تنتهي الحروب في العالم، ولكن صداها يرنّ طويلاً في داخل الأفراد الذين عايشوها، لذلك - ربما - يمتلئ الأدب العالمي بروايات عن الحروب وآثارها.
إنها الحدث الذي لا يمكن نسيان هوله وفظاعته ووحشيته، والحرب الأهلية اللبنانية ليست استثناء عن هذا الكلام، فقد كتبت الكثير من الروايات عنها، لدرجة يمكن معها القول إن الروايات اللبنانية في معظمها، تلك التي صدرت بعد انتهاء الحرب الأهلية حتى الآن، تكاد لا تخلو من ذكر، ولو بسيطاً، لهذه الحرب.
ويبدو أيضاً أن الحروب لا تترك ندوبها على أرواح من عاشها فقط، بل تمتد إلى أجيال لاحقة، فتتسرب إلى ذاكرة الطفولة، أو تقتحم وعي الصبا بملاحظة أختامها ووشومها على من هم أكبر، فلا يستطيع الكاتب الشاب منها فكاكاً إلا بالكتابة عنها مجدداً، رغم كل ما كُتب من قبل.
هذا ما يمكننا استنتاجه حين نقرأ روايات كتبت بأقلام شابة، تتناول هذه الحرب من جديد، ورواية "الهاوية" لزينب مرعي واحدة من هذه الروايات.
تدور أحداث الرواية حول "سهيل" الذي كان منتمياً إلى الحزب الشيوعي، وكان مقاتلاً في الحرب. أصيب رأسه وجهازه العصبي، ولم تنجح محاولات علاجه في بيروت، ما استدعى إرساله رفقة مجموعة من المصابين إلى بولونيا للعلاج هناك.
"بعدها نُقل سهيل إلى مركز الحزب في رأس النبع، عولجت كتفه ورجله بسرعة لكن الإصابة، غير الظاهرة، في رأسه كانت الأخطر. قذائف الـ"ب7" التي كان يطلقها من مسافات قريبة وبأعداد كبيرة في اليوم الواحد، والركلات التي تلقاها على رأسه، خلّفت ضرراً بالغاً على جهازه العصبي. حاول الأطباء الروس في المركز حل مشكلته في بيروت بداية. لكن مع الأيام لم يظهر المريض تحسناً كافياً، فقرر الأطباء نهاية إرساله إلى بولونيا للعلاج".
تسير الرواية في خطين سرديين مختلفين زمنياً، الأول يحدث الآن، وفيه "سهيل" بعد أن أصيب في حادث على دراجته النارية، وقد تغيّر كلياً فصار يحدّق في الحيطان ويكلّم نفسه، والثاني هو الزمن الماضي، زمن الحرب والإصابة التي تلتها ورحلته إلى بولونيا وما عاشه هناك.
في الخط الأول، لا أحد يعرف ما الذي يجري إلا نحن كقراء، فالكاتبة تنقل ما يحصل داخل رأس بطلها حيث تختلط الأحداث والمشاهد والأزمنة في حوار طويلٍ متخيّل لا ينتهي مع أخيه الكبير "خضر"، في هذا الحوار يحكي له عن أحلامه الغريبة وكوابيسه، عن طفولتهما، عن حرب تموز 2006، وعن رغبته في أن يتخلص من كل هذا الضجيج الذي يملؤه، وفي أن يضم جسده كله ويجلس داخل بيضة، ولا يخفى الجانب الرمزي وراء ذلك، إنه يريد أن يعود كالجنين في بطن أمه، وكأن كل شيء عاشه لم يكن.
"يعني، يعني وجع راسي أوقات هيك بيجي. أشعر بأنني لو أثبت في مكان واحد، لو.. لو أجد هذه اللحظة، لحظة البيضة يعني، سيهدأ ألم رأسي. بس انتبه ها! انتبه! أنا صفار البيضة، الصفار مش البياض. أنا جوا، بالنصّ، بقعة. أنا هيدي البقعة اللي بالنصّ. لأنه أنا ما بحب لفّ، بحب كون ملفوف. عرفت كيف خيي؟ البيضة هي أجمل شيء في هذا الدنيا. فهمت؟".
أما في الخط الثاني، فيعود السرد عبر تقنية الفلاش باك إلى سنوات الحرب، تلك التي انخرط فيها رغم أنه لا يزال حتى الآن غير مدرك لماهيتها، كما يحكي عن أيامه في بولونيا حيث تم علاجه، ووقع هناك في غرام المترجمة اليهودية "هانا"، لكنْ سوء تفاهم بسيط يحصل بينهما يجعله يقرر العودة إلى لبنان، حيث سيتزوج "زهرة" بعد موت حبيبها، ويعيش معها حياة غير سعيدة. هكذا يعود في خريف العمر لتذكّر "هانا" محاولاً البحث عنها والوصول إليها بأي طريقة.
"هذا هو المخيف في الأمر، أن تكون مجبراً على النظر إلى الأسفل طيلة الوقت، بينما تنتظر لحظة السقوط" - رواية الهاوية
على كل مواطن عربي وشوم حرب ما... وهذه الرواية عن وشوم الحرب اللبنانية التي لا يمكن محوهاما تنجح الرواية في تصويره ورصده هو حياة المشارك في الحرب بعد أن يضع سلاحه ويعود إلى الحياة الطبيعية، وما هي الآثار التي تخلّفها الحرب عليه وكيف تتركه مشوّهاً ومعطوباً من الناحية النفسية، فيعيش حياةً معذبة دون أن يستطيع الهروب منها، حاله كحال من يقف على حافة هاوية، "عندما تقع في الحفرة.. انتهيت! خلص، مت، ارتحت. ولكن أنا، عندما فكرت بالموضوع وجدت أن الهاوية لا تعني الراحة أبداً. على العكس تماماً، هي تعني هذا الذي يقف على الحافة فوق وينظر إلى الأسفل. والحفرة التي ينظر داخلها عميقة جداً.. يعرف أنها ستبتلعه لا محالة، لكن لا يعرف متى سيحدث ذلك.. متى سيتحطم جسده تحت. هذا هو المخيف في الأمر، أن تكون مجبراً على النظر إلى الأسفل طيلة الوقت، بينما تنتظر لحظة السقوط". زينب مرعي، كاتبة من مواليد بيروت 1986. حائزة شهادة ماجستير في اللغة الفرنسية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية. عملت وكتبت في الصحافة العربية منذ 2005. "الهاوية" هي روايتها الأولى. المؤلفة: زينب مرعي/ لبنان الناشر: دار نوفل/ بيروت عدد الصفحات: 160 الطبعة الأولى: 2016 يمكن شراء الرواية من موقع الفرات ومتجر جملون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع