خلال التظاهرات الشعبية التي جرت مؤخراً في ساحة تقسيم في اسطنبول، وقف شاب تركي على عامود يرتفع عليه نصب لمصطفى كمال أتاتورك وقيّد نفسه به. بدا وكأنه يقيّد نفسه بماضي تركيا العلماني، ولكن المشهدية أشّرت إلى رغبة مستقبلية في تخطي نموذج حزب العدالة والتنمية.
هو "الإسلام المعتدل" أو "الإسلام الديمقراطي". وهو ببساطة "الإسلام التركي". لم ينتشر الحديث عنه إلا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 ونجاح السياسات التي تبنّاها.
فجر "النموذج التركي"!
في 23 نوفمبر من العام 2002 نال حزب العدالة والتنمية حوالى 34% من أصوات المقترعين الأتراك. هذه النسبة مكّنته من كسب حوالي ثلث مقاعد النواب بسبب تشتت أصوات كثير من المقترعين على أحزاب صغيرة فشلت في تخطي عتبة العشرة في المئة.
كان الاقتصاد التركي شبه منهار. أطلق الحزب الجديد الذي أسسه الشابان رجب طيب أردوغان وعبد الله غول مسار تنمية أدّى، في ظرف سنوات قليلة، إلى الارتقاء باقتصاد البلاد ليحتل المرتبة السادسة عشرة في العالم. دخلت تركيا نادي مجموعة العشرين.
وجّه قادة الحزب أنظارهم نحو القارة العجوز. أرادوا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتغيير وجه تركيا. عملوا على استيفاء المعايير التي تمكنهم من تحقيق حلمهم. ألغوا حالة الطوارئ وأطلقوا الحريات المدنية والدينية وأصلحوا نظام السجون. وافق الاتحاد الأوروبي عام 2005 على إطلاق مسيرة التفاوض على انضمام تركيا إليه.
في السياسة الداخلية تصدّى الحزب بشجاعة لمطالب المكوّنات الاجتماعية للشعب التركي. عمل على الاستجابة لهواجس الأقليات وتبنّى خطّة "الانفتاح العلوي". هذه السياسات أكسبته، في انتخابات 2007، معظم أصوات الأرمن والأقلية اليونانية وأكثر من نصف أصوات الأكراد الذين كانوا يتخوّفون منه قبل أربع سنوات. فاقت شعبيته بأشواط شعبية "حزب الشعب الجمهوري" (التيار الكمالي) الذي لم يستطع تجاوز عقلية القومية التركية الصارمة. لائحته التي تضمّنت وجوهاً ليبرالية بعد إقصاء المرشحين الإسلاميين حصدت 46% من أصوات الناخبين الأتراك. وفي العام نفسه فاز عبد الله غول في الانتخابات الرئاسية.
عندما سُدّت الطريق إلى أوروبا في وجه تركيا، عرف العدالة والتنمية كيف يوجّه سياساته شرقاً. نجح في نسج علاقات جيّدة مع كل اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط. في بداية العام 2009، وقف أردوغان أمام المجتمعين في دافوس وهاجم الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. صدى صوته عمّ العالم الإسلامي. وفي أيار 2010، تحدّى الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة وأرسل سفينة مرمرة المحمّلة بمواد تموينية. هاجم الجيش الإسرائيلي السفينة وقتل تسعة أتراك. من جديد علا التصفيق لشجاعة الأتراك في مواجهة العنجهية الإسرائيلية.
الـ"آفاتار" الخامس
حزب "العدالة والتنمية" ليس الحزب الإسلامي الأول في "تركيا اللادينية". هو الـ"آفاتار" Avatar الخامس للخطاب الإسلامي في تركيا، على ما يرى المؤرخ شريف مردين.
