تغنّى الكثير من الشعراء بنساء تونس وشخصيّاتهنّ الفذّة. قال عنهن شاعر البلاد محمد الصغير أولاد أحمد: "نساء بلادي نساء ونصف". وكتب الشاعر كمال بوعجيلة: "هن شموخ البلاد وعزتها". شنساء تونسيات كثيرات ذكرهن التاريخ في المواجهة مع الاستعمار الفرنسي، أو التصدّي للقوى الأصولية المتشدّدة. ونساء أخريات مناضلات على طريقتهن، يناضلن في حياتهن اليومية من أجل لقمة العيش. يعملن بصمت بعيداً عن عدسات المصورين، لإثبات وجودهن، وإعالة عائلاتهن. ومنهن نساء مدينة سجنان في محافظة بنزرت، في الشمال الغربي لتونس.
المرأة من الأرض وللأرض
تشتهر نساء سجنان بصناعة الطين، وخرجن بمصنوعاتهن من نطاق المحلية إلى العالمية، بعد مشاركتهن في عدّة معارض نُظّمت في عواصم أوروبية. ترتفع نسب الفقر والأميّة في مدينة سجنان، وتعيش غالبيّة العائلات من مداخيل الطين والفلاحة التي توفرها النساء في ظلّ ارتفاع نسب البطالة في صفوف الرجال. وبسبب هذه الظروف، اختار عدد من الرجال النزوح إلى العاصمة والعمل في مهن هامشية لا تفي بمتطلباتهم الشخصية، فما بالك بمتطلبات الأبناء ومصاريف دراستهم. يبدأ النهار في سجنان باستيقاظ النساء مبكراً والعمل في الفلاحة الهامشية. غالبية أراضي هذه المنطقة غير صالحة للزراعة، فتستغل النساء بعض الأراضي القليلة الخصبة لزرع الخضروات، وغرس بعض الأشجار وإطعام الحيوانات. كما يجمعن الحطب من الغابات، فسجنان تشتهر بغابات الفلين. تحضّر النساء الخبز التقليدي في "الطابونة" (فرن طيني)، ثم يتوجهن إلى بعض المناطق لاستخراج الطين من الأرض. يتماهين مع التراب ليلدن منه مصنوعاتهن اليدوية. التراب في سجنان ليس كتراب مناطق الرفاه الذي تترفع عنه النساء للاحتفاظ بكامل أناقتهن. هو التراب الذي يصنع وجود نساء سجنان. تواصل النساء العمل في تحضير الأكل وتنظيف البيت والاهتمام بالأطفال، ويمضين بقيّة اليوم في صناعة الأواني والتحف الفخارية، صناعة يدوية توفر لهن مدخولاً قادراً، رغم قلته، على توفير بعض الحاجيات الأساسية. ويشارك غالبية الأطفال في المدينة في صناعة الفخار ومساعدة أمهاتهن، خصوصاً في أوقات الفراغ. وتتعلم الفتاة أسرار صناعة الطين لتقيها مستقبلاً من البطالة، حتى وإن نالت شهادة جامعية، في ظلّ ارتفاع نسب البطالة في تونس. ويُقبل التونسيون على شراء فخار سجنان من المعارض التونسية، لميزة أساسية هي نقاء الطين، وعدم خلطه بمواد كيميائية، فلا يسبب استخدامها للطعام ضرراً. تقول الباحثة في علوم التراث فاطمة بلغيث معتوق لـ"رصيف22": "صناعة المرأة للفخار جاءت نتيجة الحاجة لإنتاج أوان للاستعمال اليومي، فكانت الأواني الفخارية في مرحلة أولى لتحقيق غرض وظيفي نفعي. وبمرور الوقت والسنين استأنست المرأة رائحة الطين اللزج، وأصبحت الأواني المنجزة أكثر نضجاً في الشكل والحجم والزخرفة. وكلما تقدم عمرهن وتقدم الزمن، تطورت الفخاريات".من سجنان إلى العالمية
صبيحة العيّاري، امرأة في أواخر الأربعينات من عمرها، لم يحالفها الحظ في الدراسة أو الزواج، فاختارت أن تعيل عائلتها المؤلفة من أمّها وأخوتها وعائلة أخيها المتزوّج. وتعتبر صبيحة من أشهر الحرفيات في المنطقة، إذ تناقلت بعض وسائل الإعلام العالمية أعمالها الحرفية في بعض المعارض العالمية في فرنسا وألمانيا. تعلّمت صبيحة القراءة والكتابة بمساعدة ابن أخيها الذي حدثها كثيراً عن تاريخ البربر بسجنان، ما جعلها متمكنة أكثر من غيرها من الحرفيات في التعريف بمصنوعاتها، وإرفاقها بمعلومات تاريخية دقيقة. كما افتتحت مشغلاً صغيراً لصناعة الطين، شكّل مورد رزق لبعض النسوة، اللواتي يعملن معها. وشاركت صبيحة بدور ثانوي في فيلم تونسي للمخرج النوري بوزيد. غالبية نساء سجنان لا يعلمن سرّ شهرة مصنوعاتهن وقيمتها الفنيّة. فالفقر المدقع جعلهنّ مهتمات بالأساس بتوفير لقمة العيش. الكلّ يجتهد في صناعة الطين وزخرفته بأشكال بسيطة، لكنها تحمل في الوقت نفسه قيمة فنية عالية. خالتي جمعة، في العقد السابع من عمرها، وتعتبر أقدم حرفية في سجنان. وهي إلى جانب صبيحة، من أشهر الحرفيات