شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
في مصر، أنتِ مغتربة... يعني أنكِ مستباحة

في مصر، أنتِ مغتربة... يعني أنكِ مستباحة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 23 يوليو 201609:00 ص
ذات صباحٍ باكر، خرجت "س. أ." من قريتها الواقعة في محافظة الدقهلية (دلتا مصر)، متجهة إلى القاهرة لدراسة الإعلام، تاركةً وراءها الكثير من الجدل حول فتاة صغيرة تحمل حقيبتها لترحل عن أسرتها، وتقيم وسط مجتمع آخر يوصف بأنّه "منفتح"، وحتّى "منحرف". لذا لم يكن خروجها من قريتها خروجاً عادياً، بل كان مصحوباً بالكثير من الضغوط النفسية والمجتمعية التي بدأت تحاصر الصحافية الشابة وهي لم تخطُ بعد عتبة العام الثامن عشر من عمرها.

الأسرة تقهرها، والمجتمع يحاصرها

مبكراً، بدأت "س. أ." معركتها القاسية مع أسرتها التي ما زالت رافضة لوجودها في القاهرة بمفردها، خصوصاً أنّها لم تتزوج بعد. في الثامنة عشرة من عمرها، بعدما أنهت دراستها الثانوية، اختارت الفتاة الصغيرة الرحيل إلى القاهرة لدراسة الإعلام. تطلب ذلك إقامتها الدائمة في العاصمة، نظراً لبعد المسافة بين قريتها والقاهرة. كان ذلك قبل عشر سنوات. واجهت الأسرة طموح ابنتها بالرفض القاطع، إلا أن الشابة لم تستسلم، بل تمسكت بطموحها، وخاضت معركة ضارية مع أهلها الذين اضطروا إلى الموافقة، خوفاً من تهور الفتاة، أو هربها، بحسب تعبيرها. منذ 10 سنوات و"س. أ." محاصرة من جانب أهلها الذين لا يملّون من التلصص على حياتها الشخصية، عند عودتها في الإجازات، وقهرها نفسياً من خلال معاملتها كإنسانة منحرفة، جلبت لهم العار لأنّها تمسكت بحلمها. وهنالك جانب آخر من الحصار تعتبره الشابة أكثر قسوة من حصار أهلها الناتج عن الموروثات الثقافية المغروسة في عمق المجتمع والتي تعادي المرأة بشكل كبير. هذا الجانب الآخر يتسبّب به المجتمع القاهري.

حرية مزيّفة

تروي "س. أ." لـ"رصيف22" أن المجتمع القاهري، برغم تحرّره الظاهري، يُكرس القمع، ويُشهر سيوفه ضدّ المختلف والغريب. "برغم مساحة الحرية التي حصلتُ عليها، بعد رحيلي عن القرية، لا يمكنني القول إنّها حرية حقيقية، لأنّها في واقع الأمر حريّة مزيّفة. هنا في هذا المجتمع الواسع، أنتِ غير مقبولة، ما دمت أنثى تعيشين بمفردك. أنتِ مخترقة دائماً، محاطة بالقصص والحكايات عن الجزء الأسفل، حتى لو كنتِ موهوبة وتحقّقين نجاحات في عملك. هذا النجاح لا يغفر لكِ. أنتِ مغتربة (المغتربة هي الفتاة التي تقيم في القاهرة وحدها آتية من منطقة أخرى)، يعني أنكِ منحلّة أخلاقياً، من السهولة اختراقك، واستغلالك. نحتاج إلى سنوات طويلة للقضاء على هذا الميراث الذي يضع المرأة ضمن فئة الأقليات"، شرحت.

