يشيع على نطاق واسع أن دراسة العصور الوسطى تقع في مجال ترف البحث الأكاديمي، الذي لا يقدم ولا يؤخر في مصائر الشعوب اليوم.
في خضم ما يدور في العالم من تشدد وردة عنيفة إلى التطرف والانتشار المخيف للتمييز والتعصب، جواب هذه الفرضية قطعاً هو "لا": العصور الوسطى تساعدنا في فهم وتفسير مشاكل البشرية اليوم، ونحن حقيقة نحتاجها لنعرف ما الذي يحكم التعامل مع اللاجئين في أوروبا. فما هي قصة غزو روما؟ ولماذا على العرب المهتمين بشؤون أوروبا المعاصرة دراستها؟
قصة روما "المدينة الخالدة"
في سرد تاريخ مدينة روما، أهم مراكز الحضارة ورموزها، يبرز منحيان اثنان: الأول، يصور أوروبا كقارة هرمة، عالم قديم، تعب، دخلته الغزوات البربرية، وحقنته بدم جديد وبشباب القادمين الجدد. في هذه القصة، تجتمع الحسرة على الخراب والدمار الذي جاءت به هذه القبائل البربرية الغازية، مع احتفال واستقبال للحياة الغضة اليانعة التي أنعشت القارة الأوروبية. أما الثاني، فهو أشبه بنعي لحضارة أوروبا التي دمرتها البربرية، ورثاء لعمارتها الأسطورية ولممارساتها الديمقراطية، ومدنيتها المتميزة، التي تلوثت وتشتت، وضاعت بدخول الغزاة البربر. هذه النسخة للتاريخ تركز على فرنسا وإيطاليا، وعلى الفجور والفجاجة التي دمرت بها مدنهما، وتنعي ما أصبح يعرف بـ"نهب روما" عام 410، وسقوطها عام 476، وهذه التواريخ رمزية، أي أن هناك تواريخ أخرى للأزمات التي انتهت بما يعرف بـ"سقوط روما."
لوحة "نهب روما عام 410"
لوحة "نهب روما عام 410"، للفنان الفرنسي جوزيف نويل سلفستر (1847 ـ 1926)، تجسد هذه النظرية: تمثال الإمبراطور الروماني، واقف على منصة مرتفعة تضفي عليه هيبة ووقاراً، يلبس رداءً طويلاً يسبغ عليه رزانة وهدوءاً، ويحمل درعاًً عليها رأس أسد نافر، تمتد يده محيية شعبه، ومذكرة باستقرار نظام حكم سياسي متقدم.
وفي تفاصيل تمثال الإمبراطور مقابلة كاملة للبرابرة الغزاة في اللوحة: فبدلاً من الإمبراطور الحجري منفرداً، هناك قرابة 7 أشخاص في وضعيات مختلفة تدل على الفوضى التي تحكم علاقات بعضهم مع بعض، على عكس نظام الحكم الذي يجسد الإمبراطور نجاحه واستقراره. ومقابل هيئته الرزينة، هم عراة، يضجون، ويصرخون. وجه البربري الذي يلف حبلاً حول عنق التمثال يوحي بأنه يصرخ، وهم يحاولون هدم و"شنق" تمثال يمثل عراقة الحضارات الكلاسيكية، الرومانية واليونانية معاً.
سمرة رجال اللوحة لا تدل على عرقهم، فهم من القبائل الجرمانية من الشمال الأوروبي، وإنما هي رمز لبربريتهم، وإشارة إلى أنهم رحّل، وليسوا حضراً من سكان المدن، وربما يتأثر تصويرها في اللوحة بأفكار القرن التاسع عشر عما هو "بربري". في خلفية اللوحة، جزع وخوف، وأيد لسكان المدينة المذعورين ترتمي في الهواء، وغبار يلف أعمدة وأبنية روما، و"ألارك" ملك البربر على حصانه وسط الفوضى، في وضعية شامتة، يراقب رجاله يتهجمون على التمثال، ويبارك كل ذلك العبث، وكأنه رمز لنصر بربريته على الحضارة.
ومع أن اللوحة عنوانها "نهب روما"، فإنها في الحقيقة احتفال بـ"روما"، فاللوحة لا تصور النهب، وتبقي على التمثال كما هو، وكذلك على العمارة في خلفية اللوحة، وكأنها ترفض أن تعترف بالدمار، وبدلاً من ذلك تختار أن تنتقد بربرية الغزاة، الذين برغم قوتهم وهمجيتهم، لم يتغلبوا على روما التي يمثل الإمبراطور رمز قوتها واستقرارها. ربما العنوان الأنسب هو "صمود روما في وجه الغزاة الهمجيين".
هل هناك علاقة بين "نهب" روما و"سقوطها" في القرن 5م، وبين أزمة اللاجئين في أوروبا في القرن 21؟
في رفض بعض الأوروبيين اليوم للاجئين، الذين وصلوا إلى أرضهم، نظرة تحملها وتبررها أسطورة "سقوط روما"
نجح هذا السرد في كسب شعبية واسعة في تخيلات الشعوب كافة لهذا التاريخ، واستدعى تهويل "سقوط" روما على أيدي الغزوات البربرية، وتوصيف الحضارة الرومانية على أنها وحدة متماسكة وصلبة. وتمثيل غزوها على أنه نهاية وقطيعة مع ما جاء بعده، الذي أصبح يعرف بـ"العصور المظلمة". ففي عصر النهضة، حين نظر الكتاب إلى الحضارتين اليونانية والرومانية كأصل أرادوا إحياءه وإعادة مجده، استخدموا كلمة "برابرة" ومشتقاتها، كاصطلاح غدا مرادفاً للهمجية التي أضفتها نظرتهم للتاريخ على العصور الوسطى التي فصلت بين النهضة والحضارة الكلاسيكية. واستمر استخدامها للتدليل على كل ما هو معاكس لما تمثله الحضارة، خصوصاً الرومانية واليونانية. وعاشت هذه الفكرة بمقولة القديس جيروم الذي توفي عام 420، وعاصر هذه الأحداث، وكتب عنها: "إنها نهاية العالم!".
عندما تتكئ السياسة على التاريخ المتخيل
تاريخ روما محط خلاف واسع بين خبراء التاريخ وسياسيي أوروبا اليوم. تتلخص دراسات العصر الوسيط بما يخص الغزوات البربرية بأربع مدارس. فهناك من يصفها على أنها نوع من الهجرات وحركات الجماعات البشرية التي لم تأخذ طريقاً واحداً (بل كانت من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب شمالاً، وغرباً). أو من يعتبرها حروباً أهلية استعانت الأطراف المتصارعة فيها بالقبائل الجرمانية، التي لم تكن لها انتماءات سياسية واضحة، والتي كانت بطبيعة الحال تبحث عن موارد مادية. وأخيراً من قدّر أنها غارات محدودة تكررت، إلا أنها لم تأخذ شكل غزو شامل. إذاً، في رأي الخبراء الذين يدرسون كامل الأدلة من التاريخ الوسيط (من الوثائق إلى الآثار والفنون، واليوم أيضاً يستعينون بالدراسات الجينومية وتحليل الحمض النووي)، ليس هناك ما يثبت نظرية الغزو الذي أباد وقلب المدن من مراكز حضارية إلى أرض يباب ودمار.خبراء التاريخ يؤكدون على ضرورة الابتعاد عن فكرة "القطيعة" التاريخية، التي نضمنها في استخدامنا لعبارات "سقوط" الممالك والمدن، والتي ترتكز في فهمها للتاريخ بشكل حصري على الحكم السياسي، الذي تفترضه وحدة متماسكة، تقنّع خلفها الاختلاف والتعددية
والأهم أن خبراء التاريخ يؤكدون على ضرورة الابتعاد عن فكرة "القطيعة" التاريخية، التي نضمنها في استخدامنا لعبارات "سقوط" الممالك والمدن، والتي ترتكز في فهمها للتاريخ بشكل حصري على الحكم السياسي، الذي تفترضه وحدة متماسكة، تقنّع خلفها الاختلاف والتعددية. ويدعوننا لاستبدالها بنظرة أشمل تكتنفها الاعتبارات الثقافية والبشرية، ومن خلالها تتكشف الاستمرارية التي تميز التغيير الحضاري للشعوب. والمدارس التاريخية الأربع تجتمع على التشكيك بالنظرة التبسيطية لقصة الغزو: "قبائل همجية جاءت إلى مركز الحضارة بهدف التدمير والنهب، وقضت على حضارة كانت ديمقراطية، متكاملة، مزدهرة ومستقرة".
هذه القصة استمرت بقوة في تأطير مراحل مختلفة حتى يومنا هذا، ربما لتبسيطها لتواريخ معقدة، وربما لأننا أميل لتقبل ثنائيات الأضداد (الخير والشر، الحضارة والهمجية)، التي تضفي على المقارنة منطقية وهمية مقنعة. ومن المثير أن الأطراف المتحاربة اليوم تستخدم السرد نفسه لوصف بعضها بعضاً، كما يستخدمها سياسيو العالم بحرية اليوم، من بينهم دون شك العالم العربي. لكن سنكتفي بإلقاء الضوء على الخطاب السياسي في أوروبا اليوم، الذي يتكئ بشكل مباشر على رمزية قصة "سقوط روما" في مخاطبة مشاكله.
في رفض بعض الأوروبيين اليوم للاجئين، الذين وصلوا إلى أرضهم، نظرة تحملها وتبررها أسطورة "سقوط روما" كنموذج أول. قد يكون الحذر والاعتبارات الاقتصادية والأمنية للبلاد مبرراً، كذلك التبعات القانونية والمواطنية لاستقبال المهاجرين القادمين، خصوصاً من سوريا والعراق. لكن التعصب المطلق الذي يهز أوروبا، لا يقوم على منطق أو قناعات، بل على تخوف مختلق، تدعمه أساطير التاريخ، ويؤججه مروجو فكر الأحزاب المتطرفة سياسياً. ولعل أفضل مثال عنهم هو غيرت فيلدرز، مؤسس وزعيم حزب هولندا من أجل الحرية. كتب فيلدرز: "في يناير عام 406، تجمد نهر الراين، وقطع فوقه عشرات الآلاف من البرابرة الجرمانيين وغزوا الإمبراطورية، ودمروا كل مدينة مروا بها. وعام 410، نهبت روما". بعد هذه المقدمة، يقارن فيلدرز بين أوروبا اليوم وروما القرن الخامس، ويحذر بدراماتيكية عالية: "إن سقطت أوروبا اليوم، فسيكون سبب ذلك، كما كان سبب سقوط روما، لأنها لم تؤمن بتفوق حضارتها. ستسقط لأنها صدقت بسذاجة أن كل الحضارات متساوية، ولأنها، بذلك لن تجد سبباً لندافع عن حضارتنا ونحافظ عليها".
الأهم أن اللاجئين ليسوا مسؤولين عن "سقوط روما" أو غيرها من التواريخ المتخيلة، وليس لهم أدوارٌ مكتوبة في أساطير التاريخ. هم أناس من كل أطياف الحياة، تركوا بلادهم التي تهزها الحروب، وخاطروا بحياتهم، وفي سفرهم شجاعة ومغامرة، وانفتاح للتعرف على ثقافات جديدة، يبحثون فيها عن حياة أفضل
نسق أسطورة الغزاة البرابرة ينعكس حتى في المقالات، التي تتكرر من الليبراليين في أوروبا، وكندا وأمريكا، وتتردد أصداؤها في إعلام العالم العربي. وتتحدث عن "لاجئين ساعدوا كنديين" عند وقوع فيضان أو حريق، أو عن لاجئين أحيوا اقتصاد مدينة، أو ساهموا بنشاطاتها، وكأن سلوكهم الاجتماعي الطبيعي غير متوقع. في هذه النظرة تكرار للأسطورة نفسها. وكأن القادمين الجدد، كما يخبرنا التاريخ المتخيل لسقوط روما، هم مصدر خطر على المدن الأوروبية، مركز الحضارة. وكأن إنسانيتهم وممارساتهم اليومية، لأنها لم تتبع الهمجية المتوقعة، فهي إذاً "مفاجئة" وتستحق النشر، لأنها مغايرة للأسطورة.
أصدرت الأمم المتحدة حقائق صادمة عن أعداد لاجئي العالم اليوم، ونحن كلنا مسؤولون. اللاجئون أنفسهم غير معنيين بتوصيفهم كلاجئين، ولا بالقوانين الدولية التي تحكم حركتهم، وحتماً ليس لهم أي مصلحة في الحروب السياسية الداخلية التي تمر بها دول أوروبا، والتي تستخدم قضيتهم في أجنداتها. والأهم أن اللاجئين ليسوا مسؤولين عن "سقوط روما" أو غيرها من التواريخ المتخيلة، وليس لهم أدوارٌ مكتوبة في أساطير التاريخ. هم أناس من كل أطياف الحياة، تركوا بلادهم التي تهزها الحروب، وخاطروا بحياتهم، وفي سفرهم شجاعة ومغامرة، وانفتاح للتعرف على ثقافات جديدة، يبحثون فيها عن حياة أفضل.
أن نكون قراء مسؤولين للتاريخ، خصوصاً تاريخ العصور الوسطى، الذي لا يلقى الاهتمام الذي يستحق، يعني أن نصبح محللين جادين وعادلين في فهم ما يجري اليوم في العالم العربي، كما في بقية دول العالم، ويعني أن نختار أن نشارك، ولو قليلاً، في مسؤولية الحاضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...