قصة تركيا الحديثة بدأت في الحرب العالمية الأولى حين خرج من بين أنقاض الأمبراطورية العثمانية قائد عسكري إسمه مصطفى كمال وحقق انتصارات عسكرية حمت تركيا من الاندثار. هو أتاتورك، أبو الأتراك وباني دولتهم المركزية المؤسسة على فكرة القومية التركية والمحكومة من نظام ثوري وجمهوري وشعبي وعلماني. كان أتاتورك يعتبر أن الدين ليس سوى "نظريات لا طائل من ورائها". حكمت هذه النظرة العلاقة بين الدين والدولة في تركيا.ولكن السياسة الكمالية الهادفة إلى نزع تركيا من الشرق ووضعها في الغرب لم تنجح في تغيير الذهنية التركية بشكل كامل. عام 1950، بعد 4 سنوات من السماح بالتعددية الحزبية، حقق "الحزب الديمقراطي"، بزعامة عدنان مندريس، انتصاراً كاسحاً في الانتخابات النيابية، عاد وكرّره عامي 1954 و1957. لم يضمر الحزب الجديد العداء للدين كما سلفه. في فترة حكمه عاد الأتراك إلى تلاوة الآذان باللغة العربية وعادت الإذاعة تفتتح برامجها بتلاوة القرآن. وفي هذه الحقبة افتتحت "معاهد إمام خطيب"، هذه المدارس التي ستخرّج أردوغان وغول.
لم تعجب هذه التجربة الجيش التركي، حارس العلمانية، فتدخل وأطاح بها. وقبل العودة إلى ثكناته فرض تأسيس "مجلس الأمن القومي" منيطاً به وظيفة مراقبة عمل الحكومات والحرص على عدم خروجها عن النهج الكمالي.
في السبعينات من القرن الماضي ظهر نجم الدين أربكان. أربكان هو سياسي إسلامي متأثر بالطريقة الصوفية النقشبندية التي كان يقودها الشيخ محمد زاهد كوتكو المعجب بأفكار الإخوان المسلمين، ومتأثر بدعوة نسيب فاضل إلى إعادة بناء "أمبراطورية الشرق الإسلامي".
خلال عشر سنوات خاض أب الإسلام التركي غمار تجربتين حزبيتين بتأسيسه "حزب النظام الوطني" ثم "حزب الإنقاذ الوطني". الحزبان حُلّا بعد تدخلين للجيش عامي 1971 و1980 وذلك لتعارض مبادئهما مع قيم العلمانية وخوفاً من تمدد الثورة الإيرانية التي نوّه بها أربكان.
في العقد التالي شهدت تركيا ظاهرة رئيس حزب "الوطن الأم" تورغت أوزال. تولى أوزال رئاسة الوزراء بين عامي 1983 و1989 وكان أول رئيس وزراء تركي يقيم إفطارات رمضانية في مقر الحكومة. اعتمد أوزال الذي سيفوز بانتخابات رئاسة الجمهورية سنة 1989 سياسة اقتصادية إصلاحية أدت إلى ظهور طبقة بورجوازية جديدة قوامها رجال أعمال من المناطق المهمشة وخاصة من الأناضول حيث لم تصل تأثيرات الكمالية بقوة. هؤلاء، إضافة إلى النازحين من الريف إلى المدينة، شكلوا نواة "حزب الرفاه"، حزب أربكان الجديد.
سنة 1995 فاز حزب الرفاه بـ21.6% من مقاعد البرلمان أوصلت أربكان إلى رئاسة الحكومة. ومن جديد استقال عام 1997 بضغط من "مجلس الأمن القومي" وبعد سنة حُلّ الحزب. آخر تجارب رائد الإسلام السياسي التركي كانت تأسيسه "حزب الفضيلة".
حُلّ آخر أحزاب أربكان عام 2001، فبرز تيار إسلامي معتدل يقوده أردوغان وغول وقرّر عدم استعادة تجربة السياسة الإسلامية الصدامية، فأسس حزب العدالة والتنمية. من هنا بدأت مسيرة مختلفة عنوانها نجاح الإسلام التركي.
تفكيك "الدولة العميقة"
نجاحات العدالة والتنمية في الداخل التركي ومظلة تحالفاته الدولية الواسعة سمحتا له بتحدّي المنظومة السياسية – العسكرية وبتفكيكها تدريجياً، خاصة أن أهم عناوين هذا التفكيك كانت تندرج تحت باب الإصلاحات المؤهلة لدخول الاتحاد الأوروبيكالتعديل الدستوري للعام 2004 الذي حوّل مجلس الأمن القومي إلى مجلس مدني.
