يسكن أبو رامي (48 عاماً) مدينة بغداد، وهو حاصل على شهادة ماجستير في الهندسة الزراعية. أبو رامي وزير للتربية والتعليم العالي، والخارجية، والزراعة والموارد المائية، كلها في الوقت نفسه. يدير وزاراته بشكل دوري، خصص لكل وزارة يوماً في الأسبوع، يلتقي موظفيها ومراجعيها الذين يشكون له ما يواجههم في تلك الوزارات. لكن أبو رامي لا يمكنه حل مشاكل المراجعين، فهو في الحقيقة ليس وزيراً، بل مريض نفسي.
عام 2006، خُطف أبو رامي من قبل ميليشيات في منطقة السيديه شمال شرق العاصمة بغداد. بقي محتجزاً لديها مدة شهرين، ليفرج عنه بعدها، لكن بحالة يرثى لها. تسبب له التعذيب الذي شهده خلال مدة اختطافه بخلل في عقله، وبقي طريح الفراش مدة عام، ليجد الشارع طريقه ومسكنه، ويصنع له عالماً جديداً جسده بشخصية وزير لعدد من الوزارات.
تلك الحالة، يتحدث عنها بألم صديق لأبو رامي، فضل عدم الكشف عن اسمه لرصيف22: "أبو رامي كان أستاذاً في إحدى الجامعات العراقية المعروفة، وعائلته من العائلات المرموقة في بغداد. وقد حاولت زوجته وأبناؤه الثلاثة، حتى أصدقاؤه، بشتى الطرق أن يمنعوه ويجلسوه في البيت ويعالجوه، ولم يستطع أحد ذلك بسبب عدم تحملهم لصراخه اليومي ومطالبته الدائمة بالخروج”.
توجهه إلى الوزارات حصل بشكل سريع بعد خروجه من البيت، بحسب صديقه. ويعتقد أن أبو رامي يحاول بهذه الطريقة أن يحكي للشارع عن مصيبته التي تعرض لها، لكن بلغة لا نعرفها. يضيف: "لم يتحدث حتى الآن عن عملية اختطافه وطرق تعذيبه. وعادة يطالب خلال حديثه مع الناس بإنصاف المواطن وحمايته من الوحوش وقطاع الطرق بحسب وصفه، ومرات عدة أجده جالساً على هيئة وزير، يجتمع بالناس ليوجههم كيف يسيرون بمعاملاتهم اليومية، ويصدر أوامر بقطع رواتب الموظف المخالف والمقصر في واجبه. وغالباً يضطر لفصلهم". ويوضح: "هو في الواقع يتحدث بصدق عن واقع بعض الموظفين الفاسدين، الذين يحتمون بمليشيات وأحزاب متنفذة في الدولة".
حالة أخرى تجسدها هذه المرة نضال (34 عاماً)، من سكان بغداد، وقد اختارت أختها ( ع . ر) هذا الاسم لها، لأنها تعتقد أنها كانت تحبه. تروي ع . ر قصة أختها نضال التي كانت طالبة مرحلة أخيرة في كلية التربية، قسم اللغة الإنجليزية، وكانت تحب زميلاً لها حد الجنون. يوم التخرج، أكد لها أنه سيرتبط بأخرى، لأنه ببساطة يود الهجرة معها خارج العراق، ما سبب لها صدمة أبقتها مدة شهر لا تنطق بكلمة واحدة، وقطعت الأكل والشراب حتى الإغماء. وبعد تلك المدة، دخلت في حالة نفسية أفقدتها عقلها.
تقول شقيقة نضال: "بحكم العادات والتقاليد في العراق، فإن خروج نضال للشارع شبه مستحيل، لما يتسبب للعائلة من إحراج كبير. لذا أبقيناها حبيسة البيت، لكن ذلك لم يمنعها من تجسيد شخصيات خيالية نشاهدها ونعيشها كل يوم. منها أنها عرافة تعلم كل ما يجري حولها، حتى بدأت تصدر فتاوى تكتبها بخط يدها". ومن هذه الفتاوى واحدة تبيح للمرأة الزواج بأربعة رجال، أو أن يكون الصيام خلال شهر رمضان مرة كل ثلاث سنوات وغيرها. وتشير الأخت إلى أنها في أحدى المرات أعلنت نفسها حاكماً ورئيساً للعراق، وبدأت تخطب في أهلها وترشدهم لإصلاح الدولة وإبعاد الفاسدين. وتضيف: "لكن المحزن في الأمر، أنها بعد تجسيد كل شخصية تذهب إلى غرفتها، ونسمعها تبكي كثيراً، وكأنها تدرك ما تفعله من خطأ رغم أننا لا نُشعرها بذلك، وعادة نسايرها بشخصيتها ونتفاعل معها".
الدكتور رؤوف عطية، الاستشاري في الأمراض العصبية والنفسية في مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية والعصبية، يفسر الحالتين لرصيف22. يعتبر عطية أن أبو رامي تعرض للتعذيب الشديد، وربما الضرب المبرح على رأسه، ما أدى إلى ارتجاج في الدماغ، إضافة إلى الضغط النفسي، الذي تسبب له باضطراب في العقل. وتجسيده لتلك الشخصيات هو هروب من واقعه، الذي يريد أن يملأه بما يمكّنه من السيطرة على الناس، أو الثأر من الذين تسببوا له بذلك، من خلال إصدار الأوامر. فضلاً عن تحصين نفسه بشخصية تمنع هؤلاء من التعرض له مرة أخرى.
أما نضال، فتعرضت لصدمة شديدة تسببت لها بفتور في الأعصاب الدماغية، التي تمنع الانصياع إلى أي أوامر عقلانية يريدها الإنسان، والعيش في خيال يصنعه بنفسه ويجسده بعيداً عن إدراكه للخطأ أو الخطر. فالإنسان الطبيعي عندما يقدم على فعل أي شيء يقيس بنفسه خطورة أو خطأ ذلك الشيء، عكس نضال، التي تسمح لنفسها بخوض تلك الشخصيات من دون خوف أو رادع يمنعها.
وزارة الصحة العراقية من جانبها سجلت زيادة في معدل حالات الإصابة بالأمراض النفسية والعصبية بين العراقيين، من عام 2013 لغاية 2015. عازية ذلك إلى الأزمات التي عاشتها البلاد حينذاك، من بينها الواقع الأمني والخدماتي والسياسي.
ويقول وكيل وزارة الصحة خميس السعد لرصيف22 إن تلك الزيادة جاءت بنسبة 5.3%، خلال هذه الأعوام الثلاثة. ومن أجل السيطرة على تلك الزيادة، سارعت الوزارة خلال العام الحالي 2016، إلى وضع خطة لدراسة أسبابها، وكيفية الحد منها.
وأضاف السعد أن اللجنة التي شكلت لمتابعة الخطة الموضوعة لهذا الملف، اعتبرت أن عدم إفصاح المريض عن المشاكل النفسية التي يواجهها خوفاً من نظرة المجتمع له، هو أحد أسباب ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض النفسية.
ويقول دكتور الأمراض النفسية والعصبية جودت الخياط لرصيف22: "في العراق ما زال العلاج بدائياً، والحصار الدولي عزل العراق عن الأساليب المتقدمة في علاج النفس البشرية” إذ أن هناك أساليب جديدة بعيدة عن مواجهة الصدمة بالصدمة المعتمدة من قبل الكثير من الأطباء. كما أن فترة الحصار أخرت وصول الدواء إلى المرضى النفسيين في العراق. وأوضح: "عام 1994 ـ- 1995، صرفنا دواء منتهي الصلاحية، لأننا لا نملك غيره، أملاً في أن يأتي بفائدة، أضف إلى ذلك أن علاج الأمراض النفسية في العراق غال، لذلك يعزف الناس عنه".
ويبدو أن نقص الكوادر الطيبة سبب آخر يضاف إلى زيادة الأمراض النفسية، فيقول الأمين العام لنقابة الأطباء في العراق الدكتور شريف عزت لرصيف22: "في العراق فقط 93 طبيباً متخصصاً في الأمراض نفسية، والسبب يكمن في عزوف الطلبة عن هذا الاختصاص". مبيناً أن غالبية الطلبة في كلية الطب، لا يرغبون في هذا الاختصاص لأنهم يعتقدون أنه اختصاص صعب، كما أن الطالب لا يجني من ورائه لا الشهرة ولا الاسم الطبي، ولا حتى المردود المالي.
وفي تقرير صحفي أعده معهد "غالوب" المتخصّص بدراسات الرأي العام لائحة بالشعوب الأكثر إحباطاً، وجاء العراق في موقع الصدارة، متقدّماً على 148 بلداً. وأفادت اللائحة أن العراقيين يلازمهم شعور بالسلبية في حياتهم اليومية. كما أن منظمة الصحة العالمية تؤكد زيادة معدلات الأمراض النفسية بين الأطفال بنسبة 124% في عام 1999، عن عام 1991.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...