يستحوذ "الشرف" على اهتمام الكثير من الروائيين العرب والأجانب، ويشكل محوراً للقصص التي تعكس واقع المجتمعات الشرقية وطرق تفكيرها في قضية فيها الكثير من الأوهام والخرافات، وترتكب باسمها مئات الجرائم سنوياً للتخلص من ما يسمى "العار". لم ينج بعض الشرقيين الذين عاشوا في الغرب من هذه الظاهرة، فقد أخذوها معهم إلى ألمانيا والسويد وانكلترا.
تعكس قضية الشرف واقع المجتمعات وحتى السياسات القانونية المتبعة في بعض البلدان، وللروائيين دور بارز في تسليط الضوء على نماذج من هذه القضية والتباساتها. الرواية قد تنقل أحياناً الواقع وتجلياته، ولكنها في أحيان أخرى تتحول قضية الشرف حجة للشهرة والضجيج. لكل روائي رأيه وطريقته إزاء قضية حساسة كهذه، فهي بكل الأحوال تحمل الكثير من الدلالات والمعاني، لا سيما من ناحية الربط بين الأرض والعرض، أو بين الشرق والغرب…رواية "قصة موت معلن" لـغابرييل غارثيا ماركيز Gabriel García Márquez، تعيد سرد أحداث مقتل سانتياغو نصار (شاب من أصل عربي) على يد أخوي أنجلينا التي كانت قد تزوجت من بيادرو. في ليلة الدخلة اكتشف بيادرو أن عروسه ليست عذراء، فغضب كثيراً وتوجه من فوره إلى منزل عائلتها وأخبرهم بسر "الفضيحة". لما عرف أخوا أنجيلا بما حدث غضبا، إذ تدنس شرف عائلتهما. سأل الشقيقان أختهما عن هوية مرتكب هذا الفعل "المدنس"، فأجابت بأن سانتياغو نصار هو من فعل ذلك، فما كان من الأخوين إلا أن حملا سكينين وعقدا العزم على قتله.
قصة ماركيز مركبة من حيث الأحداث والشخصيات. يذهب سانتياغو ضحية على يد أخوي أنجلا بيكاريو بعد اتهامها له زوراً بأنه هو من أفقدها عذريتها، لتحمي حبيبها الحقيقي الذي بقي مجهولاً حتى نهاية الرواية. تعتبر "قصة موت معلن" من أهم روايات ماركيز من حيث الحبكة والمعنى، إذ لم يبق ماركيز أسير قضية الشرف بل وظفهما بأسلوب لا يتوقعه القارئ.
من قبله كان طه حسين قد قدم قصة بعنوان "دعاء الكروان" وظف فيها قضية الشرف من جوانب درامية حسيّة، حيث تقع (هنادي) إحدى بطلتي القصة في حب المهندس الذي تعمل عنده خادمة، فتُقتل انتقاماً للشرف، على يد خالها. تفكر أختها "آمنة" في الانتقام لها من ذلك المهندس، فتذهب إلى منزله، لتعمل خادمة أيضاً، لكنها لا تقوى على فعل ذلك. تشعر بأنها ستغرم بالمهندس، فتقرر الرحيل عنه، لأنها تعرف أن طيف أختها القتيلة سيبقى حاجزاً بينها وبينه.
ما كتبه طه حسين عن شرف هنادي يختلف جذرياً عن ما كتبه الروائي صنع الله ابراهيم في روايته "شرف" حيث يتحدث عنه كما اعتادت الأم أن تنادي ابنها الذي يعيش في حي فقير من أحياء القاهرة. يحلم شرف بأن تصير له غرفته الخاصة ولا يعود يتشارك غرفة النوم نفسها مع كل أفراد العائلة... وفي ليلة غضب يقرر أن يخرج بمفرده فيصادف رجلاً أجنبياً يدعوه إلى بيته، وبعد ذلك يتحرش به جنسياً.
ينشب بينهما شجار عنيف ينتهي بأن يقتل شرف الأجنبي. وهنا تبدأ أحداث القصة بدخوله إلى السجن. هي رواية عن السجون في جانب منها، ولكنها تعبّر عن مغزى الشرف في المجتمع. فليس لشرف أي حظ للخروج من السجن سوى عبر فقدان "الشرف" الذي أدى به إلى السجن.
وإذا كان صنع الله ابراهيم يقدم رواية عن الشرف تعكس واقع السجون والمرحلة الساداتية في مصر، فالروائية التركية أليف شافاك في روايتها "شرف" تقرأ صفحة من صفحات البؤس الاجتماعي والإثني، الذي يمتد في أجزاء من تركيا المعاصرة تعيش فيها أقلية كردية بكل ما تحتفظ به من قيم وعادات متأصلة، في الزواج وغسل العار. تغادر بامبي تركيا وتلحق بزوجها في لندن حيث تحاول العائلة الكردية في المنفى الابتعاد عن العادات والتقاليد. لكن أولاد عائلة طبرق يجدون أنفسهم عالقين في فخ الماضي ومصدومين بجريمة مروعة تقلب حياتهم رأساً على عقب، وهي أن صبياً يقتل أمه غسلاً للعار.ويلاحظ أن موضوع الشرف يستحوذ على اهتمام الكثير من الكتاب الأردنيين، منهم الروائي إبراهيم نصر الله الذي قدم رواية عنونها بـ "شرفة العار" أراد من خلالها أن يطل على واقع الحال الذي تعيشه المرأة العربية مجسدة في شخصية "منال"! يقول نصرالله في تصديره للرواية "لقد أتيح لي أن أطلع، قبل كتابة هذه الرواية، على تفاصيل أكثر من خمسين (جريمة شرف)، وقراءة كثير من اعترافات القتلة، وقراءة كثير من المحاضر والرسائل التي أرسلتها الضحايا إلى أهلهن، يطلبن غفرانهم! لكن الرسائل التي يحملها بريد الدم لا تصل أبداً".
تعالج الروائية فادية الفقير في رواية "اسمي سلمى" قضية الشرف والحب خارج إطار علاقات الزواج. تقع سلمى ضحية قصة حب وتحمل قبل الزواج من حمدان الذي ملأ روحها بالخذلان والهجر والأسى. بطلة الرواية تحاول الهرب من العار، ومن رصاصة شقيقها محمود. ولكن رصاصته ما تزال تأتيها على هيئة كوابيس تأخذها إلى الطبيب الذي يوصي بنقلها لمستشفى الأمراض العقلية.
بعض الروايات يختلط فيها واقع رمزية الأرض في مواجهة رمزية العرض، ففي "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور تصور مدى الظلم الذي لحق بالمرأة في مدينة "بلنسية"، وما مورس ضدها من جرائم قتل، بدعوى الشرف. مصير الأندلس كلها يذهب نحو كارثة محققة، فقد اكتشف أبو الطيب أن ابنته تخرج لملاقاة شاب من بيت موسى، ألد أعدائه، وقيل إنها حبلى. أخذ الأب ابنته وابنه البكر وسافروا أسبوعاً ثم عاد الذكران، وحدهما دون الإبنة، "قالا إنها أصيبت بحمى وماتت". هكذا تضيع بكارة الوطن فلا يهتز رمش، وتفقد بنت بكارتها فتشرّع السيوف.
ثمة الكثير من الروايات التي تناولت قضية الشرف، منها رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني و"شرف القبيلة" لرشيد ميموني و"حجر الصمت" لعتيق رحيمي و"أسطورة أغونشيش وحياته" لمحمد خير الدين و"بنات البراري" لمهى حسن، و"سرمدة" لفادي عزام و"الميراث" لسحر خليفة التي تمزج العلاقة بين الأرض والإبن الذكر، و"سمية تخرج من البحر" لليلى العثمان وهي الأكثر درامية، فالبطلة تختبىء تحت الماء على الشاطئ خوفاً من أن تكتشف الشرطة أنها تحب وتبقى تحت الماء حتى الموت، فتكون الدلالة أن الموت بالنسبة لها أهون من كشف سر الحب أو فضح الشرف. وهناك رواية "الحب المحرم" لنورما خوري التي حظيت بضجة كبيرة بسبب مضمونها وباعت آلاف النسخ واستغلتها الروائية لتقدم طلب لجوء سياسي إلى البلدان الغربية، فتبين لاحقاً أن الرواية لا تستند إلى الواقع.
كل رواية من هذه الروايات المذكورة لها دلالاتها الخاصة، التي لا يتسع المجال هنا للحديث عنها بالتفصيل.نشر هذا المقال على الموقع في تاريخ 09.01.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...