اكتشاف تنظيم "أرغينيكون" عام 2007 هزّ تركيا. هذا التنظيم السرّي كان يضم قيادات عسكرية وسياسية ووجوهاً تركية من مختلف المجالات، وكان ينوي اغتيال شخصيات سياسية تنتمي إلى التيار الإسلامي وإسقاط الحكومة. للمرّة الأولى واجه القضاء العسكر الانقلابيين وأصدرت محكمة اسطنبول الثالثة، في 5 تموز 2013، قرارات أدانت 254 متآمر.
قبلها كان التحول التاريخي الذي نتج عن استفتاء 12 سبتمر 2010 حين تم إخضاع عناصر الجيش للسلطة المدنية. وبعد حوالي سنة من ذلك، استقال اعتراضاً على المسار التركي مجموعة من قيادات الجيش، فاستغلت الحكومة الموقف لتعيّن مكانهم أشخاصاً مقربين منها. ومؤخراً وزّع مجلس الشورى العسكري المناصب القيادية للجيش بشكل يقصي المناوئين للحكومة.
الأسلمة الناعمة
عام 2004 تقدّم حزب العدالة والتنمية بقانون يهدف إلى تحريم الزنا. أحدث اقتراحهضجة كبيرة دفعته إلى سحبه خوفاً من إثارة حفيظة العلمانيين والاتحاد الأوروبي. هذا الاقتراح يعتبره البعض حجة على نيّة العدالة والتنمية أسلمة المجتمع ولكن بخطوات ذكية وتدريجية.
انتظر أردوغان عشر سنوات ليعرب عن نيّته "تنشئة جيل من المتدينين والمحافظين". أقرّ قانون يسمح بفتــح معاهــد إمام خطيب أمام من أنهى المرحلة الابتدائية، أي للطلاب من سن 11 إلى 15 سنة. وفي المدارس العادية، أدخلت مادة تعليمية حول حياة النبي محمد.
معاهد "إمام خطيب" الحكومية تشبه المدارس العادية ولكنها تخصّص 8 ساعات لتدريس القرآن أسبوعياً، و15 ساعة للغة العربية. أنشئت عام 1951 واستخدمها النظام العلماني للحدّ من انتشار الأفكار الشيوعية والإسلامية المتشدّدة. عشرات الآلاف من الطلاب الأتراك يدرسون في هذه المعاهد التي تؤهلهم لإكمال الدراسة الجامعية والتي كانت قبل التعديل الأخير تقتصر على مرحلة التعليم الثانوي.
كذلك، وقّعت وزارة التربية بروتوكولاً، مع مؤسسة "وقف الخيرات"، يهدف إلى تلزيمها إقامة دورات مجانية لتدريس القرآن واللغة العثمانية القديمة. ستبدأ الخطة بافتتاح 300 مركز للتدريس في مختلف المدن التركية، ثم سيتضاعف العدد مرتين. تهدف هذه الدورات إلى تعزيز الارتباط بالقيم الإسلامية.
كل هذه الخطوات أقرّت سنة 2012 التي اختتمت برفع السلطات التركية حظر ارتداء الحجاب في مدارس التعليم الديني وفي المدارس العادية خلال حصص التعليم الديني. هذا القرار يدخل حيز التنفيذ في السنة الدراسية القادمة.
عثمانية جديدة؟
في السياسة الخارجية، يُعتبر وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو منظّر حزب العدالة والتنمية. حاملاً كتابه "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في السياسة الخارجية"، بدأ عمله كمستشار لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان قبل أن يتسلّم حقيبة الخارجية عام 2008.
يرى أوغلو أن تركيا كانت تلعب أدواراً أقل من حجمها. ويدعو إلى نهضة ثقافية تجمع بين فضيلة الشرق وعقلانية الغرب. يربط داود أوغلو السياسة التركية الخارجية بالمسلمين ويعتبر أن الاقليات التركية والمسلمة في دول البلقان تشكل عناصر مهمة في صنع السياسة التركية. في 27 نيسان 2012، وقف أوغلو امام البرلمان وقال: "إن شرقاً أوسط جديداً يولد وتركيا ستكون قائدته وسترسم ملامحه".