هناك. يقع بيتها جانب "الحوانيت"، وهي مغارات حجرية تعود إلى العهد الروماني تستعملها الخالة لحفظ بعض علف الحيوانات. تقول الخالة جمعة إن عملها هو مورد دخلها الوحيد، وأفنت حياتها في صناعة الطين، كما شاركت في بعض المعارض العالمية. وعلمت زوجتيْ ابنيها الصنعة، لتدبير مصاريف العائلة. وتوضح الباحثة بلغيث معتوق: "وقوف نساء سجنان على أرصفة الطرق لبيع منتج الفخار فيه مشهديّة لا تخلو من الإثارة التي تتمثل في جسد المرأة المخلوق من طين. والجسد أو الشكل الطيني الذي تصنعه الحرفيات موشوماً، يولد بين السرّ والجهر، بين المادي والروحي. ولعل تلك الأرض المرتبطة بجذورها البربرية الفينيقية، كما آمن الأمازيغ، بطن العالم ومنها الولادة والحياة. وبهذا الفعل فإنّ هذه الأرض شبيهة بالمرأة".القوامة للنساء
القوامة في سجنان ليست شأناً ذكورياً بل شأن أنثوي بحت، إذ تنقلب الصور النمطية والأدوار التقليدية، وتصبح المرأة معيلة والرجل معالاً. وربما يرجع هذا إلى الجذور الأمازيغية للمنطقة، خصوصاً أن المرأة الأمازيغية حظيت بمكانة خاصة في الثقافة. ونذكر في هذا السياق الكاهنة الملكة البربرية الشهيرة. ذلك التاريخ مكن المرأة في سجنان من مقاومة التيار السلفي الذي حرم التصوير على الأواني الفخارية، ونهى كثيرات عن ذلك. دعوة لم تجد آذاناً صاغية لتواصل النساء عملهن في صناعة الطين. يفسّر الكثيرون اسم سجنان بمعانٍ عربية. فهو يتكوّن من كلمتين: "سج" و"نان". السج هو حجر بركاني من العصور الجيولوجية الأولى، ونحت عليه في العهد الروماني. وما زالت مغارات حجرية كثيرة شاهدة على هذا العصر، وتعرف باسم الحوانيت، يقول البعض إنها مقابر رومانية. والنان هو خبز مكون من ماء ودقيق فقط، ينضج على نار هادئة فوق إناء طيني. يرى البعض الآخر أن اسم سجنان أمازيغي، نظراً لجذور المدينة البربرية، وما زالت إلى اليوم تحتفظ بمظاهر ثقافة أمازيغية، تميّزها عن بقية الجهات في تونس. تتميّز المنطقة بخصوصيات تاريخية وأخرى طبيعية. فهي تشتهر بمواقعها الأثرية، وأعشاش طيور اللقلق، خصوصاً في محطة القطار المهجورة، وبوجودها في طبيعة جبلية وبحرية. لكن كل ذلك لم يشفع لها في أن تكون قبلة للسياحة أو الاستثمار الداخلي. ورغم جمال المشهد الطبيعي الذي تتمتع به، ما زالت تعاني من تهميش السلطة. فيها سدّ يضخ أكثر من 80 مليون متر مكعب إلى محافظات الجمهورية، بينما يشكو أهالي بعض قرى سجنان، من شحّ المياه الصالحة للشرب. وما زالت الكثير من العائلات تعتمد الحمير والبغال لجلب الماء من بعض العيون. وتناقلت بعض وسائل الإعلام العام 2012 خبر تأسيس إمارة إسلاميّة في سجنان، نفته وزارة الداخلية آنذاك، وثبت عدم صحته. لكن يوجد فيها تيار سلفي متشدّد، وسبق أن ألقت الداخلية التونسية القبض على بعض عناصره العام 2015.عروسة سجنان
كان طين سجنان قبلة أنظار العالم، وانعقد فيها مشروع فني كبير، بمشاركة جمعيات تونسية وأوروبية، سمي "العروسة" في فبراير 2011. والعروسة هي مجسم لامرأة أمازيغية، وتعتبر من المنتوجات الطينية الشهيرة في المنطقة. شاركت في المشروع 10 فنانات تشكيليات من مختلف أنحاء العالم، و60 حرفية من سجنان. كان الهدف من المشروع التعريف بالخصائص الفنيّة الفريدة للمنتوجات الطينية. تباع المنتوجات الطينية في منطقة سجنان، خصوصاً العروسة، خارج تونس بأسعار عالية جداً. فيبلغ ثمن العروسة الواحدة في أسواق أوروبا ما يعادل 250 ديناراً (110 دولار). بينما تباع في تونس بـ20 ديناراً (9 دولار) أو أقلّ أحياناً. ويتعامل الكثير من الفنانين التونسيين مع حرفيات سجنان لتصدير منتوجاتهن، وتقول معظم الحرفيات إن الفنانين هم المنتفعون أكثر منهن، إذ يرمون لهن الفتات. وقد أعلنت وزارة الثقافة والمحافظة على التراث مؤخراً، الجرد الوطني للتراث غير المادي، ودرست إمكانية إدراج عرائس الطين في سجنان ضمن التراث اللامادي. ربما ستكون خطوة جدية، إن رأت النور، لتنال الحرفيات حظهن وحقوقهن كاملة، بعيداً عن سمسرة البعض بهنّ.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...