لم تلد الحضارة المصرية القديمة الآثار الحجرية كالأهرامات والمعابد والمقابر فقط، بل شملت جميع جوانب الإنسان الحياتية. وعلى الرغم من إغفال الفراعنة تسجيل الكثير من أسرار حياتهم، أو ربما سجلوها ولم نكتشفها أو نفسر رموزها بعد، إلا أن ما سجلوه يكفي ليثير العجب والحيرة. أولى المصريون القدماء الطب والصحة عناية خاصة، وتشارك السحرة والأطباء معاً في الحفاظ على صحة المصريين القدماء ورعايتهم الطبية.
يكشف العديد من البرديات القديمة صراع المصري القديم مع المرض. وتبدو وكأنها معركة مستمرة بين الخير والشر، أكثر منها معركة بين القوة والضعف أو الصحة والمرض، نلقي الضوء في ما يلي على أهم ما سجله المصريون في بردياتهم الطبية.
1ـ بردية إدوين سميث
تعد بردية إدوين سميث أكثر البرديات الطبية أهمية، وهي بردية جراحية في المقام الأول، تعرض معلومات عن التصرف الطبي الجراحي مع 48 حالة جميعها تقريباً إصابات حوادث، وتعرض البردية أسلوب التعامل مع كل إصابة في أربع فقرات منفصلة، تبدأ بعنوان مختصر ثم طريقة الفحص الطبي ثم التشخيص، وتنتهي بالعلاج. ومن الحالات التي سجلتها بردية إدوين سميث التعامل مع مصاب بجرح في خده، وكما تقول البردية فإنه "إذا قمت بفحص مريض يعاني من جرح في خده، ووجدت تورماً واحمراراً حول الجرح، يجب عليك أن تضمده بلحم طازج في اليوم الأول، ويكرر العلاج حتى يقل التورم، وبعد ذلك يعالج بالشحم والعسل بضمادة موضعية يومياً حتى يتم الشفاء". تضمنت البردية أيضاً التشخيص الصحيح لإصابة كسر قاع الجمجمة، إذ "ينزف المريض دماً من فتحات الأنف والأذنين"، وتشخيص الالتهاب السحائي بعلامات دقيقة، إذ "لا يستطيع المريض أن ينظر إلى صدره أو يرى كتفيه" في كناية عن تيبس العنق الناتج عن المرض، وفي بعض الحالات الأخرى غير القابلة للشفاء، وصفت البردية بعض الوصفات والأدوية بغرض تخفيف الألم، عن مصاب بكسر مضاعف بالعظمة الصدغية بالجمجمة، وذلك عن طريق علاج المريض في وضع الجلوس وتطرية رأسه بالدهون وسكب اللبن في أذنيه. وتعرض البردية الحالات المسجلة بها في تسلسل منظم، فهي تبدأ بإصابات قمة الرأس ثم تتجه إلى أسفل نحو الوجه والفك ثم الرقبة حتى تصل إلى أعلى القفص الصدري والذراعين ثم العمود الفقري، ويستمر الفحص إلى الأسفل حتى القدمين، في عرض تشريحي منظم يتبع قواعد التشريح الكلاسيكية الواردة في كتاب التشريح لجراي Gray’s Anatomy، وهو واحد من أشهر وأكبر كتب التشريح الحديثة. واشترى الأمريكي إدوين سميث البردية، التي يعتقد أنها تنتمي لأحد مقابر جبانات طيبة على الضفة الغربية للنيل التي تعود لعصر المملكة القديمة (2986 إلى 2181 قبل الميلاد)، من بائع آثار مصري في عام 1862 م، وقد أهدتها ابنته بعد وفاته إلى جمعية نيويورك التاريخية، وهي محفوظة الآن في الأكاديمية الطبية بنيويورك.2ـ بردية إيبرز
تعود بردية إيبرز في الأصل إلى إدوين سميث، الذي اشتراها لدى اقتنائه لبردية إدوين سميث، ويعتقد أنهما وجدا معاً في نفس المقبرة قبالة الأقصر، وقد بيعت البردية لجورج إيبرز في عام 1872 م، وأطلق عليها اسم "بردية إيبرز"، وهي تحفظ الآن في مكتبة جامعة لايبزج. وتعتبر بردية إيبرز أطول بردية طبية، فهي عبارة عن 110 صفحات، ويرجع تاريخ كتابتها إلى العام التاسع من حكم أمنحتب الأول (حوالي 1534 قبل الميلاد)، وتبدأ البردية بثلاث رقيات، ثم تتحدث عن الأمراض التي تصيب البطن مع التركيز على ديدان الأمعاء، ثم الأمراض الجلدية وأمراض الشرج، وقد حرصت البردية على ذكر الأدوية الخاصة بالاضطرابات التي تصيب كل جزء من أجزاء الجسم. ومن الديدان التي قدمت البردية طريقة التعامل معها دودة غينيا، التي مثلت مشكلة صحية كبيرة في الماضي، وكما تذكر البردية فإنه "إذا فُحصت أورام في أي من ساقي إنسان، فيجب أن تضع عليها ضمادة، وستجد أن هذه النتوءات تتحرك جيئة وذهاباً تحت الجلد. في هذه الحالة لا بد أن تلجأ إلى العلاج بالمشرط. عليك أن تشق الجلد بواسطة مشرط، ثم تلتقط ما بالداخل بآلة الـ "هينو"، وستجد في الداخل شيئاً يشبه أمعاء الفأر، لا بد أن تنتزعه"، كما تقدم البردية وصفة للمساعدة على نمو الشعر في الرأس الأصلع باستخدام حراشف بعض الزواحف مثل الأبراص. ومن الأمراض التي سجلتها بردية إيبرز، مرض الطفح الجلدي، وقدمت عدة وصفات للمراهم من أجل علاجه، منها ما يتكون من زيت معدني ومزيج من اللبن والزيت النقي، ويوضع المزيج كضمادة على الطفح الجلدي لمدة أربعة أيام، أو يتكون من ورق الأكاسيا وراتنج وزيت معدني وسائل اللافندر والنطرون الأحمر والعسل والزيت، ويدهن به الجلد.3ـ بردية كاهون لأمراض النساء
تم العثور على برديات كاهون عام 1889 بالفيوم، وهي محفوظة منذ ذلك الحين في جامعة لندن. ومن بين تلك البرديات توجد بردية خاصة بأمراض النساء كتبت باللغة الهيراطيقية، ويعود تاريخ تلك البردية إلى العام التاسع والعشرين من حكم أمنمحات الثالث (1825 ق.م.). وعلى عكس بردية إدوين سميث، لا تحتوي بردية كاهون لأمراض النساء على وصف لكيفية فحص المريضة، لكنها تقدم نصائح علاجية لمن يشتكين من بعض الأعراض، مثل وصفات تعطى عن طريق الفم أو توضع داخل المهبل أو خارجه. وتتحدث إحدى فقرات البردية عن تبخير المهبل بوصفة ما من أجل زيادة فرصة حدوث الحمل، كما تذكر بعض اللبوسات المهبلية كوسيلة لمنع الحمل، تحتوي إحداها على براز التماسيح والثانية على العسل أو اللبن الرايب، كما تذكر البردية استخدام الزيت الطازج وصبه داخل المهبل من أجل منع الحمل. ولم تغفل البردية اختبارات الحمل، فهي تسجل ملحوظة احتقان الأوعية الدموية للثدي كعلامة على الحمل، كما يرد بها بعض الاختبارات الغريبة، حيث توصي بوضع بصلة داخل المهبل، مدعيةً أن المرأة الحامل هي التي ستنبعث رائحة البصل من أنفها، ولذلك يصف الكثيرون محتوى البردية بالمخيب لآمال الطب المعاصر، بسبب بعدها عن المفاهيم الحديثة لأمراض النساء، وعدم وجود أي شيء عن الولادة بها.4ـ بردية هرست
تتكون البردية من 18 صفحة تضمنت 260 فقرة تقريباً، وهي تشمل أجزاء عن الجهاز الهضمي والجهاز البولي والأسنان والعظام والشعر والدم ولدغات الزواحف، كما تشتمل على وصفات علاجية لبعض الحالات المرضية غير المحددة، كما تضم بعض التعازيم. وتتحدث إحدى فقرات البردية عن علاج مرض "أشيت" Ashyt، الذي لم يتوصل العلماء والأثريون إلى معرفة كنيته، عن طريق استخدام "الخروب وملح مصر السفلى، يغلى مع البول، ويوضع على العضو المريض"، كما تتحدث عن وصفة عبارة عن فأر مطبوخ في الزيت لوضعه فوق شعر الرأس لمنع الشيب. ويرجع تاريخ العثور على البردية إلى عام 1901 م، حين أهداها فلاح من قرية دير البلاص إلى أعضاء معسكر هرست للتنقيب تعبيراً عن امتنانه لسماحهم له بالحصول على بعض السماد، ويعتقد أن البردية تعود إلى حكم الأسرة الثامنة عشرة والفرعون تحتمس الثالث، وهي الآن في جامعة كاليفورنيا.5ـ برديات شستر بياتي
وهي مجموعة من البرديات أهداها رجل الأعمال السير ألفريد بياتي إلى المتحف البريطاني، بعدما تم العثور عليها خلال الحفريات في قرية عمال جبانات طيبة، وقد تفرقت تلك البرديات، البالغ عددها 19، للعرض في أماكن مختلفة، منها المتحف الأشموليني في أكسفورد والمعهد الفرنسي بالقاهرة ومكتبة ومتحف شستر بياتي في دبلن. وفي حين يضم الجزء الثالث من بردية شستر الخامسة تعازيم سحرية لعلاج الصداع والصداع النصفي، فإن واجهة البردية السادسة تدور أغلب فقراتها حول أمراض الشرج، بينما تحمل خلفيتها القليل من الوصفات الطبية مع الكثير من التعاويذ السحرية لأمراض غير معلومة.6ـ بردية برلين