يعتبر البعض أن سياسة تركيا الإقليمية هي نوع من عثمانية جديدة. "إننا بلد تأسس على بقية الدولة العلية العثمانية. نحن أحفاد السلاجقة. نحن أحفاد العثمانيين"، قال أردوغان مبرراً اهتمامه الزائد بالأزمة السورية. وفي خطاب آخر، اعتبر أن العرب مسؤولون عن ضياع فلسطين والقدس بسبب عملهم ضد السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، مستعيداً ذكرى السلطان السلجوقي كيليتش أرسلان الذي "كان يعمل ليحافظ، من الأناضول وإزنيق، على أمن القدس ودمشق"!
زمن الانكسارات
الأزمة السورية وما رافقها من سجالات سياسية بين الأحزاب التركية كشفت الكثير مما كانت تضمره نظرة حزب العدالة والتنمية إلى الأقليات. فعلى الرغم من اعتبار أوغلو أنه "ليس في ثقافة حزب العدالة والتنمية ثقافة سنّية" اتهم أردوغان مرّة زعيم حزب الشعب الجمهوري كيليتشدار أوغلو بأنه ضد الانغماس التركي في الشأن السوري لأنه علوي، وسخر مرّة ثانية من نواب أكراد على أساس أنهم زرادشتيون!
علاقة العدالة والتنمية بالأقلية العلوية تكتنفها مشاكل عدّة دفعت العلويين إلى تنظيم تظاهرات للمطالبة بالاعتراف بحقوقهم وهويتهم. فللعلويين الذين يشكلون بين 15 و18% من الشعب التركي مطالب مزمنة على رأسها الاعتراف بـ"بيوت الجمع" كمراكز عبادة وإلغاء تدريس مواد دينية تقتصر على التعريف بالمذهب الحنفي في المدارس.
في آذار 2013، قرر رئيسا الجمهورية عبدالله غول والحكومة رجب طيب أردوغان إطلاق اسم "ياووز سلطان سليم" على الجسر الثالث المزمع إنشاؤه على مضيق البوسفور. السلطان المكرّم هو السلطان سليم الأول (1512 – 1520) الذي اشتهر بشهيته المفتوحة على الشرق، والذي شهدت فترة حكمه مذابح ضد العلويين في الأناضول راح ضحيتها حوالى 40 ألفاً.على صعيد العلاقة مع الأكراد قطع العدالة والتنمية شوطاً طويلاً في حلّ الأزمة بينهم وبين الدولة، وهذا ما لم يكن ممكناً لحزب الشعب أن يفعله، هو الذي يرفض مجرد الاعتراف بالقضية الكردية. ولكنه لا يزال يرفض منحهم حكماً ذاتياً. في الفترة الأخيرة افتتح مسار يهدف إلى إحلال السلام مقابل حلّ وسط يتمثل بالاعتراف بخصوصية الأكراد وبتوسيع صلاحيات البلديات الكردية. سيحدد نجاح هذا المسار أو فشله مستقبل العلاقة بين الأكراد والسلطة المركزية. في ثالث انتخابات نيابية خاضها عام 2011، حقق العدالة والتنمية انجازاً كبيراً بحصوله على أكثر من 50% من أصوات الناخبين الأتراك.
جزء كبير من هذه النسبة أيّد الحزب بسبب انفتاحه على حل مشاكل الأقليات وبسبب تصدّيه لتركيبة الدولة الأمنية وعمله على توسيع دائرة الحريات التي يتمتع بها الأتراك. هذه السياسة المنفتحة بدأت بالتراجع شيئاً فشيئاً في السنتين الماضيتين.
وضع الحريات في تركيا يتدهور، والغضب من سياسات العدالة والتنمية يتصاعد. في تظاهرات ميدان تقسيم اجتمع محتجون من خلفيات مختلفة. كثيرون منهم كانوا من مؤيدي الحزب. وخلال محاكمة "أرغينيكون" هتف بعض مؤيدي العلمانية من الحضور "نحن جنود مصطفى أتاتورك". سيبقى روّاد "الإسلام التركي" في الصدارة، ولكن يبدو أن مسيرة التيار الذي امتدحه الغرب واعتبره نموذجاً صالحاً للتعميم بدأت بالتراجع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون