لا يعدّ الحديث عن الحجاب في إيران موضوعاً حديث النشأة لا بل رافق تاريخ البلاد حتى أنه يندرج في قلب نقاش يدور منذ عشر سنوات من دون التوصّل إلى نتيجة. في السنوات الأخيرة، كانت الشرطة الإيرانية قد استحدثت شرطة أخلاقية مهمّتها التحقق من ارتداء الحجاب، تستطيع فرض غرامات على المخالفات أو حتى اعتقالهن. طلب الرئيس حسن روحاني، بعد فترة قصيرة من توليه منصبه، من هذه الوحدة إبداء التسامح مع مسألة الحجاب، لكنّه أكّد أن على إيران "ألا تتّبع النمط الغربي في مسألة حقوق النساء".
تخبرنا نينار (اسم مستعار) التي أكملت دراستها وتعيش في الخارج أن الحجاب الأكثر شيوعاً الذي ترتديه النساء منذ نحو 500 عاماً في إيران هو "التشادور"، أي قطعة من القماش السوداء التي تلفّ الجسم والرأس والتي يمكن حملها بيد واحدة وتسمح بالكشف عن الوجه. إلا أنها تضيف أن المرأة المعاصرة، خلال السنوات الخمسة والثلاثين الأخيرة، ترتدي وشاحاً على رأسها و"مانتو" يشبه المعطف، بات مع مرور السنوات ومع جيل النساء الجديد، أقصر وغير فضفاض.
ولكن، هل كانت الإيرانيات دائماً محجبات؟
"كان للمرأة في بلاد فارس مقام سامٍ في أيام زرادشت كما هي عادة القدماء، فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه" بحسب ويل ديورانت Will Durant في كتاب "قصة الحضارة". انحطّت منزلتها بعد داريوس (أحد أشهر الملوك الأخمينيين، 521 ق.م.) وخاصّة بين الأغنياء، في حين احتفظت المرأة الفقيرة بحريتها في التنقل لاضطرارها إلى العمل. أما غير الفقيرات، فقد كانت العزلة المفروضة عليهن في أيام حيضهن (كما لدى اليهود) تمتدُّ حتى تشمل جميع أوجه حياتهن الاجتماعية. يضيف ديورانت "لم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤن على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يُسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحُرّم على المتزوجات منهن أنْ يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوتهن. ولم تُذكر النساء قط أو يُرسمن في النقوش أو التماثيل العامّة في بلاد فارس القديمة". استمر هذا التشدد في الحجاب خلال الامبراطورية الساسانية (226- 651 ميلادي) قائماً في المرحلة الإسلامية.
واقع أكّد عليه كثير من المسافرين الغربيين (بحسب مقال لباباك خانداني Babak Khandani عام 2010) الذين لاحظوا هذا الشرخ في المجتمع: في المدن، مكثت النساء في المنازل ولم يخرجن إلا مرتديات برقعاً أسود. أما في القرى وعند البدو، فكانت مكانة المرأة مختلفة جداً. كانت تشارك في الحياة الاجتماعية: تعمل وترقص وتغنيّ، ولا تضع حجاباً على رأسها.
منع ارتداء الحجاب عام 1936
عرف ارتداء الحجاب تطوّراً لافتاً مع رضا بهلوي، مؤسس الدولة البهلوية وشاه إيران حتى عام 1941. تميّز حكم رضا بهلوي بمشاريع تحديدثية كثيرة في ما يتعلّق بالبنى التحتية وتأسيس جامعة طهران. إلا أنه عُرف أيضاً بالصراع الدائم مع المرجعيات الدينية الذي وصل إلى ذروته في الثامن من يناير 1936 عندما أصدر الشاه مرسوماً ملكياً يمنع ارتداء الحجاب للنساء ويفرض اللباس الغربي على الرجال في الأماكن العامة (في أواخر 1928، كان مجلس الشورى قد صادق على قانون يفرض على الرجال ارتداء البذات).
كان رضا بهلوي متأثراً جداً بأتاتورك الذي بنى جمهورية تركيا الحديثة. وخلال زيارة إلى تركيا، اقتنع شاه إيران أنه قادر على تحطيم النظام السائد من دون أي تمرّد من عامة الشعب فأصدر قرار منع الحجاب بعد خمسة وثمانين عاماً على إعدام قرة العين القزوينية بسبب رفضها ارتداء الحجاب وتحرّرها. إلا أن منع ارتداء الحجاب تطلّب الكثير من العمل قبل تطبيقه، من أجل تغيير عقلية الإيرانيين. من بين الخطوات التي اتّخذها رضا شاه، كان تنظيم مؤتمر المرأة في الشرق الذي ترأسته ابنته شمس بهلوي عام 1932 في العاصمة طهران. اعتُبر حينها عدم ارتداء الحجاب كرمز للحضارة. أسست شمس بهلوي كذلك، عام 1935، "جمعية المرأة الإيرانية للبحث عن الحرية" ممهدة الطريق لعدد من المنظمات والجمعيات النسائية، وساهم تأسيس المدارس الحديثة وحثّ الوزراء وأعضاء البرلمان على خلع حجاب نسائهم في تمهيد الطريق للقرار الملكي.
