طرأت مجموعةٌ من التغيّرات الجذرية على شريحة من الشباب السوريين في بيروت، نظراً للظروف العديدة التي مرّوا بها، من الحرب في سوريا إلى التشرّد في لبنان. تظهر تلك التغيّرات واضحة في شكل حياتهم وطبيعة علاقاتهم الاجتماعية.
كانت سوريا، ولفترة طويلة من الزمن، تعيش في حالة من الركود السياسي والاقتصادي، وتالياً الاجتماعي. أتى مارس 2011 ليغيّر كلّ شيء. وصلت الحرب السورية في موجتها الغاضبة حدّ المساس المباشر بأعمق المفاهيم وأكثرها تغلغلاً في تركيبة الشباب السوريين. حصلت تغييرات جذرية تخال معها أن زلزالاً مرّ وهدم معه البناء الداخلي للشاب السوري وتركه خراباً خالياً قابلاً لأي شيء.
تكثر تجمّعات هؤلاء الشباب في بيروت في منطقتي الحمرا والأشرفية. الحمرا، لكونها منطقة حيويّة متنوّعة الطوائف، تعجّ بالحياة والعمل والسهر، والأشرفية لكونها منطقة تحمل معظم أحيائها طابعاً أهليّاً، وحيث تشكّل الأحياء القديمة تجمّعات سكنية مريحة، ومرحبّة - في معظم الأوقات - بالوافدين السوريين.
يأخذ شكل حياة هؤلاء الشباب طابعاً شبه موحّد، لأنهم أصلاً يأتون من مجتمعات متشابهة نشأت في سوريا ما بعد الثورة، كمجموعات العمل المدني، خصوصاً الإغاثي، أو حتّى العمل السياسي. شهد هؤلاء الكثير من المآسي، فقد طال الموت أو التعذيب أو التشرّد عائلاتهم وأصدقاءهم. تبرز التشوّهات النفسية الناتجة من كل ما عايشوه على شكل تعاضد قوي بعضهم مع بعض، أو العكس تماماً، عبر سلوكيات شرسة غير مسبوقة يتبادلونها. ولكن الأهم هو دخول سلوكيات اجتماعية جديدة إلى حياتهم، غريبة عن مجتمعاتهم، كالمساكنة التي تحوّلت من حالات معدودة وفرديّة في دمشق إلى ظاهرة كاملة في بيروت، أو السكن المختلط، حيث يسكن في بيت واحد شباب وشابات غير متزوجين، ولا تربط بينهم بالضرورة أي علاقة عاطفية.
تعمل سلمى (25 عاماً) في إحدى المنظمّات التي تهتم برعاية اللاجئين في مخيّم شاتيلا الفلسطيني. كانت سلمى تعيش مع حبيبها في دمشق وحين أتيا إلى بيروت، عاشا معاً قبل أن يسافر حبيبها أخيراً إلى ألمانيا. تقول سلمى إنّ "الأمر مختلف بين دمشق وبيروت إذ تحول إلى حالة كاملة في لبنان". سلمى التي نشأت في حمص في بيئةٍ تقليدية تميل إلى المحافظة، لم تكن تقبل المساكنة ولم تكن تنظر إليها كظاهرة اجتماعية طبيعية. ولكنّ ظروفاً كثيرة مرّت عليها وغيّرتها وسمحت لها بالخروج على بيئتها وبالإنقلاب على مفاهيمها وعاداتها.
أمّا أحمد (30 عاماً) الذي يعمل في مجال التصميم، فيعيش اليوم مع شلة من الشباب والبنات. يعتبر أنّ الانتقال للعيش في سكن مختلط كان خطوة بسيطة، وأنّ ما ساعد في ذلك هو ببساطة "سوء الوضع المعيشي هنا، وحاجتنا الدائمة إلى شركاء سكن، مهما كان جنسهم، وعدم قدرتنا على دفع بدل إيجار البيوت الكبيرة، بالإضافة إلى لجوء أصدقائنا فور خروجهم من سوريا إلينا، واضطرارنا إلى استقبال الضيوف، الأمر الذي يطلق حركة كبيرة في البيوت السورية". نشأ أحمد في عائلة علمانية يسارية في دمشق، فترك له ذلك مساحةً حرّةً للتفكير وأعطاه الجرأة على قول ما يريده بسهولة. ومع أنّ عائلته لم تكن لتقبل سابقاً أن يعيش مع حبيبته، فقد بدأت بتقبّل الأمر، بعد أن قدمت إلى بيروت ورأت أنّ جميع أصدقائه يعيشون بهذا الشكل، وأنّ الحياة هنا تحتاج إلى المشاركة.
يُذكر أنّ ليس في القانون اللبناني نصّ واضح يمنع المساكنة. ولكن المجتمع اللبناني، حتّى في أكثر أحياء بيروت انفتاحاً، يتوجّس من هذه الظاهرة، ويذهب أحياناً إلى حدّ محاربتها. يختلف الأمر مع الشباب السوريين. ترحّب امرأة تملك دكاناً للسمانة في حيّ الجعيتاوي في الأشرفية، بشاب سوري عندما يخبرها أنّه يسكن مع صديقته وتقول له "الله يعينكن". وتفتح معه حديثاً ودوداً بدون التوقف عند فكرة المساكنة، في حين يتجهّم وجهها عندما يخبرها شاب لبناني من الجيران أنّه يفكّر في فعل الأمر نفسه.
في البيوت المختلطة يجتمع الأصدقاء السوريون ويستقبلون ضيوفاً هم شباب مثلهم. يمضون معاً أوقاتاً تُذكّر بحال البيت الكبير الذي يجمع الأصدقاء في مسلسل "فريندز"، والذي كان، للمصادفة، يُعرض على القناة السورية الثانية في نهاية التسعينات، وقد تعلّق به شباب سوريون كثيرون، وأعجبوا بطريقة العيش التي يعرضها. والآن ها هم ينفذّون ما كان في السابق حلماً.
لقد وصلت التغييرات في المفاهيم عند هذه الفئة من الشباب حدّ إتاحة الجنس وتبسيطه، والوصول به إلى تعدد العلاقات، الأمر الذي لم يكن ظاهراً في سوريا. قد يقيم شاب وفتاة علاقة مفتوحة، يمارسان الجنس من غير أن يكون بينهما أي التزام، إذ يستطيع أحدهما أن يقيم علاقة مع شخص آخر بلا حرج، ثمّ يعود إلى شريكه. تقبّل الموضوع والحديث عنه أصبحا منتشرين جدّاً في البيوت السورية نفسها.
أنهى ماهر (23 عاماً) أربعة أعوام من الدراسة الجامعية في كلية هندسة الاتصالات في جامعة تشرين في سوريا، ثمّ قرر البدء من جديد في لبنان، بعد أن تعرّض للكثير من التهديدات بسبب موقفه السياسي. بدأ بدراسة إدارة الأعمال في إحدى الجامعات الخاصة. وهو يعيش مع صديقته رنا في الحمرا. رنا في مثل عمره، تدرس الاقتصاد في الجامعة اللبنانية بعد أن غادرت جامعتها في دمشق.
ماهر ورنا ليسا على علاقة غرامية، لكنّهما يمارسان الحبّ بين فترة وأخرى، ويرفضان أي شكل من أشكال الالتزام في ما بينهما. هناك قانونٌ واضحٌ لعلاقتهما: "تستطيع أن تمارس الجنس أينما تشاء ومع من تشاء، وفي الوقت الذي يحلو لك، فنحن نتشارك في السكن، وفي الفراش لدى الحاجة، ولا نتشارك في الحياة نفسها". يظنّ كلاهما أنّ الأمور مريحةٌ بهذا الشكل، وأن الأمر غير مرتبط بإقامتهما في بيروت، إذ كانا ليفعلا الأمر نفسه لو كانا لا يزالان في سوريا، إلا أنّ طبيعة المجتمع البيروتي أٌقل تدخلّاً في شؤون الآخرين وأكثر إتاحةً لهذا النوع من العلاقات. علماً أنّ ماهر نشأ في مدينة اللاذقية الساحلية، التي تعتبر أكثر انفتاحاً من غيرها من المدن السورية، أما رنا، فهي ابنة درعا المحافظة والمتديّنة.
يقول شاب سوري: "يبدو أنّ شعور الشباب السوريين بالملاحقة الدائمة، وشعورهم الدائم باقتراب الموت، أو اقتراب الفراق، يدفعهم إلى تغيير كلّ شيء، فلا وقت للانتظار بعد اليوم". ويضيف "بدنا نلحّق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...