الخضوع للابتزاز مقابل العمل

في العام الجامعي الأوّل، عاشت "س. أ." في المدينة الجامعية الحكوميّة الخاصة بالطالبات المغتربات. كانت حياتها آمنة إلى حدّ كبير، بحماية رجال الأمن والأسوار التي تعلوها شرائح الزجاج، غير أنّها كانت محاطة بالكثير من القيود التي لا سبيل إلى تجاوزها، كما أنّ السكان الذين يعيشون بالقرب من المدينة، لم يتركوا المغتربات من دون التلصّص على حياتهن. في العام الثاني، تركت الفتاة العشرينية، المدينة الجامعية، وبدأت رحلتها في بيوت المغتربات، تلك الرحلة التي شكلت الجزء الأصعب من تجربتها الحياتية في القاهرة. تقول "س. أ." لـ"رصيف22": "تنقّلت بين بيوت المغتربات القريبة من منطقة الجامعة والتي تعرف بـ"بين السرايات". لهذه البيوت سمات موحدة، حيث الأثاث الرخيص، المتهالك، والسيدات من صاحبات الخبرة اللواتي يدرنها، لكن الحكايات تختلف. لكلّ فتاة حكاية، محورها الرئيسي الأهل الذين يمارسون قهراً نفسياً عليها، والمجتمع الذي يرفضها، ومن ناحية أخرى يسعى إلى اختراق حياتها بهدف الاستمتاع". وأضافت: "على الجانب الآخر، السكان القاهريون لا يتركون الفتاة المغتربة تعيش حياتها كإنسانة طبيعيّة، هذا لا يحدث في مجتمعنا، فهنالك دائماً القصص التي تؤلّف عن سلوكياتها، وعلاقاتها مع الرجال، وربما يتجاوز الأمر ذلك بكثير، حين يؤكدون أنّها هربت من قريتها إلى القاهرة بسبب فقدانها عذريتها. لا أحد هنا يلتفت إلى طموح الفتاة المغتربة، وما حقّقته من نجاح، فقط ما يشغلهم هو الجزء الأسفل". مبكراً أيضاً، دخلت "س. أ." مجال العمل الصحافي، وهنا بدأت مرحلة أخرى من حياتها، وصفتها بالأصعب والأكثر قلقاً واضطراباً. تقول لـ"رصيف22": "في العام الجامعي الثاني، بدأت العمل في إحدى الصحف الحزبية، وفي تلك الفترة عرفت معنى أن تكوني فتاة مغتربة في مجتمع القاهرة، حتى لو كان الوسط الذي تعملين فيه يوصف بأنّه مثقّف. في العمل، أنتِ مغتربة يعني أنك ستتعرضين للابتزاز بكافة صوره. وفي الحقيقة، يتوقف الأمر عليكِ، هل ستخضعين للابتزاز مقابل العمل، أم لا؟ وفي كل الأحوال، ستتعرضين للابتزاز، لأنكِ وحيدة هنا، وتحتاجين للعمل حتى لا تكوني فاشلة أمام الأهل. حتى لو رفضتِ الخضوع، فمن المؤكد، أن هذا الشكل من الابتزاز، لا يتركك من دون أن يؤثر على حالتك النفسية". لفترة طويلة، عانت "س. أ" من الاضطرابات النفسيّة، بسبب الحصار من جانب الأهل والمجتمع القاهري، لكنها الآن اكتسبت خبرة كبيرة مكّنتها من تجاوز محنتها. إذ أوضحت: "في البداية، كنت أفكر: هل أخطأت عندما أخذت قرار الرحيل؟ هل كنت قاسية تجاه أهلي؟ هل ارتكبت جريمة في حقّ أحد؟ هل ما فعلته يستحقّ الندم؟ أسئلة لا تنتهي، وفي الوقت نفسه لا داعي لها. لكن السؤال الحقيقي: هل سيأتي اليوم الذي ستعيش فيه الأنثى في أي مكان، كإنسان طبيعي؟ أم أنّها ستظلّ محاصرة إلى الأبد؟ أعيش الآن، في بيت مغتربات، قريب من منطقة وسط المدينة، وفي الحقيقة لم تعد تؤلمني نظرة المجتمع، ولم أعد ألتفت إلى ما يُقال عن الفتاة المغتربة. ما يشغلني هو العمل فقط".