لكنّ هذا القرار لاقى معارضة كبيرة. في تلك الحقبة، كانت الشرطة تحرص على تنفيذ القانون وتعاقب كل من ترتدي الحجاب. ولكن، هنا أيضاً، بات ارتداء الحجاب انعكاساً للوضع والطبقات الاجتماعية. "تبنّت الطبقات العليا الإصلاحات الغربية بما فيها اللباس الغربي في حين أن الطبقة العاملة الفقيرة رأت في الحجاب رمز الاستقمامة" (سايمون هاي Simon Hay) وفضّلت الكثير من النساء المكوث في المنزل في حين غامرت أخريات بالخروج محجبات ومواجهة الضرب أو نزع حجابهن بالقوة من قبل الشرطة. فبالنسبة للكثير من النساء، شكّل الحجاب تقليداً وشرفاً ورمزاً للأنوثة وحتى أحياناً للراحة.
إلا أن قرار منع ارتداء الحجاب لم يعد إلزامياً بعد أن أطاحت قوى التحالف برضا بهلوي للتخوّف من مساندته لأدولف هتلر خلال الحرب العالمية الثانية. رفع ابنه الذي خلفه، محمد رضا بهلوي، الحظر عن الحجاب. وخلال حكمه، كسبت المرأة الإيرانية التي اختارت العديد منهّن عدم ارتداء الحجاب الكثير من المعارك: فنالت حق التصويت عام 1963 في الثورة البيضاء التي أطلقها الشاه (مجموعة من الإصلاحات) بالإضافة إلى حق الترشّح لمناصب رسمية (فاروخرو بارسا، أول وزيرة تربية عام 1968) وقانون حماية المرأة عام 1975 (حق الوصاية والطلاق والحدّ من تعدد الزوجات).
الثورة الاسلامية وعودة الحجاب عام 1979
تغيّر الوضع مع تدهور الوضع السياسي وارتفاع عدد الأصوات المناهضة لسياسة الشاه الامبريالية والمؤيدة للولايات المتحدة بالإضافة إلى تعزيز الفروقات الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء؛ كلّها عوامل مهّدت الطريق للثورة الإسلامية عام 1979.
أصدر آية الله الخميني مرسوماً يفرض على النساء ارتداء التشادور في السابع من مارس 1979، بعد شهر على عودته إلى إيران وعشية "اليوم العالمي للمرأة". وخلال تظاهرات الثامن من مارس، طالبت العديد من النساء والمنظمات الداعمة لها بعدم فرض الحجاب الإلزامي ودعت الحكم الجديد بصوْن حقوقهن من دون جدوى لا سيما أن حتى الأحزاب السياسة التي كانت تدعمهّن فشلت في إيصال صوتهنّ.
خلال الثورة الإسلامية، شاركت العديد من النساء في التظاهرات المناهضة للنظام عل غرار الرجال وباتت جزءاً لا يتجزّأ من الحركة المناهضة للشاه. بحسب أزاديه نماكيدوست Azadeh Namakydoust، آمنت النساء بمساواة الحقوق بين الرجال والنساء وبحرية التعبير وبالغاء جميع أشكال التمييز. إلا أن هذه القيم لم تتحقق بعد الثورة. في كتابها Reconstructed Lives، تلاحظ حالف إسفاندياري Haleh Esfandiari، أن معظم النساء اللواتي قابلتهنّ يشعرن بالخسارة والخيانة لا سيما أن معظمهنّ لم يرتدين الحجاب لأسباب دينية بحتة لا بل كموقف ضد نظام الشاه وكرمز احتجاج ضد "نظام مرتبط في أذهان معارضيه بالغرب".
على الرغم من أن الإيرانيات يحاولن التأقلم مع الحجاب الإلزامي في اليوم الذي لم تكن معظمهنّ لترتديه لو لم يكن مفروضاً عليهن، بحسب نينار، إلا أن الحجاب يظهر أكثر فأكثر مرتبطاً بالظروف الاجتماعية والسياسية عبر تاريخ الأنظمة الحاكمة في إيران. ويرى المحللون والمراقبون أنه أداة تستخدمها الطبقة الحاكمة لتعزيز سلطتها.
المبادرة التي لاقت صدى كبير على "فيسبوك" خير دليل على ذلك، إذ تعتبر نينار أنها ليست إلا قضية سياسية. فقد أطلقت الصحافية الإيرانية المقيمة في لندن مايسه علي نجاد صفحة بعنوان "آزادي يواشكى" أي الحرية المستترة. قامت نجاد بنشر صورها من دون حجاب وحصدت أكثر من 400 ألف متابع خلال أيام بعدما حذت الكثير من النساء الإيرانيات حذوها.
ليست هذه المبادرة بفردية، لا بل تتضاعف محاولات الشباب الإيرانيين في قلب المعادلة ومواجهة السلطات والقوانين المفروضة، وآخر دليل على ذلك قيام بعض الشباب (وإيرانيات من دون حجاب) بتصوير نسخة إيرانية عن أغنية "هابي" Happy الشهيرة لويليام فاريل William Farrel وقد تعرضوا جراء ذلك للاعتقال ثم أخلي سبيلهم.
لا تعتقد نينار أن الكثير سيتغيّر "لكنّي آمل أن يتمكّن الرئيس الجديد من تغيير الأمور في مجتمعنا. يجب ألّا نتوقّع تغييرات كبيرة، بل أن نفرح بالأمور الصغيرة".
بانتظار ذلك،لا يقتصر السجال حول الحجاب على إيران بل يتعدّى حدودها. فهو موضوع جدل منذ سنوات أيضاً في العديد من الدول لاسيما الأوروبية، في ما يتعلّق بحظر أو السماح بارتدائه في الأماكن العامّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...