يشتد الجدل بين الأطياف السياسية في الأردن بشأن المناهج التدريسية، بين مطالب بزيادة عدد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من جهة، وآخرين داعين إلى تقليص المحتوى الديني في الكتب المدرسية من جهة ثانية. يُعاني الطلبة من واقع تعليمي صعب، جعل نسبة كبيرة منهم غير قادرين على القراءة أساساً، أو فهم ما تحويه الكتب.
يشكل أبناء أم سليمان الأربعة، الذين يقطنون في منطقة الأغوار مثالاً لهؤلاء الأطفال. فرغم التحاقهم بالمدرسة من سنوات الروضة، لم يتمكنوا من الانخراط الحقيقي في العملية التعليمية. تقول أم سليمان: "رغم ذهابهم إلى المدرسة، فهم أميون. جهلي بالقراءة والكتابة أضرّ بهم أيضاً، بينما يعتمد النظام التعليمي على جهد الأهل كذلك". وتضيف: "تراوح أعمار أبنائي بين 6 و13 عاماً، اثنان منهم رسبا في المدرسة، وأعادا الصف. أشعر بالعجز، حاورت المدرسة أكثر من مرة دون إيجاد أي حلول".
خلال الصيف الماضي، حظي أطفال أم سليمان بفرصة جديدة، شكلت لهم بارقة أمل للمضي قدماً بمسارهم التعليمي. ففي كل عام، تنتقل العائلة من الأغوار إلى العاصمة عمان خلال أشهر الصيف، للعمل في جني المحاصيل في إحدى المزارع، حيث تقيم العائلة في خيام 3 أشهر، هي مدة العطلة الصيفية.
خلال تلك الفترة تعرّفَت على المعلمة رزان الخلفة، التي تسكن في منطقة قريبة من هؤلاء الأطفال. تقول رزان لرصيف22: "كنت أمشي في تلك المنطقة كل يوم. أذكر أنني التقيت بالعائلة قبل عامين وتأثرت بمشهد الأطفال، إذ كانوا يقضون كل وقتهم في الشارع. لم أحاول الحديث معهم حينها، لكن في الصيف الماضي قررت أن أتجه للحديث معهم. كان لدي فضول أن أعرف عنهم وعن حياتهم".
وتضيف: "عندما تحدثت إلى الأطفال، لمست مدى الضعف الأكاديمي لديهم، تحدثوا إلي عن مشاكلهم في المدرسة، تحديداً في اللغة الإنجليزية، ولأنني معلمة لغة إنجليزية شعرت أن مسؤوليتي هي مساعدة هؤلاء الأطفال في التعليم".
تبلغ رزان من العمر 24 عاماً فقط، بدأت معلمة في مدارس خاصة، وشعرت حينها أن البرامج التعليمية تركز على التلقين فقط، من دون مراعاة الحاجات الفردية للأطفال. هذا الواقع دفعها لترك التعليم في المدارس والعمل مدرسة خصوصية، تساعد الأطفال للتغلب على الصعوبات التي يواجهونها باعتماد أساليب التعليم عبر اللعب والتفكير النقدي.
حول تجربتها مع أبناء أم سليمان، تقول رزان: "لم يكن لدينا مكان مناسب للتدريس. لم أستطع استقبالهم في بيتي، كذلك لم أتمكن من الذهاب إلى خيمهم. على مدار أكثر من شهر، كان الشارع مكاناً للدراسة. بدا الأطفال أكثر حماسة وحباً لتعلم اللغة الإنجليزية. كانت تجربة رائعة، وارتفع عدد الأطفال من 4 إلى 14. كان الامر أشبه بغرفة صف لكن في الهواء الطلق".
وتتابع رزان: "نغني، ونلعب ونتفاعل، لم أعتمد معهم أساليب التعليم التقليدية التي تعتمد على التلقين، إنما أساليب التفكير والتحليل". وتقول: "كانت تجربة جميلة إلى أن تسربت صورتي والأطفال إلى المواقع الإخبارية. فتغير كل شيء. أصبحنا وكأننا مطاردون من وسائل الإعلام. تعرض الأطفال لمضايقات على إثرها أوقفت التدريس ولم يتوفر حينها مكان آخر لنا للدراسة".
