بعد أكثر من عامين من سيطرة داعش على الفلوجة انطلقت العمليات العسكرية لتحريرها منه في عملية ستضع العراق والمنطقة على مفترق طرق.
فُتحت النيران وانطلقت معها الآمال، والدعاية والدعاية المضادة. فرغم صغر هذه المدينة فهي تمثل رمزاً للسيطرة الداعشية ولقوى التشدد الاسلامي التي اتخذت منها ملجأ آمناً منذ ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. ولهذا فإن السيطرة عليها وتحريرها من داعش يكتسبان أهمية رمزية ولوجستية تفوق ما مثلته عملية تحرير الرمادي عاصمة محافظة الأنبار. فقرب المدينة من بغداد (60 كم شمال بغداد) أهّلها لتكون مركزاً لتخطيط وتنفيذ هجمات عديدة على العاصمة بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة. كما أن تطهيرها من داعش سيعبد الطريق أمام القوات العراقية للبدء بمعركة الموصل. إلا أن هذه العملية بدأت تتباطأ بعد أن واجهت مقاومة شرسة متوقعة من مقاتلي داعش.
تعتمد إستراتيجية المقاومة عند داعش عسكرياً على إرسال الانتحاريين، والسيارات المفخخة واستعمال الأنفاق التي بناها خلال أكثر من عامين هي مدة سيطرته الكاملة على المدينة. إضافة إلى هذا فقد بدأ داعش باستعمال أهالي المدينة كدروع بشرية لوقف تقدم القوات العراقية. فتقارير منظمات حقوق الانسان تتحدث عن بقاء ما يقرب من 50 ألف مدني، 20 ألفاً منهم من الأطفال. وتحدثت التقارير عن نقص حاد في الأغذية والأدوية ومياه الشرب، ومحاولات عديدة للمدنيين للهروب من هذا الوضع المأسوي واجهها داعش بإطلاق النار على كل من يحاول الهرب. كما تحدثت تقارير إعلامية عن إعدامات قام بها داعش ضد من رفض القتال معهم من رجال وحتى صبية الفلوجة.
إن سير العمليات الذي أوصل القوات العراقية إلى المدخل الجنوبي لمدينة الفلوجة، يشير إلى أن تحريرها من داعش لم يعد سوى مسألة وقت. ولكن السؤال المهم هنا: ما هو الثمن؟ إن تضخم الخسائر المدنية في الفلوجة سيزيد من اشتعال النار الطائفية ومن حدة اتهامات بعض القيادات السنية العراقية والقيادات السياسية الخليجية باستهداف قوات الحشد الشعبي الشيعية لأهالي الفلوجة انتقاماً من تواطؤ مزعوم مع داعش. إن المتتبع لردود الفعل الخليجية يجد انفعالاً واضحاً في انتقاد العمل العسكري في الفلوجة لدرجة أنك تخال المنتقدين مؤيدين لداعش رغم مواقفهم الرافضة المعلنة ضد هذا التنظيم. فالسعودية مثلاً تشير إلى العمليات العسكرية على أنها "تحرير للفلوجة" وإن كانت لا تخفي غضبها من دور الحشد الشعبي، والدور العلني للجنرال قاسم سليماني في العمليات العسكرية.
والمتتبع للحديث المتزايد في الاعلام العربي عن انتهاكات للحشد الشعبي ضد مدنيين في الفلوجة والتركيز الواضح على هذه النقطة رغم عدم ثبوت أنها عمل ممنهج تم على نطاق واسع، يشير إلى أن الخلاص من داعش لا يزال أدنى في سلم الأولويات من مواجهة النفوذ الإيراني في العراق. ورغم أن رئيس الوزراء حيدر العبادي تعهد بإجراء تحقيق في تجاوزات محتملة من قبل مقاتلين في الحشد الشعبي، وتصريح السفير الأمريكي بأن لا أدلة قاطعة على حدوث انتهاكات بالشكل الذي تصفه وسائل الاعلام العربية فإن هذا لم يخفف من حجم الهجوم الاعلامي والدبلوماسي الخليجي.
لقد كان متوقعاً في معركة كمعركة الفلوجة أن يسقط ضحايا مدنيون ممن أضحوا أسرى لداعش يستعملهم لصد هجمات الجيش. كما أن اشتراك الحشد الشعبي الشيعي أمر لا مفر منه نظراً للضعف الذي لا يزال يعتري المؤسسة العسكرية العراقية منذ انهيار الجيش بعد سقوط الموصل عام 2014. وقد اعترف الأمريكان الذين يشترك طيرانهم وخبراؤهم في المعركة بعدم قدرة القوات العراقية الرسمية وحدها على القيام بمهمة تحرير الفلوجة. لهذا علينا أن نفهم التصريحات الخليجية والتصريحات العراقية المضادة على أنها تعبير عن أن معركة الفلوجة هي في الواقع معركة إقليمية لا عراقية فحسب. فالايرانيون لم يعودوا يخفون مشاركتهم العلنية في التدريب والتسليح وتقديم المشورة العسكرية، في استعراض واضح للنفوذ يستهدف أساساً السعودية التي ما فتئ سفيرها في العراق يعرب عن القلق والغضب من هذا الدور. وفي المقابل نرى الدول الخليجية تعتمد سياسة النقد السلبي دونما النظر إلى أفق أبعد يمكنها من لعب دور أكثر إيجابية.
لقد أشعلت معركة الفلوجة ناراً يأمل كل سياسي أن ينال منها قبس يضيء له دهاليز السياسة والنفوذ. فالعبادي يعول على هذه المعركة ليكسب زخماً شعبياً في مواجهة تهاوي صورته كزعيم قادر على الاصلاح. ويستعيد شيئاً من مكانة تآكلت بعد أن اقتحم المتظاهرون الصدريون ومن أيدهم حصن الدولة، بل ومكتبه الخاص في الخضراء. المالكي يأمل من زيارته لأرض المعركة وتودده لقادة الحشد الشعبي أن يقنع الساسة والشارع العراقي بأنه الزعيم الشيعي الأقوى والأقدر على حماية الشيعة من خلفه الضعيف. وكذلك يفعل السيد عمار الحكيم زعيم المجلس الأعلى الذي ظهر بالزي العسكري ليوحي أن له شأناً في ما يدور على أرض الفلوجة. أما السياسيون السنة فبعضهم يزيد من نار الطائفية اتقاداً، والبعض الآخر يسعى ليكون مع ركب النصر على داعش مع إرضاء السنة بين فترة وأخرى بتصريحات متشددة. أما قادة الحشد فقد اكتسبوا نفوذاً وشهرة بين الرأي العام المحبط من أداء السياسيين التقليديين ما يؤهلهم للعب دور سياسي مستقبلاً، وهو ما قد يجعل بعضهم يسعى إلى رسم صورة القائد الوطني الجامع لا الميليشاوي المحصور في أفق طائفته.
أما أمريكا صاحبة النفوذ العسكري المتمثل في التدفق المعلوماتي والإسناد الجوي بالطائرات المقاتلة والمسيرة، فيبدو أنها تقبلت النفوذ الايراني كحقيقة واقعة وإن كانت تحاول بإستراتيجية أكثر إيجابية أن تواجه وتحد من هذا النفوذ. فهي تدعم جهود ضرب داعش على الجبهتين العراقية والسورية حيث تشن قوات سوريا الديمقراطية الكردية عمليات هجومية واسعة ضد معقل داعش في الرقة وتحقق تقدماً ملحوظاً. كما تستمر في دعم الجبهة العراقية عسكرياً، وينشط السفير الأمريكي في بغداد سياسياً لدعم العبادي وتمكينه من إجراء اكاً بصلاحات تجعله أقوى في مواجهة ضغوط التيار الصدري لتحسين الأداء الحكومي. وهي في هذا تسلك سلوراغماتياً تفتقر إليه السياسة العربية إزاء العراق، هذه السياسة التي تكثر من النقد والتهييج دون تقديم بديل عملي يمكن العراقيين من دحر داعش.
إن القادة في بغداد يدركون تماماً أنهم يسيرون على حبل مشدود لا بد فيه من الموازنة بين النصر العسكري والتضحيات المدنية في صفوف أهالي الفلوجة. فالمشاعر الطائفية التي يؤججها سياسيو الداخل والخارج ستلتهب أكثر إذا ثبت بالفعل حدوث انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين، أو إذا انتهت المعركة بأعداد كبيرة من القتلى من أهالي المدينة. وهذا بدوره سيلقي بظلال كثيفة على المرحلة الأهم والأعقد في الصراع مع داعش، ألا وهي تحرير الموصل. كما أن النصر الحقيقي هنا لا يمكن اختصاره بالنجاح في طرد داعش عسكرياً من المدينة، بل إن هناك معركة أخرى أهم تتمثل في كسب عقول وقلوب الناس وإعادة الاحساس لديهم بأنهم جزء من الدولة التي تديرها بغداد. فالحواضن التي تلقفت داعش كانت تعتاش على الشعور بأن بغداد لم تعد عاصمة للعرب السنة كما هي للشيعة. وهنا يكمن التحدي الأكبر في منع عودة داعش إلى تلك المناطق وتجفيف منابع التعاطف والدعم لهذا التنظيم الارهابي.
معركة الفلوجة نقطة فاصلة في المواجهة مع داعش وفي رسم ملامح المستقبل السياسي في العراق والتطورات اللاحقة في مواجهة داعش إقليمياً. إن هزيمة داعش في الأنبار ومن ثم في الموصل ستدفع المقاتلين المعبئين بالفكر الجهادي المشتعل إلى أن يتوجهوا إلى حواضن أخرى في الوطن العربي. ولن تسلم بقية هذه الدول من تلك النيران التي ستتبعثر في المنطقة. وما لم يتم التعامل مع هذا الخطر بأفق أوسع يتجاوز حسابات الصراع الاقليمي الشيعي-السني، فإن النار مرشحة لأن تخفت في مكان لتتأجج في أماكن أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...