لن أتنازل عن حريتي

غالباً ما تنحج "م. ع." في صمّ أذنيها عن كل ما يُقال عنها كفتاة مغتربة. تحبّ أن تعيش حرّة. فالمحامية الشابة التي تعيش بمفردها في منطقة عابدين في وسط القاهرة، لا تلتفت إلى تلميحات البواب والجيران الذين يودّون اختراق الجدران الأربعة التي تحيط بها. بعدما أنهت "م. ع." دراسة الحقوق في جامعة طنطا، ضاقت القرية عليها حتى كادت أن تخنقها، خاصة أنّها تعيش وسط أسرة محافظة متشدّدة دينياً. بصعوبة بالغة وبعد الكثير من المغامرات، استطاعت الفتاة العشرينية، أن تفلت من وسط الأهل المحافظين إلى الحياة والعمل في القاهرة، غير أنّها مضطرة للعودة في الإجازات، حرصاً على الشكل العام لأسرتها وسط المجتمع القروي. تصف "م. ع." الحريّة التي حصلت عليها في القاهرة، بأنّها لا تقدر بثمن. لذلك من الصعوبة بل من المستحيل التنازل عنها، والعودة مرة أخرى إلى الحياة وسط أسرتها المتزمتة. وتقول "م. ع." لـ"رصيف22": "في قريتي، كنت طوال الوقت مضطرة للادعاء، لم أكن مطلقاً على حقيقتي، أعتقد أنني كنت مزيّفة، وهذا لأنني لم أستطع أن أكون حرة في سلوكياتي واختياراتي. خضت معركة كبيرة من أجل الاستقلال عن أهلي، وعندما انتقلت للحياة في القاهرة بدأت في اكتشاف ذاتي ومعرفة نفسي جيداً، ومن ثم ممارسة حياتي بشكل طبيعي". وتابعت: "في الحقيقة هذا مكلف جداً. لا حرية من دون دفع الثمن. لكنني بشكل كبير كسبت نفسي. لا ألتفت مطلقاً إلى ما يُقال عني، لأن الأنثى بشكل عام تتعرّض للإهانة في مجتمعنا، وليست المغتربة فقط. عندما تواجهني العقبات، أعقد مقارنة سريعة بين حياتي وسط أهلي، وعيشتي الحالية. الفارق كبير جداً. أهلي محاصرون بالعادات والتقاليد التي تقهر المرأة، وذلك القهر يمارس ضدّ إنسانيتي. أشياء كثيرة كانت في قائمة الممنوعات، فقط لأنني بنت. الآن يكفي أنني أستطيع الخروج في أي وقت. يمكنني الجلوس في المقاهي. يمكنني التدخين، التجوّل في الشوارع، وغيرها من الأشياء التي يعتبرها أهلي ممنوعة، لأنّها حرام وتجلب العار".

يوم الخروج

اعتادت الفتاة المرحة "ر. و." أن تسمّيه "يوم الخروج". بكثير من الحزن المغلّف بالمرح، تحكي عن تجربة اغترابها عن قريتها، بمحافظة الشرقية، وعن اليوم الذي خرجت فيه بحقيبتها إلى موقف السيارات للانتقال لدراسة العلوم السياسية في القاهرة. تقول لـ"رصيف22": "قبل أن أخرج من قريتي، بدأت أشعر بالغربة، وبالأدقّ شعرت أنّني إنسانة غريبة قامت بعملٍ غير لائق. السيدات أمام البيوت بدأن في نسج الحكايات. كن يتهامسن: ربنا يسترها على الولايا، ازاي أمها تسيبها تعيش في مصر (القاهرة) لوحدها. وبرغم وجودي في القاهرة منذ أكثر من تسع سنوات، إلا أن أولئك النسوة ما زلن يتحدثن عن حياتي في القاهرة، وماذا أفعل هناك، ومع مَن أعيش، ولماذا لم أتزوج حتى الآن. وعندما أعود إلى قريتي كل أسبوعين، تحكي لي والدتي بأسى بالغ ما يردّده أهل القرية عني، وبالطبع هذا يدفعها إلى ممارسة الضغوط علي، والتي تتمثل في تهديدي بعدم الخروج من البيت. ولذا أصبحت لا أحب العودة إلى قريتي لأنني مهدّدة بشكل كبير". وتروي "ر. و." أن المعركة الحقيقية التي خاضتها مع أهلها، وتحديداً والدها، بدأت فور تخرّجها من الجامعة، إذ قال لها: "يكفي ما قاله الناس عنك. لا مبرر للعودة إلى القاهرة ما دمت لا تعملين في المؤسسة الحكومية. أشعر بالعار كلما سألني أحد عنك". كان التحدي كبيراً أمام الفتاة العشرينية، إذ خاضت رحلة شاقة من أجل البحث عن وظيفة حكومية، وبعد عناء شديد، عملت بالتعاقد مع إحدى المؤسسات، فاضطر والدها إلى الموافقة على أن تعيش في العاصمة. وهنا بدأت، تعرف معنى أنها فتاة مغتربة. تروي لـ"رصيف22": "عندما يعرف أحدهم أنني أعيش بمفردي، يبدأ في اقتحام خصوصياتي. لا يتردّد في طلب علاقة جنسية، وعندما أرفض، يحاول ابتزازي بأيّ شكل. يكون الموضوع صعباً إن كان هذا الشخص يرأسني في العمل، ففي هذه الحالة سأكون مهدّدة. قليلون هم مَن يقدّرون ويعرفون قيمة الفتاة الطموحة التي تسعى إلى الحرية، الكثيرون يحدّدون كلمة "الحرية" في محيط الجزء الأسفل فقط. طوال الوقت، أنا قلقة ومضطربة. أهلي محاصرون من أهل القرية الذين يرون أنهم فرّطوا في شرف ابنتهم، وهنا أتصدى للابتزاز، علاوة على مشاكل السكن، والضائقات المالية التي أتعرّض لها من حين إلى آخر".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image