في مقابل ما يرويه المقدس الشرقي، عن المثلية الجنسية، وتفسيراته التي يؤكد الشائع منها أنها ظاهرة لم يسبق البشر إليها سوى "قوم النبي لوط"، نقرأ في الأثر الأدبي والمادي والقيم الاجتماعية المتوارثة لشعوب المنطقة ما ينفي ذلك. ويؤكد أن مجتمعات عرفت الحضارة وبدأ معها التاريخ، لم تكن المثلية الجنسية غريبة عنها، ولم تشكل سلوكاً اجتماعياً "شاذاً". بل شاعت معها قيم اجتماعية وأدبيات وأحداث ودراما أسطورية، لا ينكرها التاريخ بقدر ما أنكرها من ورثوه ملفقاً.
القرآن الكريم مثلًا، يقول عن المثلية الجنسية: "لم يسبقكم إليها أحد من العالمين، متوجهاً لقوم النبي "لوط"، الذي ذكرت قصته نصوص الأديان الإبراهيمية الثلاثة، متباينة التفاصيل. رغم ذلك لم تتحول إلى ظاهرة، إلا مع قوم سدوم وعمورة في الأردن، أي "قوم لوط". ومنها اشتق العرب "اللواط" أي الممارسة الجنسية بين رجلين. ونجد أن المجتمع المصري القديم، عرف المثلية كثقافة، وتجلى ذلك في شواهد عدة، منها ما هو أسطوري كقصة الصراع بين الآلهة حورس وست، أو شواهد مادية كالمقابر والبرديات والتماثيل، التي تعود إلى عصور مختلفة.
إباحة السحاق وتجريم الخيانة
عرف "السحاق" بين نساء مصر القديمة، لكن الأدلة عليه قليلة جداً، وتكاد تكون نادرة. ويرجح بعض الآثاريين، أن هناك من "المناظر" ما يجسد عدة نساء متعانقات، يلعبن برموز جنسية. كما تتضح مشاهد حميمة بين بعضهن، في آثار منطقة "تل العمارنة". لكن هذا الفن يصعب فيه التمييز بين الرجال والنساء، لجمع بعض الشخصيات لمظاهر الذكورة والأنوثة في آن واحد. وتقول نيست.نب.تاشيرو (970 ق.م)، في نسخة من كتاب الموتى: "لم أمارس الجنس مع امرأة في المعبد أبداً". ما يشير إلى تساهل المجتمع مع السحاقيات أكثر من تساهله مع المثليين. فالنص لم يشر إلى تحريم المثلية أو احتقار الطرف السلبي، بل نفى النص ممارسة الجنس "في المعبد"، الذي كان ساحة لبعض الاحتفالات الشعبية بالخصوبة، والتي شهدت مظاهر جنسية بين الرجال والنساء، خصوصاً "غانيات المعبد". ذكر "السحاق" أيضاً في "كتاب الأحلام"، الذي يرجع إلى العصور المتأخرة، والمأخوذ عن بردية "كارلسبرج الرقم 13"، تظهر فيه معاتبة امرأة لأخرى، "حلمت أنها تمارس الجنس مع امرأة متزوجة". وتشير العديد من المصادر، منها ما قالته عالمة المصريات "كاسيا سباكوسكا"، إلى أن النص "قام بتجريم الخيانة الزوجية ولم يجرم فعل السحاق بشكل عام، وذلك يعطي احتمال أن السحاق كان مقبولاً في المجتمع المصري إلى حد ما".آلهة مثليون
يروي الأدب المصري القديم صراع الآلهة أوزوريس إله البعث والحساب، رمز الخير، رئيس محكمة الموتى، وأخيه ست، إله الصحراء والعواصف والظلام والفوضى، والأخوين ابني إله الأرض جب، ونوت إلهة السماء. يمتد صراع الآلهة الإخوة، ممثلي الخير والشر، الذي يكشف عن ذهنية وثقافة الشعب المصري القديم، إلى حورس إله الشمس والخير والعدل. وهو نجل أوزرويس المقتول غدراً، وإيزيس إلهة القمر والأمومة، ليثأر لأبيه من عمه ست ويقيم العدل، بدعم من أمه، ولا تتم قصة الانتصار من دون حيلة تعتمد على شيوع المثلية الجنسية، في ذهنية شعب كيميت. يقول الباحث الآثاري محمد جمال، في دراسته عن الجنس في مصر القديمة، إنه في إحدى مراحل الصراع، خطط ست لإذلال حورس، عن طريق معاشرته جنسياً، ثم فضحه أمام مجمع الآلهة، ليملك زمام الحكم. ونقرأ في بعض البرديات والنقوش، أن ست يبدي كثيراً إعجابه بمؤخرة الإله الصغير، بل كان يدعوه بحميمية، للنوم معه وممارسة الجنس. فأشارت الأم على حورس أن يساير العم حتى السرير، ويبدي الرغبة في الجنس، ليمسك بماء الإله الشرير، ولا يسمح له بالانتشاء والقذف في داخله. تظاهر حورس أولاً بالتصالح مع إله الظلام والفوضى، ثم وافق على دعوة للاحتفال في منزله. جاء الليل، فأمر العم بإعداد السرير ليضاجع ابن أخيه، وينتهي منه، وبالفعل تؤكد الآثار أنهما ناما معاً. وذهب ست بعد ذلك إلى مجمع الآلهة، ووقف يتفاخر بأنه ضاجع "حورس" وريث شقيقيه إزيس وأوزوريس، وأنه بذلك لا يصلح هذا الفتى للحكم.جداريات ومقابر للمثليين
عرف ثنائي عاش في كنف الأسرة المصرية الخامسة (2400 ق.م): "ني.عنخ.خنوم" و"خنوم.حتب" بـالأخوين. وتعني ألقابهما "المتاحبين في الحياة الدنيا والحياة الآخرة"، وشغلا معاً منصب "كبار مقلمي أظافر الملك ني.وسر.رع". ويعتقد بعض دارسي التاريخ المصري القديم والآثاريين وعلماء المصريات، أنهما "أول ثنائي مثلي الجنس في التاريخ"، وأن ثقافة المجتمع المصري آنذاك احتوت مثل تلك العلاقات الجنسية. وصور الفنان المصري القديم، مناظر "الأخوين" على جدران مقبرتهما، حيث دفنا جنباً إلى جنب، ويظهران متعانقين بحميمية.المثلية في ثقافة المجتمع الفرعوني
تقبّل المجتمع المصري القديم المثلية الجنسية، لكن غلبت عليه النظرة الدونية للسالب في العلاقة، وصلت حد الاحتقار، تماماً كما ينظر للعاهرات في العصور الحديثة، بينما يتم الاحتفاء بالطرف الإيجابي وقدرته الجنسية. في القصة، لم يهتم حورس بنفي وقوع الممارسة الجنسية مع عمه، لكنه اهتم بنفي كونه الطرف السالب. ومع مرور العصور، وتغير أشكال وأنماط التفكير على المستويين الفردي والجمعي، بحسب الآثار التي تزخر مصر بها، زادت في العصور الحديثة، حدة الاحتقار للطرف السلبي في العلاقة المثلية. وبدأ المصريون الاستعانة بمفردات المثلية الجنسية في سبابهم ومشاجراتهم ومزاحهم أحياناً. وظهرت تعبيرات شعبية مثل "الذين يديرون ظهورهم". يدعم جمال تلك النظرية ويقول: "ما نراه في المجتمع المصري المعاصر، من عدم تحرج بعض الشباب، خصوصاً العاملين في مجال السياحة والفنادق، من الاعتراف بعلاقة جنسية مع رجل، طالما كان الطرف الإيجابي فيها". ويرجع محمد جمال تلك التغيرات إلى أن مصر كانت في الكثير من الأحيان، مركزاً لامبراطورية شاسعة، واحتكت بالعديد من الحضارات والثقافات المختلفة، والتي "ربما كانت تحتقر المثلية، وبالتالي أثرت على ثقافة المصريين من هذه الناحية". وبالطبع زاد من حدة الأمر، تحريم الأديان الإبراهيمية الوافدة للمثلية الجنسية. وعلى الرغم من تلك الشواهد، يتعرض تاريخ مصر القديمة منذ سنوات، لعملية "لي ذراع الحقائق"، وإسقاط واقع وسمات المجتمع الحالي وقيمه الأخلاقية، على تلك العصور الغابرة. فالكثير من أساتذة التاريخ أو الآثار، يحاولون نفي المثلية الجنسية عن المجتمع المصري القديم، واعتبار أن ذلك يمثل إهانة أخلاقية للتاريخ، لذلك تندر المصادر حول تلك الشواهد الأدبية والمادية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...