لكل شيء أصل، وبقدر ما تغيب الحقيقة بقدر ما يحكم الخيال خيوطه على العقول. ولأن مصر هي محور الحكايات والأساطير، فليس غريباً أن تزدهر فيها الحكايات الخرافية، والموروثات الشعبية والقصص الأسطورية، التي ما زالت تتردد على الألسنة، وتدور في العقول، وإن احتوت على أخطاء تاريخية أو معرفية واضحة. ويعتبر المؤرخون المسلمون هم المصدر الرئيس للكثير من الأساطير والروايات الخيالية، حول أصول تسمية المدن المصرية، سواء تلك التي شيدت في زمن الفراعنة، أو على امتداد تاريخ مصر الطويل. وسواء كان لتلك المدن وجود فعلي ملموس، أو لا وجود لها في عالم الواقع. وقد عكست روايات المؤرخين مدى انبهارهم وإعجابهم بهذه المدن. الحكايات الخيالية والأسطورية حول مصر ومدنها كثيرة ومتنوعة، تبدأ مع اسمها. فيروي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر وأخبارها، أنها سميت على اسم مصر بن بيصر بن حام بن نوح. دعا له جده النبي نوح أن "أسكنه الأرض المباركة، التي هي أم البلاد وغوث العباد، التي نهرها أفضل أنهار الدنيا"، فكان أول من سكن مصر بعد أن أغرق الله قوم نوح في الطوفان. وكان مصر أكبر أولاد بيصر، الذي ساق أباه وجميع إخوته إلى مصر فنزلوا بها.
الأنساب العربية تهيمن على أسماء المدن المصرية
تكشف الروايات الخيالية حول أسماء المدن المصرية تأثر الرواة والمؤرخين المسلمين بالأنساب العربية. فذهب خيالهم إلى أن مدن مصر اكتسبت أسماءها من أبناء مصر بن بيصر بن حام بن نوح، بعد تقسيم أرض مصر بينهما. فيقول المقريزي في كتابه المعروف بالخطط المقريزية، إن مصر بن بيصر قسم الأرض بين أولاده، فأعطى ولده (أشمون) من حد بلده إلى رأس البحر إلى دمياط، وأعطى ولده (أنصنا) من حد أنصنا إلى الجنادل، وأعطى لولده (صا) من صا أسفل الأرض إلى الإسكندرية، وأعطى لولده (منوف) وسط الأرض السفلي منف وما حولها، وأعطى ولده (قفط) غري الصعيد إلى الجنادل، وأعطى ولده (أتريب) شرقي الأرض إلى البرية برية فاران، وأعطى لبناته الثلاث، وهن الفرما وسريام وبدورة بقاعاً من أرض مصر محددة في ما بين إخوتهن. ولا تزال معظم المدن التي تحدث عنها المقريزي موجودة إلى الآن، فتقع (أشمون) في أقصى جنوب محافظة المنوفية ودلتا مصر عند التقاء فرعي نهر النيل دمياط ورشيد. أما (أنصنا) فهي إحدى المناطق الأثرية في محافظة المنيا بالصعيد. ومدينة (صا) هي صا الحجر، التي تقع جنوب مدينة دسوق شمال غرب الدلتا. بينما تقع (منوف) في محافظة المنوفية، و(قفط) جنوب مدينة قنا، أما (أتريب) فتقع داخل مدينة بنها بمحافظة القليوبية.الرحالة العثماني أوليا جلبي
ويستكمل الرحالة العثماني أوليا جلبي (1611- 1684) شجرة نسب المدن المصرية في مؤلفه سياحتنامة. فيذكر أن أحد أبناء بيصر كان يدعى (رشيد)، فبنى مدينة بالاسم نفسه، والآخر كان يدعى (دمياط) والثالث (اسكندر) والآخر (سيفه)، الذي بنى مدينة بني سويف. كذلك جرجه (جرجا) وتنا (قنا) وقوس (قوص)، واسنه (اسنا)، وأثوان (أسوان)، وهي مدن مصرية لا تزال باقية وآهلة بالسكان. لا يختلف الحال عند ابن فضل الله العمري في مؤلفه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، فيقول في السفر الثالث منه: "العريش أخذ من العرش، ويذكر أنه نهاية التخوم من الشام، وأن إليه كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل عليه السلام بمواشيه، وأنه اتخذ به عريشاً كان يجلس فيه ومواشيه تحلب بين يديه فسمي بذلك، أما رفح فهو اسم رجل نسب إليه المكان".
الفيوم والنبي يوسف
تعرف المحافظات المصرية الثلاث، الفيوم وبني سويف والمنيا، بإقليم شمال الصعيد. وتنسب الترعة التي تصل محافظة الفيوم بنهر النيل إلى النبي يوسف عليه السلام، فتعرف ببحر يوسف، لذلك ارتبطت الفيوم باسم النبي يوسف بن يعقوب، الذي يحظى بمكانة رفيعة في اليهودية والإسلام.سوء الطالع والفتن تلازم القاهرة وتسميتها بحسب التاريخوعن يوسف والفيوم، يقول أوليا جلبي في مؤلفه: "لما كانت مصر أرض الجبارين، غادرها يوسف عليه السلام إلى وادي الفيوم، حيث الهواء المنعش والجو اللطيف، فسر بها واعتزم الإقامة فيها، لذلك بنى مدينة الفيوم في ألف يوم، فسميت المدينة الفيوم تصحيفاً من عبارة ألف يوم". وحول سبب تسمية "بحر يوسف" يقول أوليا جلبي: "بينما كان يوسف عليه السلام ينقل التراب المتخلف من حفر الخليج بذيل ثوبه الشريف، أمر سبحانه وتعالى جبريل الأمين عليه السلام أن ينزل ويقدم المساعدة والمدد لحبيبه يوسف، فنزل جبريل كالبرق الخاطف، وضرب بجناحيه بحيرة الفيوم ضربة قوية، فأطار ترابها وأنقاضها إلى السماء، وأنزلها إلى أسفل الغبراء، وضرب جناحاً آخر جهة الصعيد الأعلى، ففتح ترعة من النيل جرى فيها الماء حتى بحيرة الفيوم (أي بحيرة قارون). في حين أن الترعة اليوسفية نظراً لكونها من آثار جبريل الأمين لا يحدث بها جرف أو شق قط إلى انقراض الدوران بل يجري فيها النيل دائماً". ويذكر ابن إياس في مؤلفه بدائع الزهور في وقائع الدهور، أن الله أوحى ليوسف عليه السلام ببناء المدينة، وانتهى العمل منها في سبعين يوماً، فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: هذا كان يعمل في ألف يوم، فسميت من حينئذ الفيوم. ويقول الدكتور عمرو عبد العزيز منير في كتابه الأساطير المتعلقة بمصر، إن تلك الروايات تكشف لنا إلى أي مدى شغل الوجدان الشعبي العربي بقصص الأنبياء. فلم تشبع روايات المؤرخين والإخباريين حاجات هذا الوجدان الروحية، فراح يضيف من تصوراته وموروثاته إلى هذه الروايات، يستهدف منها الاستمتاع بسماعها أو قراءتها، وربما لتأكيد المعجزات النبوية، والاستجابة لدوافع أخلاقية واجتماعية من ناحية، والترويج لفضائل المدن والبلدان، والتعزيز من مكانتها ورفعتها على بقية المدن والأمصار من ناحية أخرى.
الإسكندرية: اختلاط الأسطورة والتاريخ
كانت الإسكندرية عاصمة لمصر أثناء الغزو العربي الإسلامي لها، لذا حظيت بنصيب وفير بين كتابات المؤرخين، خصوصاً المسلمين منهم. وقد تغزل الكثيرون في بهائها وسحرها، وتحدث المقريزي عن نشأتها في كتابه الخطط المقريزية. يقول المقريزي عن الإسكندرية: "هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا، وأقدمها وضعاً، وقد بنيت غير مرة، فأول ما بنيت بعد كون الطوفان في زمان مصرايم بن بيصر بن نوح، وكان يقال لها إذ ذاك مدينة رقودة (أي راقودة)، ثم بنيت بعد ذلك مرتين، فلما كان في أيام اليونانيين جددها الاسكندر بن فيليبش المقدوني، الذي قهر دارا وملك ممالك الفرس بعد تخريب بخت نصر مدينة منف بمائة وعشرين سنة شمسية فعرفت به. ومنذ جددها الاسكندر المذكور، انتقل تخت المملكة من مدينة منف إلى الإسكندرية فصارت دار المملكة بديار مصر ولم تزل حتى ظهر دين الإسلام". ويذكر الدكتور عمرو عبد العزيز منير في كتابه الذي ذكرناه آنفاً، أن رواية المؤرخين عن الإسكندرية تحمل اختلاطاً بين العناصر الأسطورية والعناصر التاريخية في مزيج حيوي. فقد بنى الاسكندر مدينة الإسكندرية فوق بقايا راقودة حقاً، كما أنه قهر الفرس، ولكن بقية القصة تحمل بصمات الخيال.سوء الطالع والفتن تلازم القاهرة
حظيت القاهرة بحكم مكانتها التاريخية بالقدر الأوفر من الأساطير والحكايا الشعبية، خصوصاً في ما يتعلق بنشأتها وتأسيسها. ويفسر ابن ظهيرة سبب تسمية القاهرة بهذا الاسم في مؤلفه "الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة". فيقول: "جوهرا (أي جوهر الصقلي) لما قصد إقامة السور، جمع المنجمين وأمرهم أن يختاروا طالعاً لحفر الأساس، وطالعاً لرمي حجارته، فجعلوا قوائم خشب بين كل قائمتين وحبلاً فيه أجراس. وأعلموا البنائين أن ساعة تحريك هذه الأجراس، ترمون ما بأيديكم من الطين والحجارة في الأساس. وقف المنجمون لتحرير هذه الساعة، فاتفق من مشيئة الله سبحانه وتعالى أن وقع غراب على خشبة من تلك الأخشاب، فتحركت الأجراس، فظن الموكلون بالبناء أن المنجمين حركوها، فألقوا ما بأيديهم من الطين والحجارة في الأساس، فصاح المنجمون: لا، لا، القاهر في الطالع، فمضى ذلك، وخاب ما قصدوه". ويوضح ابن ظهيرة أن المنجمين قصدوا أن يختاروا طالعاً لا يخرج البلد عن نسلهم وعقبهم، فوقع أن المريخ كان في الطالع، وهو يسمى عند المنجمين القاهر، فعلموا أن الأتراك لا بد أن يملكوا هذا الإقليم والبلد. فلما قدم المعز من القيروان وأخبروه القصة، وكانت له خبرة تامة بالنجوم، وافقهم على ذلك، فغير اسمها الأول وسماها القاهرة. ويرى المؤرخ العثماني أوليا جلبي أن سوء الطالع لازم القاهرة منذ تأسيسها. فيقول في مؤلفه سياحتنامة: "لذلك السبب لا تنقطع الدماء والقتال والنزاع والفتن والفساد عن القاهرة المعزية، التي سميت بهذا الاسم لوضع أساسها في طالع المريخ".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت