شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
شهادة من قلب حيّ الوعر المحاصر... كان يمكن أن تكون سوريا أجمل

شهادة من قلب حيّ الوعر المحاصر... كان يمكن أن تكون سوريا أجمل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 18 يونيو 201611:08 ص
سيذكر التاريخ أن في حمص كان هنالك شعب خرج ليعبّر عن حالة استياء بأرقى أشكال التعبير التي عرفتها الشعوب المتحضرة. وبشكل لافت كان الجميع يحرص على الأملاك العامة وعلى الاصطفاف بشكل لائق للمطالبة بالحرية بالتعابير اللائقة. الاعتصام عند ساحة الساعة في حمص شكّل حالة راقية في التعبير السلمي عن الاحتجاجات بشكلها الحضاري.

كان...

كان كل شيء لافتاً من الوقوف في طوابير إلى توزيع المياه والشعارات وإلقاء الكلمات إلى الاعتصام الذي أدهش الجميع من النظام إلى المراقبين والمحللين السياسيين وسفراء العالم... كان غياث مطر يحمل عبوة المياه ويوزع الأزاهير وكان مظهر طيارة يحمل الكاميرا وأسامة ينظم الجموع حتى لا يكون أي خرق أو اعتداء على الممتلكات العامة. وكان شباب الوطن يغنّون للحرية بينما كان الطرف الآخر يعمل بكل الوسائل للعسكرة. خمسة أعوام مرَّت كان يمكن أن تكون فيها سوريا أجمل لولا الإصرار على التغوّل الأمني وبعدها الإكراه على عسكرة الحل.

لكن...

ولكن المشهد تغيّر. بدأت المسألة ببعض البنادق، منها ما كان يتركه عناصر الأمن قصداً ليستولي عليه المتظاهرون ومنها ما تمّ تأمينه عن طريق مصادر مختلفة، وتحت بصر الأجهزة، والبعض الآخر عن طريق قوى إقليمية مختلفة بتمويل منها أو من بعض الداعمين من المحترفين الذين تركوا سوريا في ثمانينيات القرن الماضي. في البداية خرجت تظاهرات كانت تنادي بالحرية فقط بل بأقل من ذلك ربما. فالمطالب الأولى كانت عبارة عن إقالة محافظ هنا أو ضابط من هناك. ثم انتقل المتظاهرون إلى شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". ثم سُرقت الثورة بواسطة متأسلمين، فنظر الناس بعين الأمل إلى مدّعي العلمانية علَّهم يصبحون المنقذ المخلص ولكنهم سرقوا صوت ورأي الشعب المصدوم بل خانوه... واليوم لم يبقَ للناس أمل لا بمتأسلمين ولا بمتعلمنين وعاد معظمهم إلى الرجاء "يا الله ما في غيرك يا الله". فيا أيها المتعلمن لا تسلب المؤمن إلهه فتسلبه السبب الوحيد للعيش... ويا أيها المتأسلم لا تنصّب نفسك مكان إلهه فالمؤمن بالله قد كفر بك.

خمس سنوات...

خمس سنوات مرّت على الرحيل الأول لأهل الخالدية وبابا عمرو وبقية الأحياء. المهاجرون صاروا في أصقاع الأرض. خمس سنوات وعشر هجرات متتالية من الخالدية إلى الوعر والإدخار والإنشاءات والنبك ودير عطية وإلى لبنان والأردن وتركيا والغرب عبر مراكب الموت. خمس سنوات والأطفال بلا مدارس كما يجب وبلا استقرار وبلا حياة طبيعية. يقضون أيامهم بين مراكز استلام الوسائد والفرش والبطانيات وسلال الإغاثة وبين البحث المضني عن مأوى. خمس سنوات رحل فيها الكثيرون شيباً وشباباً، شهداء من القصف أو موتاً من القهر أو تغييباً في المعتقلات. ومَن بقوا رحلوا إلى الشتات. لن نسامح. أقسم بكل مقدسات البشرية لن نسامح. لكننا سنطلب العدالة للجميع. لن نسامح مَن قصفنا ولا مَن شرّدنا ولا مَن دمّر بيوتنا. ولن نسامح مَن سرق حصتنا من الطعام وأبسط مطالب العيش ولن نسامح مَن سكت عمّا لحق بنا من هوان. هكذا ردد أبو عبد الله. وأضافت زوجته معلمة المدرسة: لن نسامح كل الدجالين في سوق الخطابة والفضائيات ولن نسامح حتى السماء التي لم ترسل طيراً أبابيل. خمس سنوات ونحن نعيش على فتاة موائد الأمم المتحدة وما تجود به يد بعض الخيّرين. خمس سنوات ونحن نعدّ الساعات والثواني على غياب أولادنا وأهلنا وفلذات أكبادنا. لن نسامح لكننا وبكل ما نملك من إنسانية وما نحمل من عشق الحياة سنكون عادلين. النساء هنا في الحصار استطعن أن يقمن عالماً خاصاً بهنّ واستطعن التعويض عن غياب معظم الرجال. ستُدهشون وأنتم تتابعون المرأة المقيمة في مراكز الإيواء كيف تستطيع أن تتحمل كل هذه الأعباء. من تنظيف البيت وغسيل الثياب والاهتمام بنظافة الأولاد، إلى تجهيز الخضار وتوصيلها إلى الباعة والعودة لصنع الحلويات والكيك وأيضاً تسليمها إلى المحلات الخاصة ببيعها. وتنتقل المرأة إلى الطهو وإعداد الطعام لأطفالها وتملأ الخزان بالماء ثم تستلم سلة الإغاثة. وهي لا تتذمر. وإن سألتها عن زوجها تقول "الله يرجّعو بالسلامة" أو "الله يفك أسرو" أو "الله يتقبلو بين الشهدا". هكذا تتحدث أم عبد الله عن النساء. تتقاسم النساء كل شيء من الزعتر والخبز والمياه والدفاتر وحطب الطبخ. حتى أغطية البرد يتقاسمنها. يتبادلن الابتسامات التي تخرج منهنّ على استحياء. وفي كل العيون ترقب دموعاً دفينة تخجل من أن تذرف على الخدين. فهذه أم شهيد وتلك أخت معتقل والثالثة ابنة مخطوف والرابعة مُغتصبة. نسين الابتسامة الحقيقية لكنهنّ يعشن على أمل. ومَنْ زادَهُ الأمل لا بد من الوصول.

يسقط العالم...

في الحصار يسقط العالم كله، وتسقط الإنسانية كلها أمام دهشة طفل يبحث عن تفسير لما يراه حوله من دمار. وليسقط كل شيء في بلاليع الانحطاط الأخلاقي إنْ بات طفل يهذي من الرعب كل مساء وتهدهده قذائف الموت بدلاً من ترانيم أمه وحكايا الجدات. يعيش الذئب أمام ليلى ويبقى. فهو أرحم من هذا الموت حيث أنت أمام وحش تراه وجهاً لوجه وتعرف طبيعته وتعرف أنك قادر على اقتلاع أنيابه ومخالبه. كل الوحوش تدجّنت وبقي الإنسان وحشاً بلا قلب ولا عيون. أبو ممدوح يقول: كنّا بعناصر السلطة وكانت الأمور تتيسر ببعض المال على شكل رشوة تغلف ظاهرها الهدية لكن اليوم تحولت الأمور إلى أشكال أخرى لأناس يسرقون منك حتى لقمة العيش ويزايدون عليك بأنهم يحامون عن الناس ويسهرون من أجل مصالحهم وفي الحقيقة هم صبيان أمراء الحرب. ويتابع: الثورة التي لا تجتث اللصوص وتقضي على الاحتكار وتبني مكارم الأخلاق ستكون حرباً عبثية بكل التفاصيل. العابثون بمقدرات شعبنا والذين يستغلون حاجة الناس لتستمر الحياة لا يختلفون عن القتلة وشذاذ الآفاق. تنكة البنزين تكلف من بئر النفط في أقاصي سوريا إلى خزان السيارة ألفي ليرة سورية ويبيعها اللصوص في المناطق المحاصرة بأربعين ضعفاً. ورأس الملفوف يسرقونه من البساتين ليبيعون الكيلو الواحد بأكثر من ثلاث مئة ليرة. هؤلاء هم البغاة وحثالة المجتمع والشركاء في القتل. ولسفالتهم نستطيع أن نسميهم القتلة القذرون. وسيأتي اليوم الذي فيه على الباغي تدور الدوائر.

تمديد الحرب...

اليوم وقد أوغلت الثورة في عامها السادس، وأمام إصرار القوى الدولية على تمديد فترة الحرب، وأمام ما وصلت اليه القوى الإقليمية من إحباط نتيجة الموقف الأميركي، فإن المتتبع للوضع السوري يرى أن سنوات طوالاً ستستمر فيها هذه الكارثة الإنسانية وأن ضياعاً حقيقياً عاشه جيل كامل وأن المرحلة القادمة ستكون الأخطر بين كل السنوات التي مرّت حيث ستقترب مرحلة التصفيات النهائية لهذه الحرب وعلى كل طرف إقليمي أو داخلي أن يعمل على كسب أي شيء وضمّه إلى ملف الأوراق الخاصة بأجندته ليستطيع فرض بعض شروطه. لكن السؤال الهام: هل اقتربت النهاية فعلاً أم أن اللاعب الإسرائيلي عن الطريق الأميركي يجد أنه ما زال هناك متسع من الوقت للمزيد من القتل والدمار. والسؤال الأهم: هل سيكون لدى أيّ طرف سوري إمكانية العمل لعودة الحصان أمام العربة وسحب العصي من العجلات؟ هل هذا السوري موجود أصلاً؟ هذا ما ستكشفه السنوات القادمة.
إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image