يحب السودانيون شهر رمضان وأجواءه ويفضلونه على بقية أشهر السنة. ربما هي الروحانيات، وربما هي طرائق حياة خاصة بهذا الشهر تغيّر حياة السوداني وتجعل من "رمضان أحلى في السودان"، كما درج أهله والإعلانات التجارية على القول.
أمور كثيرة تتغيّر في شهر رمضان أو لا تحدث إلا في رمضان، وهذا ما يجعل منه شهراً خاصاً.
الإفطار في الشوارع
اعتاد السودانيون تناول إفطارهم على قارعة الطريق في شهر رمضان. فتجهّز النسوة مائدة خاصة للرجال الذين يفترشون أبسطة متواضعة ويتقاسمون إفطارهم مع جيرانهم في شوارع العاصمة السودانية الخرطوم وبقية مدن السودان. ويباهي حسن مساعد، واحد من سكان حي الصحافة الشعبي، جنوب الخرطوم، بتلك العادة، ويقول إنها تزيد من التآلف بين الجيران، وتفتح المجال لاستضافة من انقطعت بهم السبل ساعة الإفطار، مضيفاً أنها تُغرس في نفوس الصغار الذين يصحبون أهاليهم عادة ساعة الإفطار. وللتدليل على الأثر الطيب لهذه العادة، درجت السفارتان الأميركية والبريطانية في الخرطوم على تنظيم إفطار رمضاني على قارعة الطريق لاستضافة من حرمتهم الظروف من الوصول إلى محل إقاماتهم. كذلك، فإن حنين المهاجرين السودانيين الدائم إلى رمضان بلادهم يدفعهم إلى تناول طعامهم الرمضاني على قارعة الطريق في الولايات المتحدة الأميركية والسعودية وغيرهما من الأماكن التي ينتشرون فيها.موائد الطريق
يتميّز أهل المدن والقرى الواقعة على طرق السفر، بأنهم يتحوّلون في رمضان إلى قطّاع طرق. ولكنّم يقطعون الطرق بنيّة إجبار ركاب السيارات العابرة على الترجل منها وتناول طعام الإفطار على موائدهم البسيطة المنصوبة في الهواء الطلق، بينما يستضيفون النساء في بيوت قريبة من الشارع العام. إذا زرت السودان، وصودف أن كنت مسافراً قبيل نصف ساعة من الإفطار، فستواجه أرتالاً من البشر الذين يسدون عليك الشارع بأجساهم، أو بعمامات يمسكون بأطرافها. حينئذٍ لا تفزع، وقابل كرمهم بإكرامهم بأن تتناول الإفطار عندهم. وينوه الكاتب عمار خضر إلى الأثر الطيب الذي يخلّفه إكرام المسافرين عنوة في رمضان، ويروي حادثة قطع أتباع رجل متصوف (الشيخ الكباشي) الطريق أمام موكب يقلّ نائب القائم بالأعمال الأميركي السابق في سفارة أميركا في الخرطوم، وهو حالياً القائم بالأعمال السفير جيري لاينر، وإجباره ومرافقيه على تناول طعام الإفطار عندهم، وهو أمر قابلته السفارة برد الدعوة للشيخ وأتباعه لتناول طعام الإفطار في السفارة.الحلومرّ
يعتبر الحلومر، أو الآبريه، مشروباً سودانياً خاصاً، ويتسيد الموائد في رمضان في جلّ بقاع البلاد. وهو مشروب حلو الطعم مع لذعة مرّة أعطته اسمه "حلومر". الحلومرّ من الذرة بعد تجفيفها وطحنها وإضافة التوابل وخبز العجينة في عملية تشهد اجتماعاً كبيراً لنساء الحي يُعرف محلياً بـ"عواسة الآبريه". بعد ذلك، تُنقع قطع الحلومر في الماء لساعات، ثم تُصفّر ويُضاف إليها السكّر، فينتج المشروب الأهم في موائد السودانيين الرمضانية. وتقول إحدى صانعات ومسوقات الحلومر، بدرية جعفر، إن المشروب يحتل صدارة المشروبات في السودان بلا منازع، فهو بحسب قولها خفيف على المعدة، وقادر على هضم الطعام بصورة مميزة. وتدعو بدرية الدولة إلى الاهتمام بصناعة الحلومر، وفتح مراكز كبيرة قادرة على إنتاجه وتصديره إلى الخارج، مؤكدة أن تعاملاتها مع عدد من الفنادق الشهيرة في الخرطوم أبانت إقبالاً كبيراً من الأجانب على الحلومر.أغاني وأغاني
لا شك في أن برنامج "أغاني وأغاني" الذي تنتجه قناة النيل الأزرق هو أهم البرامج الفنية، مطلقاً. والبرنامج الذي يقدّمه الأستاذ السر أحمد قدور في شهر رمضان يواصل مسيرته الناجحة للموسم العاشر. ويعتبر البرنامج الذي تشارك فيه مجموعة من أبرز نجوم الأغاني الشباب طقساً رمضانياً ثابتاً في البيوت السودانية. وتشهد كل حلقة اختياراً لموضوع معيّن، كالأغاني الوطنية مثلاً، أو شاعراً معيناً مثل محمد بشير عتيق، أو مغنياً له بصمته مثل محمد وردي، أو غناء منطقة بعينها مثل دارفور. وأدّى تحوّل البرنامج إلى طقس رمضاني إلى هجمة سنوية يقابله بها بعض العلماء وأئمة المساجد والكتّاب، على أساس أن مواعيد بث البرنامج (عقب الإفطار) قد تشغل الناس عن صلاة العشاء والتراويح. مع ذلك، يستمر البرنامج في مواعيده، وتتزايد الإعلانات التجارية والرعايات له، في مقابل فشل كل محاولات استنساخ البرنامج في القنوات والمحطات الأخرى.سهرات رمضان
من أغرب عادات العاصمة السودانية الخرطوم أنها مدينة تتطبع بطباع سكانها. فهي تستيقظ عند الفجر، وتضج بالمارة نهاراً وعصراً، ثم تهجع ليلاً فلا يتحرك في أمسياتها إلا بعض الأمنيين الذين ينصبون نقاطاً لتفتيش المركبات القليلة المتجولة. بيد أن تلك العادات التي تسم الخرطوم أحد عشر شهراً يتم تصفيدها في رمضان، فيتدفق الناس إلى الشوارع بكثافة. ويكون الإقبال على شارع النيل في أوجه، وتعمل المحال التجارية والمقاهي حتى الفجر، وتنساب وسائل المواصلات العامة في الطرق على غير عادتها، وتنظّم الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية والاجتماعية بشكل كثيف. وعن سر الحراك الكبير والفعاليات التي تشهدها الخرطوم في ليالي رمضان، أشار عبد الرحيم ناصر، وهو خريج كلية الدراما والمسرح في جامعة السودان، إلى أن الحكومة الجاثمة على صدور الأهالي منذ 26 عاماً عمدت على تقييد النشاط الثقافي والمجتمعي، وتجريف ثقافة السهر عند السودانيين مخافة تحوّل تجمعاتهم الفنية والثقافية والاجتماعية إلى تحركات ضد السلطة. ورأى أن السلطات عملت على فرض نموذج إسلامي يرى في الفنون رجساً من عمل الشيطان، وبالتالي يُحدد الساعة الحادية عشرة ليلاً موعداً لإنهاء جميع الفعاليات بما في ذلك حفلات الزواج. أما في رمضان، يتابع، فإن قبضة الدولة ترتخي قليلاً، فيبطل العمل بقاعدة الساعة 11 ليلاً وهو ما يستغله الناس لتفجير طاقاتهم الحبيسة.شهر بلا انقطاع للكهرباء
تعد الكهرباء معضلة حقيقية في السودان، حيث قدّرت وزارة الموارد المائية والري والكهرباء، الفجوة ما بين الإنتاج والاستهلاك بمقدار 650 ميغاواطاً. وتقبع العاصمة الخرطوم، وسائر المدن السودانية بداية من صيف العام السابق، تحت وطأة تقنين للكهرباء، وصلت ذورته قبيل شهر رمضان، إذْ كانت تنقطع الكهرباء نحو ثماني ساعات، وبمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع. وهذه السنة، خرج الرئيس السوداني عمر البشير، على الملأ، وتعهد أن يكون رمضان الحالي خالياً تماماً من تقنين الكهرباء أسوةً بالأعوام السابقة. وتحرص الدولة على مرور الشهر الفضيل دون احتجاجات جماهيرية، كالتي شهدها العام الفائت من جراء انقطاع المياه. ومع أن الشهر تخللته انقطاعات قليلة للكهرباء، عزتها الوزارة إلى أعطال فنية، فإن التقييم العام عند السودانيين هو أن الكهرباء تنساب على نحو جيد في الشبكة القومية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت