة كتاب يطالب بحرية المرأة صدر في مطلع الثلاثينات وكأنه كتب اليوم. لقد عاشت أفكار نظيرة لتستعيدها النساء اليوم، وتستمد كل واحدة منهن قوة الفعل منها. صحيح أن الزمن تغير وسقف الحرية ارتفع، ولكن كان لكل زمن امرأة مقاومة تجرأت أن تكون الأولى.
فاطمة الحسين في الكويت
كانت فاطمة الحسين أول من خلع الخمار في الكويت. في الأربعينيات والخمسينيات كانت الكويت مشغولة بالجدل حول الحجاب والعباءة، بين فئة متشددة اعتبرتهما تقليداً راسخاً وبين فئة حداثية أكملت تعليمها في الخارج ورأت أن ذلك عادة بالية.الفئة التي رأت في الحجاب عادة بالية شجعت في مقالاتها وندواتها إحدى فتيات الثانوية على تنظيم عملية حرق سرية للخمار في باحة المدرسة. عرف ذلك لاحقاً، عام 1953، بـ"ثورة الخمار" التي كتب لها الفشل تحت تأثير ضغط الأهل وتهديدهم.
كتبت الحسين في مذكراتها "أوراقي" القصة كاملة، ومما جاء فيها: "الخمار غطاء الوجه هذا هل يعقل أن يبقى عثرة؟ تبادلت النظرات أنا وصديقاتي في ثانوية "القبلة" ثم عقدنا العزم على حرق الخمار".
لاحقاً، ذهبت فاطمة وأخريات إلى مصر لإكمال تعليمهن، هناك كن يتجولن بلا خمار، وعندما يعدن إلى الكويت كن ملزمات بارتدائه. تقول فاطمة: "قررنا نحن الثلاثة، أنا وشيخة العنجري وليلى محمد حسين أن نخلع الخمار والعباية للأبد وهكذا نزلنا مطار الكويت بدونهما... أما الباقيات فقد قررن نزع الخمار أولاً ثم العباءة".
لم تكن الخطوة سهلة البتة، لكن "كويت الخمسينيات كانت كويت المتغيرات والمستحدثات والنقلة الحضارية التي رافقت ظهور النفط، وكان يعم المجتمع حس بأهمية اللحاق بالركب... كما خلق التعليم فجوة بيننا وبين أمهاتنا جعلت الأم تشعر بضعفها أمام ابنتها وصارت تفاخر بتلك الفتاة الجامعية مما جعلها تأخذ دور المدافع عن البنت".
صلوحة بوزقرو في تونس
في الثالث من شهر أغسطس عام 1957، أقدم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة أمام حشد شعبي كبير على خلع حجاب إحدى السيدات كدليل على علمانية تونس ودخولها في غمار التقدم والانفتاح، مشعلاً الجدل في العالم العربي.تقول صلوحة بوزقرو إنها كانت أول من خلع الحجاب. كانت صلوحة متزوجة من قاض تونسي يدعى عبد القادر محله، اشتهر حينها باسم "قاضي الإسلام"، وكان أحد رفاق بورقيبة المخلصين الذين اشتركوا في النضال معه ضد المستعمر الفرنسي.
تؤكد بوزقرو أن زوجها كان إلى جانبها يوم الواقعة الشهيرة، فبعد أن انتهى بورقيبة من إلقاء خطبته أمام حشد من التونسيين نزل من على المنصة وتوجه نحوها ونزع عن رأسها لحافها "السفساري"، قائلاً "لن تحتاجيه فوق رأسك بعد اليوم".
مرت صلوحة بالكثير من التعرجات، والصراع مع والدتها، إلى أن كرمها السبسي خلال العام الحالي مع نساء أخريات لمناسبة احتفال تونس بعيد المرأة.
لا يتسع المجال هنا لذكر كل النساء اللواتي اتخذن مبادرة أولى في هذا المجال، فهن كثيرات، منهن من ظهرن للعلن ومنهن من بقيت قصصهن في الظل. وقد لا تكون خطوة أنجل الشهري سريعة التأثير، لكنها تؤسس للتغيير. هذا ما تشي به روايات التاريخ.
في كتابها "ثورة تحت الحجاب"، تقول الصحافية الفرنسية كلارينس رودريغز التي عملت في السعودية تسع سنوات إن "هذه الثورة بطيئة لأنها تسير على إيقاع البلد. ولا ينبغي الحكم عليها وفق معاييرنا نحن النساء الغربيات، فخلال السنوات العشر الأخيرة، شهدت البلاد إصلاحات كثيرة".
في الكتاب قصص عن نساء عدة حققن خرقاً صوب الحرية، من الناشطة السياسية والفنانة وسيدة الأعمال وربة المنزل إلى الأميرة، وجميعهن لم يترددن في البوح عن نضالهن ومخاوفهن وآمالهن بالعيش يوماً في بلد تحظى فيه المرأة بالمكانة التي تستحق.
قد يقول البعض إن هذه الخطوات لن تحقق المطلوب، ويشعر آخرون بالعجز لا سيما في ظل تصاعد التطرف الإسلامي، لكن رودريغز تنقل عن الكاتب سعود الشمري قوله "خلال عصر الأنوار في بلادكم، من الذي كان يصغي إلى ديدرو وروسو؟ كان المفكرون وحدهم من يصغون إليهم وليس عامة الشعب، وهكذا تحركت الأشياء. لقد أمضيتم قرابة مئتي عام لتصلوا إلى ما أنتم عليه اليوم. أما نحن، فإننا نعيش عصر التنوير الخاص بنا الآن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي