صباح حمص وطوابيرها

"لا الشوارع شوارعنا ولا الناس ناسنا ولا البلد بلدنا"، تقول غنى، لوصف حال مدينتها بلهجة حمصية
24 ساعة في حياة سكان مدينة حمص اليومتمتد سلسلة السيارات المنتظرة على مد البصر، ما دفع الناس إلى خلق حلول لتخفيف شدة الزحام. فقسموا السيارات بحسب أرقامها، زوجي أو فردي، وخصصت أيام لتموين هذه، وأخرى لتموين تلك.
أشكال الكهرباء الكثيرة
طابور "الكازيات"، ليس حكراً على أصحاب السيارات والحافلات. بعض "المناضلين" في هذا الطابور، يشترون البنزين لمولدات الكهرباء التي تعوض عن انقطاع التيار، الذي يصل أحياناً إلى 17 ساعة يومياً، ما اضطر الناس لإيجاد بدائل عن كهرباء الشركة العامة.
مدينة الحواجز والجدران
تواكب طوابير حمص الصباحية الجامدة والبطيئة، حركةٌ إيقاعها سريع تبدأ مع دورة حافلات المدارس وخروج الموظفين إلى أعمالهم. في هذه اللحظات، قد يبدو الصباح مشابهاً لبداية أي يوم في مدن العالم. لكن يعرقل تدفق الحياة هذا جدران إسمنتية يصل ارتفاع بعضها إلى 3 أمتار تقريباً، سدت غالبية الشوارع الفرعية للأحياء المأهولة. والهدف منها توحيد مسار جميع السيارات في حمص، في الشوارع الرئيسية، لتجعلها تصب عند نقاط تفتيش تدعى "الحواجز".
مدينة مكتظة
ديمة سيدة أربعينية، تعمل مدرسة في حضانة خيرية للأطفال الفاقدي الرعاية الأبوية، ولم تشأ استعمال كلمة أيتام في وصفهم. تغادر بيتها صباحاً مع أطفالها وزوجها. ورغم الإرهاق الذي يسببه لها عملها خارج البيت، يظل الضوء الوحيد المتبقي، في حياة أظلمت أمامها من كل نواحيها. تتحدث عن عملها بفخر وشغف، وتقول إن نظام الحضانة يقوم على مبدأ "طفل يكفل طفل". أي أن الأطفال الذين ما زالوا ينعمون بوجود آبائهم، يدفعون قسطاً للحضانة يُستقطع جزء منه لتغطية تكاليف طفل فقد والده. غالبية الأطفال الذين تتعامل معهم، إن لم يكن جميعهم، يعانون من اضطرابات في السلوك مختلفة الشدة، نتيجة للحياة المضطربة التي يعيشونها. أما أطفالها هي، فيرتادون مدرسة حكومية. تضاعف عدد زملائهم في الفصل الضيق الصغير من 20 طالباً تقريباً إلى 40.
وقت الغداء: مجدرة طوال أيام الأسبوع
الأزمة الحقيقية بالنسبة لأهل حمص اليوم هي الأزمة الاقتصادية، فالارتفاع المضطرد لسعر الدولار لم يدع ثباتاَ في أسعار السلع التموينية والطبية والتجارية. راتب الموظف العادي يراوح بين 20 و30 ألف ليرة سورية (ما يعادل 33 و50 دولاراً أمريكياً)، لا يكاد يصمد حتى منتصف الشهر.تقول ديمة: "أشتري الدواء اليوم بـ1000 ليرة وعندما أذهب لشراء علبة أخرى تتمة للجرعة المطلوبة أجده أصبح بـ2000 ليرة. مرتبي يعادل ثمن بنطال لطفلي ذو الثمانية سنوات وهو لا يكفي ثمن حليب وحفاضات لابني الرضيع"
تقول بأسى وخجل:"أنا وزوجي موظفين، كنا نعدّ أنفسنا من أفراد الطبقة الوسطى، أما اليوم فالموظف أصبح فقيراً".
زيارة للطبيب
وعن الطبابة حديث آخر. يصف شادي المستشفيات بالـ"مسلخ". الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والأمنية المزرية انعكست سلباً على قطاع الصحة. نقص حاد في المواد والكوادر الطبية، أطباء حمص المتمرسون والمشهورون غادروا المدينة منذ زمن، ولم يبق منهم سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
عن البقاء
وداع شادي لزوجته كل صباح بات مختلفاً في الآونة الأخيرة. فالمنطقة التي تقع فيها شركته أصبحت مستهدفة، ووقع انفجار على بعد 25 متراً من مركزها. يركن سيارته بعيداً عن المكتب وفي مكان يتسنى له مغادرة المنطقة منه بسرعة في حال حدوث تفجير. يشعر بأن الحياة طبيعية أثناء انخراطه في العمل: الحركة والزحمة تنسيانه أنه في بلد حرب. لا يرى شادي مستقبلاً له ولأبنائه خارج حمص، ويلوم كل من ترك البلد من أصدقائه. "صدمني وآلمني قرارهم بالمغادرة"، يقول. ويضيف: "حزنت وتأثرت جداً حتى أنني بكيت أحياناً، لكن ذلك زاد إصراري على البقاء". هو يرفض حتى اليوم إصدار جواز سفر بدل الذي انتهت صلاحيته، خوفاً من أن يفكر حتى بترك مدينته. كل يوم، بعد احضار أولاده من المدرسة، يتعمد المرور معهم أمام أوسع وأشد المناطق دماراً في المدينة، منطقة حمص القديمة التاريخية. يتأملونها بصمت وألم. أشياء صغيرة تشعره بالسعادة. كموكب الزفاف التقليدي الذي رآه يسير في شارع الحمرا. أول عرس يراه في حمص منذ خمس سنوات. انضم للموكب بعفوية، رقص وسار وراء العربات، ارتفع صوت بوق عربته. غمرته السعادة بموكب عرس لا يعرف من هم أصحابه. تسترق غنى النظر إلى العالم خارج مدينتها عبر الـWhatsapp ووسائل التواصل الاجتماعي. في دردشة عبر مجموعة تضم أخوتها المغتربين، تحاول إقناعهم أن يزوروا المدينة في الصيف القادم لحضور عرس، لكنها تفشل. الحذر والخوف يدفعاها وكل أصدقائها في حمص إلى مسح الصور والمحادثات عن هاتفهم بشكل دوري، مهما كانت بريئة أو شخصية. لا يعلم الفرد منهم متى قد يقع الهاتف بيد من قد يستخدم أي شيء فيه كدليل إدانه على جرم ما.يحين المساء، ونبحث عن حياة طبيعية
في المساء، وليشعر بحياة اجتماعية طبيعية، يصطحب شادي عائلته إلى الكنيسة المجاورة، التي أصبحت أشبه بنادٍ يلتقي فيه الجميع كباراً وصغاراً. هناك أصبح لديه وزوجته أصدقاء جدد تكونوا خلال السنوات الخمس الأخيرة، يشاركونهم في الهموم نفسها. ديمة تقضي ما تبق من يومها في مذاكرة دروس أطفالها، والتحضير لعمل اليوم التالي من مواد تسلية وأشغال يدوية، ونشاطات لتلاميذها في الحضانة. غنى، تزور والديها الشيخين كل مساء. تجدهما كما تركتهما البارحة، وكأن الوقت لا يتحرك في بيتهما. والدها يعاني بصمت من تآكل الغضاريف وأمها تصلي المغرب. تحاول الأم تهوين الحياة على ابنتها: "صدقيني يا بنتي بكرا أحلى"، ترد غنى بأسى: "وشو تأخر بكرا". تبكي السيدتان. ملاحظة: تم استبدال أسماء الشخصيات في المقالة بأسماء مستعارة حفاظاً على أمنهم في حمص.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 10 ساعاتاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...