تعجّ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بالدعوات إلى الحفلات الليلية الصاخبة في أشهر ملاهي القاهرة. أسماؤها كثيرة، وهي في ازدياد مستمر بسبب كثرة الطلب عليها. لم تعد هذه الملاهي أو "الكلوبات" حكراً على ذوي الدخل المرتفع، كما كان شائعاً سابقاً. فعلى الرغم من ارتفاع كلفة السهر فيها، إلا أن دائرة روادها اتسعت لتشمل الطبقة المتوسطة أيضاً.
السهر ليس جديداً على القاهرة، فهي مدينة لا تنام. وارتياد أماكن السهر ليس أمراً غريباً أو سلبياً، لكن انتعاشه وسط أعضاء الطبقة الوسطى المصرية، في ظل إحدى أصعب الأزمات المادية التي تمر بها مصر، داخل مجتمع لطالما كان متحفظاً هو ما يستحق النقاش والبحث. فالبديهي هو أن ينتج عن هذا الاختناق في المعيشة كساد في سوق السهر، خصوصاً أن كلفته في معظم هذه الأماكن باهظة. فما السبب؟
الطبقة الوسطى في قلب المعركة الاقتصادية
طبقاً لإصدارات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفعت نسبة الفقراء في مصر إلى 27.8%، وهم الأفراد الذين يبلغ معدل دخلهم الشهرى 482 جنيهاً مصرياً (54 دولاراً). جاء هذا الارتفاع كنتيجة لزيادة معدل التضخم، الذي قفز من 10.6% في أغسطس 2015 إلى 16.4% في أغسطس 2016. وارتفعت أيضاً نسبة البطالة إلى 12.8%. تتبلور هذه الأزمة في النقص الحاد للنقد الأجنبي، في دولة تعتمد على الواردات، بنسبة تصل إلى 70% من استهلاكها، بما في ذلك المنتجات المصنعة في مصر، ما يؤدي للارتفاع الحاد في أسعار جميع السلع الأساسية. نقص النقد الأجنبي وارتفاع أسعاره، أضرا بالعاملين في الشركات الأجنبية والقطاع الخاص، بالإضافة إلى أرباب الأعمال الخاصة والمُصنعين الصغار، الذين يشكلون نسبة كبيرة من أعضاء الطبقة المتوسطة وما فوقها. هؤلاء الذين تمكنوا من النجاة بأنفسهم من أتون الأزمات السابقة، أصبحوا الآن في قلب المعركة الاقتصادية. لكنهم يصرون على السهر.الديون من أجل عالم وهمي مواز
أحمد عاصم (31 عاماً)، موظف مبيعات في شركة مصرية لتسويق المنتجات البرمجية لزبائن في الولايات المتحدة. يصل راتبه الشهري إلى 7000 جنيه في الشهر كحد أقصى (789 دولاراً)، ما يصنفه ضمن طبقة "الأغنياء"، بحسب تقدير الجهاز المركزي للإحصاء. لكنه يعجز عن توفير أسلوب الحياة الذي يصفه بالمتوسط له ولزوجته وابنته، في ظل التضخم المتصاعد. وأدت هذه الأزمة إلى انغماسه بشكل أكبر في حياة السهر الليلي، ليحاول التعايش مع الوضع الراهن. ويقول عاصم: "إذا كان الفرد يعاني من المشاكل المادية بشكل يومي، فمن الطبيعي أن يلجأ إلى خلق عالم وهمي موازٍ، يساعدنا على العيش خلال تلك الصعوبات”. ويضيف: "راتبي لم يعد كافياً لتوفير مستوى معيشي متوسط، لذا لا مانع من إنفاق ما كان ليس كافياُ من الأساس لقضاء بضع أمسيات سعيدة كل أسبوع”. ويوضح: "مجرد دخول بعض تلك الملاهي يكلف الزائر بين 300 إلى 500 جنيه مصري في المتوسط (34 - 56 دولاراً)، من دون إضافة كلفة الأكل والمشروبات الكحولية، ورغم ذلك، أنا أعرف الكثير ممن وجدوا في السهر حلاً ومتعة، ولو لحظية، ما يدفعهم للاستدانة بل والاقتراض من البنوك لقضاء تلك السهرات”.كلنا عايزين صورة على السوشال ميديا!
الإقبال المتسارع على السهر ينمو، في وقت أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي محركاً أساسياً لتشكيل وعي واحتياجات العديد من أعضاء الطبقات الوسطى، في كل مكان. فبعد أن كانت أماكن السهر تشتهر، عن طريق الترشيحات الشخصية، أصبحت وكالات ترويج السهرات تُسخِّر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي للوصول إلى أكبر عدد ممكن من الزوار المحتملين. فتقوم كل وكالة بتعيين عدد من المصورين، لتصوير تلك الحفلات ونشر صورها على المواقع، لإيصال رسالة مفادها أن من يسهر في تلك الأماكن، يحصل على سعادة قد تقضي على متاعب الحياة اليومية. [caption id="attachment_78635" align="alignnone" width="1136"] السهر في القاهرة بعدسة محمد الخطيب[/caption] يقول محمد الخطيب، وهو مصور محترف يعمل على تغطية الحفلات لعدد من تلك الوكالات، إن أهم ما يُكلّف به المصور، هو إظهار الأجواء المرحة التي ينعم بها زوار تلك الملاهي. وأضاف: "آلاف المستخدمين يشاهدون تلك الصور، ومدى البهجة التي هم فيها، فيرغبون في الوصول إلى قدر الاستمتاع نفسه. حتى من لا يقوى على تحمل تكاليفها منهم، يقوم بالادخار لأسبوعين أو ثلاثة لتوفير المال اللازم”. ورأى الخطيب خلال السنوات القليلة الماضية الكثير من المطاعم في القاهرة، تغير نشاطها لتصبح قادرة على استيعاب وخدمة الساهرين. وتم افتتاح ملاهٍ وبارات جديدة. ومن كثرة الإقبال على الملاهي، باتت تضيف مناسبات جديدة لأجنداتها الشهرية، لا تمت للمجتمع المصري بصلة، كعيد الشكر الأمريكي وهالووين وسان باتريك، وهو عيد إيرلندي تحتفل به الولايات المتحدة. وكأن هذه الأماكن تعطي الزوار أسباباً للاحتفال، وهي تكتظ بالمرتادين لدرجة جعلت أعداد المصورين غير كافية لتغطية جميع الحفلات في بعض الأيام."تمرد" على التحفظ المجتمعي
انتشار الترويج للحفلات بصورة مكثفة يصاحبه تباهي العديد من الزوار بمشاركتهم بها، سواء كان ذلك على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، أو بين المعارف والغرباء. يأتي ذلك بعد عقود طويلة، شكلت فيها الطبقة المتوسطة صمام التحفظ الديني والمجتمعي في مصر، أو على الأقل ادعت هذا التحفظ وحرصت على إظهاره. [caption id="attachment_78636" align="alignnone" width="1136"] السهر في القاهرة بعدسة محمد الخطيب[/caption] يقول أحد الشركاء المالكين لمطعم لوبرجين L'aubergine في حي الزمالك العريق في القاهرة، والملقب بنيشا، إن العديد من زبائنه يرتادون المطعم من أحياء متوسطة تعتبر أكثر تحفظاً، للسهر وشرب الكحول. البعض كان يخشى الظهور أمام معارفه أثناء خروجه مخموراً من أحد البارات، لكنهم لم يعودوا يكترثون لذلك. فالكثير من زواره لا يمانعون ذلك التصادم الفكري، بل ويسعون إليه، في مجتمع أصبحت مناقشة المعايير المختلفة، إحدى السمات التي تميزه منذ قيام ثورة يناير 2011.مراجعة الثوابت، فشل الثورة وإحباط عام
يرى الدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي في جامعة الأزهر، أن ميزان القيم في المجتمع المصري اختلف خلال السنوات القليلة الماضية. واهتزت الموازين الدينية، وتراجعت نتيجة لعوامل اجتماعية وسياسية مختلفة، ما جعل العديد من المصريين لا يجدون حرجاً مثلاً من الجهر بإلحادهم أو خلعهن للحجاب. ويعتبر المهدي أن فشل الثورة في تحقيق أهدافها خلق نوعاً من الإحباط لدى البعض، فجعلهم يتمردون على الثوابت الأخلاقية ويلجأون لطرق مختلفة كمصادر للسعادة. يقول المهدي: "الإنجازات المادية والمعنوية، من أكبر مصادر السعادة لدى أي إنسان، وحين يفشل في تأمينها، قد يلجأ لبديل آخر لتعويض هذا القدر المنقوص”. فالبعض ممن لا يملكون المال الكافي لحياة مُرضية، قد يتجه لمزيد من الإنفاق، بحثاً عن الرضى الذاتي. والأزمة التي تزداد صعوبة كل يوم، لا يبدو لها أي تحسن على الأقل في الوقت الراهن.الدخل لا يكفي للزواج؟ عليك بالسهر!
يقول شريف عبد العزيز (25 عاماً)، الذي يعمل في إحدى شركات الاتصالات بالقاهرة، إن أسعار كل شيء تزداد يوماً بعد يوم، ما يجعله يحاول الاستمتاع بأكبر قدر ممكن، قبل أن يصبح دخله غير كاف لمثل تلك السهرات. ويضيف: "ما أكسبه الآن، لا يكفي للزواج والتكفل بمصاريف عائلية، وجميع المؤشرات الاقتصادية لا تنبئ بانفراجة قريبة. لذلك، سأنعم بالسهر وإنفاق ما لدي اليوم، قبل أن يأتي اليوم الذي لن أقدر فيه على الذهاب إلى أحد الملاهي، لتمضية الوقت الذي يعينني على تحمل العمل الشاق”. من المرجح أن تلقي الأزمة الاقتصادية بظلالها على حياة القاهرة الليلية، في مستقبل ليس بالبعيد. لكن ما يبدو في الوقت الراهن هو أن إقامة الحفلات وافتتاح ملاهٍ وبارات جديدة، تشهد رواجاً غير مسبوق من أفراد الطبقة المتوسطة والثرية. فكما يقول نيشا "البيزنس مزدهر"، حتى وإن كان هذا الازدهار لن يستمر لفترات طويلة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.