بدايةً، من هو المُولّد؟ المُولّد مصطلح متعارف عليه في المجتمع اليمني، على أنه اليمني الذي يحمل أحد والديه جنسية أجنبية غير يمنية. أو في أسوأ حالات الحساسية المفرطة التي يظهرها المجتمع اليمني تجاه كل ما هو غريب، المُولّد هو من له أي صلة عرقية في شجرة العائلة بجنسية أخرى غير اليمنية، حتى لو كان جده الثالث في سُلالة العائلة، من جنسية غير يمنية. يُطلق عليه: مُولّد إثيوبي أو مصري.
أُفكر في حال المولدين اليمنيين في زمن الحرب، لأنني واحدة من المولدات الإثيوبيات، وأتفهم تماماً تعقيدات الهوية المزدوجة. وعليه أُركز هنا على المولدين اليمنيين-إثيوبيين. مر نحو عامين على الحرب في اليمن، والغالبية العظمى تحت حصار خانق، بينما السماء تُمطر صواريخ، والقتال المسلح على الأرض لا يهدأ.
يشهد اليمن حصاراً برياً وبحرياً وجوياً، الأمر الذي أدى إلى أن يكون مسرحاً لأكبر نسب النزوح الداخلي في العالم. اليوم، يوجد أكثر من 3 ملايين نازح في اليمن. ببساطة، لا مفر لليمنيين، وحتى إن سنحت لهم فرصة الهرب، تكون عملية الفرار صعبة، ومعقدة أكثر للمولدين اليمنيين، أولئك الذين يعيشون بهوية (ورقية وثقافية) مزدوجة.
الحياة قبل الحرب
ولفهم هذا التعقيد، لا بد من رسم صورة سريعة عن حياة المُولّد اليمني قبل الحرب. لا يوجد إحصاء دقيق لعدد المولدين في اليمن، نظراً لغياب مؤسسات حكومية مهتمة بهذه الفئة، ونظراً لأن المولدين أنفسهم في الغالب، لا يودون الكشف عن أصلهم العرقي الآخر، إلى جانب الهوية اليمنية. ربما يعود عدم رغبة المولدين بالمجاهرة بالأصل الآخر، إلى تعقيدات في قوانين الأحوال المدنية للبلدين، بخصوص حمل أكثر من وثيقة سفر. من تجربة شخصية، ومن معاملاتي مع المولدين اليمنيين الإثيوبين بشكل خاص، وجدت أن عدداً كبيراً منهم عملوا على مداراة حقيقة هويتهم المزدوجة، بسبب المناخ العنصري الذي يرى أن اليمني الحامل جنسيتين، مواطن من الدرجة الثانية وموضع سخرية. المجتمع اليمني، مجتمع متجانس، يُفضل ديموغرافية متجانسة، ولديه شكوك تجاه فكرة التعددية العرقية والثقافية. بالتالي، يجد المُولّد نفسه أمام خيارين صعبين، إما أن يُصرّح جهراً بهويته الأخرى ويتحمل العواقب من عنصرية وتمييز، أو أن يُخفي تلك الهوية، ويبذل قصارى جهده لإثبات أنه يمني 100%، بما في ذلك أن يعمل على حمل وثيقة سفر واحدة فقط، هي اليمنية.مأزق الحرب
هذه المجموعة الثانية من المولدين، ممن حرصوا على حمل الجنسية اليمنية فقط، ومداراة أي خلفية أخرى، وقعوا في مأزق قانوني في زمن الحرب. فمع نشوب الحرب، نشب الندم في نفوس المولدين اليمنيين، الذين لم يكترثوا في السابق لإثبات ازدواجية هويتهم بأي وثيقة. إذ أعلن عدد من السفارات ترحيل مواطنيهم المقيمين في اليمن، فتدافع الأثيوبيون إلى سفارتهم. وبالرغم من عدم امتلاكهم الجنسية الأثيوبية، ذهب المولدون إلى السفارة الأثيوبية على أمل أن تعترف بأن لهم أصلاً إثيوبياً، فتسمح بترحيلهم. لكن الحقيقة أنهم لم يجدوا العون المفترض، لافتقارهم لأوراق ثبوتية تؤكد أصلهم الأثيوبي.من هو "المولّد"؟ ومن المسؤول عن المأزق الذي وقع فيه خلال الحرب؟لذا كان مستحيلاً لعدد كبير من المولدين الإثيوبيين أن ينزحوا من اليمن إلى أديس أبابا، بالرغم من أنهم إثيوبيون أيضاً. وهنا يأسف المُولّد على عهد النكران الذي عاشه طوال الأعوام الماضية. بعض الُمولّدين الذين كانوا يُدارون هويتهم الإثيوبية، يتحسرون على أنهم لم يثبتوا هويتهم ببطاقة هوية أو جواز من قبل. علماً أن قانون الأحوال المدنية اليمني يسمح للمواطنين اليمنيين بحمل أكثر من جنسية في الوقت نفسه. أما قانون الأحوال الشخصية الأثيوبي فلا يسمح بذلك. وهنا، تكمن المعضلة الحقيقية. زينب*، يمنية تحمل جواز سفر يمنياً وأثيوبياً، حكت كيف استطاعت النزوح إلى أثيوبيا في بداية الحرب. على غير العادة، كانت زينب تُجاهر بأصلها الأثيوبي متحديةً كل التابوهات والعنصرية، فأثيوبيا موطن والدتها ولهجتها اليمنية تُشير بكل وضوح إلى أنها مُولّدة يمنية-أثيوبية. كجزء من عملية تصالح زينب مع تعددية هويتها، عملت على الحصول على بطاقة هوية إثيوبية قبل الحرب بفترة طويلة، ثم الجواز الإثيوبي، فأخفت على السلطات الإثيوبية حملها لوثيقة سفر أخرى. ومع اندلاع الحرب عام 2015، نزحت إلى أديس أبابا كالعشرات من اليمنيين المولدين أصحاب الجواز الأثيوبي، ومن تلاعبوا بالقوانين. كلاجئة مُولّدة، وصلت إلى بلدها الآخر، وهي في حيرة من أمرها، هل تُعرف نفسها بأنها لاجئة أو واحدة من أهل البلد! أما بالنسبة إلى حسن*، المُولّد اليمني-الإثيوبي، فلم يستطع النزوح مع والديه المولدين الحاملي الجنسيتين اليمنية والأثيوبية كما فعلت زينب. لم يرد أن يحمل الجوازين، فكان يحمل الجواز اليمني فقط، لذا لم تسمح له السفارة بالسفر مع والديه. يخبر حسن أنه كان صعباً عليه تقبّل خلفيته الإثيوبية، إذ لم يستطع مواجهة التمييز أثناء طفولته في اليمن. أراد أن يكون يمنياً 100%، وأن يُعتبر مواطناً من الدرجة الأولى، لهذا لم يتحمس وقت السلم لاستخراج أوراق سفر إثيوبية، وهو يتحسر على ذلك اليوم. وجدت زينب وأهل حسن والعديد من المولديين اليمنيين-الأثيوبيين الوصول إلى الركن الآخر من البحر الأحمر في أثيوبيا، تجربة، في طياتها مشاعر وواقع متناقض في الوقت عينه. فهم بحكم أوراق السفر الأثيوبية في أرضهم الأم، وبحكم الحقيقة مجرد لاجئين. من المفترض أن يشعروا بالأمن في أحضان وطنهم، لكنهم يشعرون بالضياع. والحق أن مجمل المولدين اليمنيين-الأثيوبيين يعتمدون بشكل رئيسي في التأقلم على البيئة الجديدة، على علاقاتهم الاجتماعية، وعلى أقربائهم وأصدقائهم، الذين يقطنون أثيوبيا، فلا يسعون إلى أي دعم من أي مؤسسة حكومية أو من المنظمات الدولية. ونظراً للتقارب الجغرافي والثقافي بين اليمن والقرن الأفريقي، هناك تاريخ طويل بين البلدين، من علاقات هجرة ولجوء وسفر. وبالرغم من اختلاف اللغات، فإن المولدين اليمنيين-الأثيوبيين يعتبرون أثيوبيا شبيهة باليمن ثقافياً، الأمر الذي يُخفف شعور الغربة لدى اللاجئ المُولّد، ويساعده في استيعاب هويته الجديدة. أو على الأقل هذا ما يمكن تصوره. في بداية الحرب، فر نحو 200 ألف من اليمن، بينهم 80 ألف مواطن أثيوبي. من الصعب تحديد عدد المولدين اليمنيين-الإثيوبين بينهم، بسبب التعقيدات القانونية، ولكن يرُجح أنهم كانوا نسبة عالية. ثم مع مرور الشهور اللاحقة للجوئهم في أثيوبيا، لم يستطع الكثيرون منهم التأقلم مع الهوية الجديدة، فما كان من الكثيرين منهم إلا العودة إلى اليمن. اليوم هناك نحو مليون عائد إلى اليمن من النزوح. كانت زينب من العائدين، فهي لم تستسغ تجربة الإقامة في إثيوبيا. إثيوبيا لم تعد جميلة كما كانت من قبل في نظرها، والحنين إلى اليمن كان أكبر من أي شيء. بعد أربعة أشهر من محاولة التكيف، قررت زينب أن تحمل حقائبها وتعود إلى اليمن. تقول: "ما حد يموت ناقص عمر. أرحم لي أن أموت في بيتي في صنعاء على أن أعيش ما تبقى من حياتي وأنا أحاول التأقلم مع تجربة اللجوء، حتى لو كنت في بلد أمي". عاد والد حسن أيضاً بعد عدة شهور إلى عدن. يخبرني حسن أن تجربة اللجوء لوالده أيضاً كانت صعبة، وأن الحنين لليمن كان أقوى من أي شعور عاشه في إقامته القصيرة في أديس أبابا. تواصلت مع والد حسن حتى أعرف منه السبب الحقيقي الكامن وراء قرار العودة، قال لي بثقة: "عز القبيلي بلاده". *تم تغيير اسمَيْ زينب وحسن للحفاظ على سلامتهما القانونية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...