اكتشفت هذه البردية في منطقة سقارة، ثم بيعت لفردريك ويلهلم الرابع ملك بروسيا في عام 1827، وأودعها متحف برلين، وتشير طريقة كتابتها إلى انتمائها إلى الأسرة التاسعة عشرة. وتتعامل البردية مع أمراض الثدي، وتعرض طريقة فولكلورية لمنع الحمل، واختباراً لتحديد نوع الجنين (ذكر أم أنثى)، وتعد بردية برلين واحدة من البرديات الطبية القليلة التي تناولت علاج أحد اضطرابات الجهاز العصبي، فتصف البردية حالة لشلل عصب الوجه، وهو يصيب عادة ناحية واحدة من الوجه. وتنص على تبخير المريض فتقول "التبخير لتخليصه من شلل الناحية الواحدة من وجهه وكذلك لجانب فمه".7ـ بردية لندن الطبية
لا تتوافر معلومات حول مصدر هذه البردية، التي كانت ملكاً للمؤسسة الملكية بلندن، ثم انتقلت إلى المتحف البريطاني عام 1860. وتتكون البردية من 19 صفحة، تضم 61 فقرة، من بينها 25 فقرة طبية والباقي تعاويذ سحرية، ويوجد بالبردية جزء صغير عن أمراض النساء، وهناك 17 فقرة تتفق مع بردية إيبرز.8ـ بردية كارلسبرج الثامنة
لا أحد يعلم أصل هذه البردية، وقد كانت تنسب للأسرة التاسعة عشرة أو الأسرة العشرين، لكن طريقة كتابتها وأسلوب وطريقة عرضها تشير إلى الأسرة الثانية عشرة، وبينما تمتلك مؤسسة كارلسبرج هذه البردية إلا أنها معارة إلى معهد المصريات في جامعة كوبنهاجن. تدور البردية حول كيفية اكتشاف الحمل ومعرفة جنس الجنين، وكذلك قابلية المرأة للحمل من عدمه، كما تعرض بعضاً من أمراض العيون، وهي تحتوي على عدة فقرات تشبه ما جاء في برديات برلين وكاهون الطبية.9ـ برديات الرامسيوم 3 و4 و5
في عام 1896، تم العثور على 17 بردية داخل صندوق خشبي في قاع مقبرة خلف معبد الرامسيوم العظيم في طيبة، وقد أشارت إحداها إلى الفرعون أمنمحات الثالث، من الأسرة الثانية عشرة، مما يعني أنها تعود إلى زمن لاحق لعام 1854 قبل الميلاد. ويقع الجزء الطبي في برديات الرامسيوم الثالثة والرابعة والخامسة، فتتحدث البردية الثالثة عن طب العيون وأمراض النساء والأطفال، وهي توصي بوضع البول البشري في العين من أجل علاجها من كثير من الأمراض، كما تشتمل البردية الرابعة على وصفات تخص أمراض النساء والأطفال، بينما تضم البردية الخامسة مفاهيم طبية وعلاجات لإصابات العضلات والأوتار إلى جانب تعاويذ سحرية.10ـ بردية بروكلين لعلاج لدغات الثعابين
تتناول هذه البردية لدغات الثعابين فقط، وهي محفوظة في متحف بروكلين، وتعود إلى عصر الأسرة الثلاثين أو ربما بداية العصر البطلمي. ويحتوي الجزء الأعلى من البردية على تصنيف لمختلف أنواع الحيات ولدغاتها، وصل عددها إلى 38 ثعباناً وحية، وتضمن الجزء التالي منها عرضاً للعقاقير المستخدمة في التخلص من سموم الثعابين والحيات، وكذلك طرق طرد جميع الثعابين وغلق أفواهها، وبعض الرقيات التي تستخدم في الشفاء من لدغات الثعابين. ويحظى البصل بمكانة مميزة في البردية في ما يخص حالات لدغ الثعابين، فتقول إحدى فقرات البردية "أدوية عظيمة الفائدة تحضر من أجل هؤلاء الذين يعانون لدغ جميع أنواع الثعابين: البصل.. يدهس جيداً في الجعة. يتناول المريض المزيج ليتقيأ يوماً واحداً"، وفي فقرة أخرى "بالنسبة للبصل، فيجب أن يكون بين يدي كاهن سركت أينما ذهب، لأنه يقضي على السم الخاص بأي ثعبان، ذكراً كان أو أنثى. وإذا دهس البصل في الماء ومسح به جسم الإنسان فلن تلدغه الثعابين. وإذا خلطه إنسان بالجعة وسكبه في كل أنحاء المنزل في أحد أيام السنة الجديدة فلا يمكن لأي ثعبان أن يدخل المنزل".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...