مطلع سبتمبر، عاد الأطفال إلى منطقة الغور، والتحقوا بمدارسهم. وبحسب أم سليمان، تحسن كثيراً الأداء الأكاديمي لأبنائها والأطفال الآخرين. وتقول: "رغم أنهم توقفوا الآن، أتمنى أن تجد رزان وسيلة لمواصلة تعليمهم".
بين مطالب زيادة عدد الآيات القرآنية في الكتب المدرسية الأردنية، ومطالب تقليص المحتوى الديني، اختارت رزان الشارع للتدريسوتوضح رزان: "توقفت لأسباب خارجة عن إرادتي، لكن هذا التوقف المؤقت ستتبعه مبادرة أكثر شمولية لمساعدة كل الأطفال الأقل حظاً في الحصول على فرص تعليم أفضل، عبر مساعدتهم بعد ساعات المدرسة وخلال العطلة الصيفية". وتزيد: "حالياً أسير بإجراءات تأسيس جمعية خيرية لمساعدة الأطفال. لا نزال في مرحلة التأسيس، في المقابل حصلت على تبرع بكرفانين لاستخدامهم كغرف صفية، بينما تطوع عشرات المعلمين لمساعدة الأطفال في التعليم". تقول رزان: "سنبدأ بتقديم مساعدة للأطفال الملتحقين في المدارس، لاحقاً سنعمل على الاستفادة من الكرافانات لتعليم الأطفال المتسربين من المدارس. في الواقع هناك إشكاليات رئيسية يواجهونها في التعليم خصوصاً خلال السنوات الأولى". وتضيف: "سنبدأ العمل في العاصمة عمان. أتواصل حالياً مع البلدية لتحديد مواقع الصفوف، ولاحقاً سيتوسع عملنا التطوعي ليشمل بقية البلدات". وتؤكد: "غالباً يختار المعلمون مهنة التدريس لأن ساعات العمل فيها قصيرة، إلى جانب العطل السنوية، فيما يفتقر هؤلاء لدافع حب التعليم نفسه. المشكلة الأخرى هي ضعف متابعة الأهالي لأبنائهم، كما يفتقد كثير من الطلبة لدافع التعليم، إلى جانب أساليب التدريس التي تعتمد على التلقين، ولا تراعي ظروف الأطفال". ما يعانيه الأطفال الـ14 الذين حظيوا بدعم من رزان، ليس حالة خاصة، إنما انعكاس لأزمة يعانيها قطاع التعليم في الأردن، تحديداً قطاع التعليم العام. فبينما يتمكن أبناء المقتدرين من الحصول على مستوى تعليم جيد في المدارس الخاصة، التي تعزز تدريسها بالمناهج والكتب الأجنبية، يعاني الطلبة في المدارس الحكومية من صعوبات كبيرة تحول دون تقدمهم الأكاديمي. في سبتمر الماضي وخلال إطلاق الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية، تحدثت ملكة الأردن رانيا العبد الله بصراحة عن الواقع الذي يعانيه الطلبة الأردنيون. وقالت في كلمتها: "علينا أن نرى الأمور على حقيقتها، وليس تجميل المشاكل، التجميل يأتي في المحصلة على حساب أجيال الأردن". وتناولت الملكة في حديثها دراسات وطنية، كشفت أن 80% من طلبة الثاني والثالث الابتدائي، هم دون المستوى في القراءة، وطلاب المرحلة الابتدائية في الأردن متأخرون في مادة الرياضيات. أما الصف الثامن، فإن تقييم الأردن في اختبار التميز الدولي للرياضيات والعلوم تراجع في الدورتين الأخيرتين، وحلّت الأردن ضمن الدول العشر الأخيرة، في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة "البيزا"، الذي يضم نحو 56 دولة. تضيف الملكة: "طالب واحد فقط من كل أربعة على مقاعد الدراسة الثانوية ينجح في اجتياز امتحان الثانوية العامة". وحالياً، ينشغل كل من القائمين على وزارة التربية والتعليم من جهة، ونقابة المعلمين من جهة أخرى، بتراشق الاتهامات حول انحدار مستوى التعليم. في وقت سجلت حالات قام بها المعلمون لتحريض الطلبة على حرق الكتب المدرسية، مطلع العام الدراسي الحالي، احتجاجاً على إلغاء عدد من الآيات والأحاديث النبوية في المنهاج واستبدالها بنصوص أدبية، لأدباء عدة كجبران خليل جبران وسواه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...