الحياة الثقافية في دمشق كما المدينة تعرضت لضربات قاسية بسبب الحرب. التجمع بات أصعب، واستعادة الجمهور كذلك، وكما ضاقت البيوت بساكنيها، ضاقت المسارح والمعارض بفنانيها وجمهورها. أماكن قليلة استطاعت الاستمرار - أو الانطلاق - مستفيدة من دعمها حكومياً، أو من المساحة الجديدة المتاحة للنشاط السياسي وما نجم عنه من نشاط ثقافي، أو حتى من القدرة على ممارسة النشاط التجاري اللازم لتمويل المكان واستمراره.
[br/]
اليوم في دمشق ثلاثة أماكن تجري فيها معظم العروض الموسيقية والمسرحية والمعارض الفنية والأمسيات الأدبية، تختلف غايات القائمين عليها، ولكن لا تختلف وظيفتها بالنسبة للمواهب التي ما زالت تقيم في الداخل السوري، والتي غالباً لا تكترث للجهة المنظمة أو المستضيفة ما دام ذلك يعني وصولهم لجمهور أوسع.
[br/] أوبرا دمشق
[br/]
[br/] في عام 1987 وضع حجر الأساس لمشروع المسرح القومي الذي تحول لاحقاً إلى دار الأسد للثقافة والفنون أو أوبرا دمشق. تأخر افتتاح المشروع بسبب حريق شب في الدار، وتم بدء العمل بها في 2003 بصدور مرسوم يقضي بتأسيس "الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون"، لتفتتح رسمياً في العام 2004.
[br/] بعد دورها ومشاركتها الكبيرة في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، وإنتاجها الأول في العام 2010 "زواج فيغارو"، تأثرت أوبرا دمشق في سوريا كما كل المؤسسات الثقافية بالصراع القائم، سواء من حيث انخفاض إقبال الجمهور، أو مغادرة العديد من الفنانين الأراضي السورية، ومن بينهم أسماء كانت تشكّل نقاطاً هامة في تاريخها، فبات أثر الحرب واضحاً على نشاطاتها.
[br/]
بدأت السينما اليوم تستحوذ على حصة أكبر من الحصة المعتادة من أوبرا دمشق، فقد نظمت الدار في الشهور الماضية مجموعة عروض لأفلام سينمائية معظمها هوليوودية جديدة، في محاولة لتغطية الفراغ السينمائي الذي ترتب على توقف عمل "سينما سيتي" السينما الأكبر في دمشق، إضافة للعقوبات المفروضة على سوريا، التي شملت الأفلام. لحقها بعد ذلك بشهور "مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة الأول"، الذي تعرّض – همساً وعلناً – لانتقادات شديدة بسبب مستوى الأفلام المشاركة فيه، والاتهامات الموجهة لأي نشاط منظم حكومياً بتدخل الواسطة في اختيار مكرميه ورابحي جوائزه.
[br/]
على الرغم من ملكيتها وإدارتها الحكومية، فإن الكثير من العروض والأفلام الجريئة ما زالت تمر فيها، وما زال موقعها يعرض صورة لبانة قنطار على صفحته الرئيسية، برغم مواقف الأخيرة المعروفة بمناوءتها نظام الأسد، الذي تحمل أوبرا دمشق اسمه بشكلٍ رسمي "دار الأسد للثقافة والفنون". وكما نجت أوبرا دمشق من الحريق الذي اندلع فيها وأخّر افتتاحها إلى عام 2004، قد تنجو من حريق الحرب المندلعة حولها، والتي كان نصيبها منها حتى الآن العديد من قذائف الهاون.
[br/]
المعارضة تتكلم عبر الثقافة
[br/]
[br/]
إثر حزمة القوانين التي صدرت منذ عام 2011 حتى الآن، نشأت مجموعة من الأحزاب المعارضة في الداخل السوري، يندرج معظمها تحت هيئة التنسيق الوطنية. من بين هذه الأحزاب تيار بناء الدولة السورية، وهو يتخذ لنفسه مقراً في دمشق في حي الطلياني الهادئ بوسط العاصمة. يحتضن التيار إضافة للأنشطة الحزبية ما بات يعرف باسم منتدى البناء الثقافي وكذلك مركز البناء الإخباري.
[br/]
"كانت الفكرة في البداية هي "سينما من أجل التغيير Cinema for Change"، حيث كان يعرض كل يوم سبت فيلم سينمائي في مقر التيار، "ثم تطورت الفكرة لتشمل أمسيات أدبية وموسيقية"، يقول مصطفى الدباس، المسؤول عن الأنشطة الثقافية والفنية في المنتدى. ومع تراكم النشاطات الثقافية الجديدة، تأسس منتدى البناء الثقافي بعد عامٍ ونصف العام تقريباً من تأسيس تيار بناء الدولة السورية. حالياً، تشتمل نشاطات المنتدى على نادي السينما الذي ما زال مستمراً بشكلٍ أسبوعي، ونادي القراءة الذي يجتمع كل شهرٍ لمناقشة كتابٍ متفق عليه، وأحياناً بحضور الكاتب نفسه، إضافة إلى معارض فنون بصرية تقام فيه، سواء تشكيلية أو كاريكاتير، والأمسيات الموسيقية والأدبية التي تقام أيضاً بشكل دوري.
[br/]
المنتدى يسعى وفقاً لدباس إلى "دفع العجلة الثقافية في سوريا بعد الركود الذي حصل طوال ثلاثة أعوام بسبب الحرب الدائرة"، ويسعى لتسليط الضوء على "ثقافة الأقليات الموجودة في سوريا من أكراد وشركس وأرمن". عن العلاقة بين الحزب والمنتدى، ينكر مصطفى دباس وجود أي رقابة "داخلية أو خارجية"، بل إن جزءاً ممن يرتادون المنتدى "يمكن تسميتهم موالين للنظام، وفي كثير من النقاشات يظهر ولاؤهم بشكل واضح له".
[br/]
المنتدى الذي بدأ نشاطاتٍ جديدة في مكتب بمدينة السويداء، يستعد أيضاً للبدء بتعاون مع النادي العائلي في قرية مشتى الحلو بمحافظة طرطوس، كما تعاون مع تجمع فناني فلسطين في شهر مايو الماضي الذي كان مخصصاً للأنشطة المتعلقة بفلسطين، يضيف الدباس "حاولنا التعاون مع المعهد العالي للموسيقى، ولكن طلب منا ترخيص فتم إيقاف هذا التعاون".
[br/] غاليري نوى
[br/]
[br/] في قلب دمشق القديمة، وبعد المرور بعدة حارات وطرق فرعية ستضيع في متاهاتها على الأغلب إن كنت تمر بها للمرة الأولى، يقع غاليري نوى. أنشىء منذ عام 2008 مع بداية نشاط الحركة الثقافية في دمشق قبيل اندلاع الصراع في سوريا، وهو عاد أخيراً بعد غياب قسري بنشاطاتٍ جديدة، معظمها موسيقي برغم ضيق مساحته. تقول نسرين إبراهيم (فنانة تشكيلية) من غاليري نوى أنه أصبح مكاناً "يتيح للمواهب، الشابة خاصة، التعبير عن منتجهم الثقافي والفني، أمام من يرغب في الاستمتاع بهذا النوع من الفنون".
[br/]
من الأمور التي تميز نوى عن غيره من الأماكن التي تحتضن نشاطات مشابهة، وجود بطاقات دخول توزع عائداتها بين الغاليري والمؤدين. ابراهيم تعتبر أن الفائدة المادية التي يقدمها الغاليري لا تقتصر على هذه المبالغ الرمزية، فالفنانون "بحاجة لصرف مبالغ ليست بالضئيلة لتنظيم حفلة موسيقية، وفي الغالب نجد أنهم لا يكونون قادرين على الدفع"، فيقدم الغاليري المكان والمعدات اللازمة وأحياناً الآلات الموسيقية إن احتاج الأمر، ويحصل المؤدون على "مبالغ رمزية تشجيعية".
[br/]
السياسة والدين غائبان تماماً عن أنشطة الغاليري. إدارته لا تعزو ذلك إلى شروط أو إلى رقابة تمارسها، إنما إلى كون "رواد الغاليري من أصحاب المواهب والجمهور، يبتعدون عن الأحاديث المتعلقة بالسياسة والدين"، مكتفين "بالموسيقى والفن، هذا العالم الذي تلتقي فيه الناس كافة على اختلاف انتماءاتهم"، وفقاً لتعبير نسرين إبراهيم.
[br/]
المنطقة التي يقع فيها الغاليري (حارة اليهود) هي من أكثر المناطق تعرّضاً لسقوط قذائف الهاون، لكن لم يؤدِ ذلك إلى تغيير مكانه، أو إيقاف عمله، فالخطر "موجود في كل مكان وفي أي وقت، وليس هناك وضع خاص يرتبط بغاليري نوى في هذا الخصوص". خارج أوقات الأنشطة يتابع الغاليري عمله كمقهى وحانة.
[br/]
هجرة العاملين في المهن الفنية كما هجرة العقول، تسير على قدمٍ وساق. قريباً قد تكون هذه الأماكن الثلاثة أكثر مما تحتاج إليه القلة القليلة القادرة على تقديم الفنون، والمصرة على البقاء وصناعة الفن بين منطلق قذيفة ومستقرها. السباق اليوم إذا استمرت الحرب على هذه الوتيرة، هو بين أيهما يحصل قبل الآخر: تطلع الفنانين لاستمرار هذه الأبنية وتالياً تقديم العروض، أم عطب هذه الأبنية على يد الحرب. في الحالتين الحرب كما كانت دائماً، تنغص كل جميل، خاصة الفنون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...