في صباح أحد أيام شهر يناير 2015، وقف رجلٌ يرتدي معطفاً أسود على الجهة التركية من القرية، التي تقع على الحدود السورية التركية "أكتشكالي". كانت الشمس مشرقة والطقس بارداً ولم يكن هناك أحد غيره. نظر من حوله واقترب من عامل نظافة يرتدي بزة زرقاء، وقال له: "أريد العبور إلى الجهة المقابلة، فماذا عليّ أن أفعل؟"، طلب عامل النظافة منه 75 ليرة تركية وأرشده إلى فجوةٍ في السياج ليست بعيدةً عن البوابة الحدودية الرئيسية. قام ذلك الرجل بدفع المبلغ المطلوب، لكنه تردد بعض الشيء، فقد أتى من مكانٍ بعيد، وهو الآن يبعد 10 أمتار فقط عن وجهته، شمال سوريا حيث نشأ تنظيم الدولة الإسلامية. سأل ذلك الرجل عامل النظافة: "ولكن ماذا عن الحرس؟" فأجابه: "لا تقلق، اذهب فحسب". اتجه الرجل إلى تلك الفجوة، وانحنى ليمر عبرها وعندما وصل إلى الجهة المقابلة أخذ يركض فرآه أحد الحراس الأتراك وصرخ، لكنه لم يتوقف.
يدعى ذلك الوافد الجديد إلى القتال في سوريا أبو علي، وهو يحظى باسم آخر وحياة أخرى، لكنه كسائر الوافدين إلى أراضي الدولة الإسلامية، قرر التخلي عن كل شيء. أراد أبو علي أن يولد من جديد. وصلت قوة تنظيم الدولة إلى ذروتها مع بداية عام 2015، إذ نجح التنظيم في جذب المئات من المقاتلين المتحمسين من جميع أنحاء العالم. تعرض التنظيم في تلك الفترة لغارات جوية شنّها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، ولكن تلك الضربات الجوية لم تنجح في دحره عن مناطق سيطرته بل ازدادت قوته. بالإضافة إلى ذلك، نشر التنظيم مقاطع فيديو مروّعة لقطع الرؤوس والإعدامات، وتباهى عناصره ببيع النساء غير المسلمات، اللواتي وقعن في الأسر كالعبيد لممارسة الجنس معهن. أدت تلك الوحشية إلى زيادة جاذبية التنظيم في أعين الشبان المسلمين.
ولكن بعض المؤمنين الحقيقيين الذين انضموا إلى تنظيم الدولة أدركوا سريعاً أن تلك الحياة التي يعيشونها في كنف "الدولة" بعيدة كل البعد عن الجنة التي توقعوها. وسرعان ما انتشرت القصص عن بشاعة التنظيم عن طريق العديد ممن كانوا يقاتلون في صفوفه وأحدهم أبو علي.
التقيته الصيف الماضي في "أورفة"، وهي بلدة تركية حدودية، بعد ثلاثة أشهر على هربه من التنظيم بمساعدة بعض المهرّبين، وشبكة من الناشطين الذين تعاطفوا معه. أمضينا يومنا جالسين في مقهى في حديقةٍ عامة تعج بالعائلات التركية.
لم يكن أبو علي مجاهداً تقليدياً، فقد كان قصير القامة وأصلع، ويبلغ من العمر 38 عاماً قضاها في شرب الخمر والتدخين. قال لي إنّه انضم إلى تنظيم الدولة على أمل أن يحصل على وظيفةٍ إدارية، ولكي يصبح مسلماً صالحاً. ولد أبو علي في الكويت، وهو يحمل جواز سفرٍ أردنياً ولكنه أمضى معظم حياته في حلب التي اعتبرت العاصمة التجارية لسوريا. عمل مع والده الذي كان يساعد السوريين في دفع الرشى لتخليص معاملات شراء سيارة.
"اعتدت الاستيقاظ في التاسعة صباحاً والذهاب إلى المكتب وشرب القهوة وتوقيع بعض الأوراق، يستغرق هذا الأمر ساعتين، ثم أعود إلى المنزل. لقد كان عملي عملاً فاسداً، لكن الأمر لم يزعجني إطلاقاً". كان أبو علي زبوناً دائماً للحانات والعلب الليلية، اعتاد الاحتفال أكثر من مرّةٍ في الأسبوع على الرغم من تذمر زوجته المستمر. كانت امرأةً عقيمة، أدى غياب الأولاد في حياتهما إلى فراغٍ يومي كبير.
عام 2012 اتخذت حياة أبو علي التي قضاها في تبذير أمواله منحى جديداً، فتوقف عمل والده في الدوائر الحكومية بعد أن قام الجيش السوري الحرّ بالدخول إلى حلب، ليعتمد بشكلٍ كليّ على المساعدات التي يتلقاها من أفراد أسرته في الخارج. شعر ببعض الأمل عند بداية الثورة عام 2011، لكنه اليوم يشعر بأن الأمور تتجه من سيءٍ إلى أسوأ. في صغره اعتاد الذهاب إلى مدرسةٍ دينية في الكويت، ومع اقتراب المعارك من حلب عام 2012 شعر بأنّ خلاصه يكمن في الدين الإسلامي، لكنه لم يستطع الإقلاع عن شرب الخمر والتدخين. عمل شقيق زوجته في الجيش السوري النظامي، ما دفعه في أحد الأيام للقول لزوجته إنّ شقيقها كافر.
قام شقيق آخر لزوجة أبو علي، وهو يعمل في مجال الخياطة، بمواجهة أبو علي، وبعد مشادةٍ كلامية بينهما قال أبو علي إنه يريد الطلاق من زوجته لتعود هذه الأخيرة إلى منزل أهلها. بعد الطلاق، شعر أن ما من شيء بقي ليخسره فاشترى تذكرة سفرٍ لاسطنبول، ومن هناك ركب الحافلة متجهاً إلى "أورفة" في الجنوب، ثم ركب حافلةً أخرى واتجه في رحلةٍ استغرقت نصف ساعة إلى الحدود السورية. "كان قلبي ينبض بشدةٍ طوال الرحلة، ترددت بعض الشيء، لكنني قلت لنفسي إن الشيطان يحاول التلاعب بقراري، وعلي عدم الإصغاء ومتابعة رحلتي".
بعد أن تسلل أبو علي من تلك الفجوة في السياج الحدودي إلى مناطق نفوذ تنظيم الدولة، رأى مجموعة رجال بلحى طويلة يحملون أسلحتهم ويجلسون على كراسي بجانب أحد الأبنية. سأله أحدهم: "لماذا تركض؟" فأجاب: "أركض لكي أصل إليكم". وأشار إلى الحدود التركية، وإلى الحرس التركي والبوابة، فنظر إليه واحدٌ من أولئك الرجال وطلب منه الاسترخاء مدعياً أن حرس الحدود التركي أصدقاؤه.
لا بد أن وصول أبو علي إلى مقاتلي داعش بهذه الطريقة الغريبة أثار دهشتهم، فمعظم المهاجرين يعملون مع المهرّبين، ويتم نقلهم من مكان إلى آخر عبر شبكات سرّية. أما أبو علي، فقد أتى بمفرده وهو غير مستعد على الإطلاق، لكنهم رحبوا به بحرارة، وشعروا ببعضٍ السعادة عندما علموا أنه أردني.
قال لي أبو علي: "كانت المنطقة أشبه بمطار، فقد التقيت بأشخاص من الجنسية الأميركية والأنكليزية والفرنسية، وأشخاص من دول أخرى ولم يكن بينهم إلّا سوري واحد". طوال الأيام الخمسة التالية تحدّث من دون توقف مع وافدين آخرين باللغة الإنكليزية. قال لهم مسؤولون في تنظيم الدولة إنهم يتحققون من خلفياتهم. كان أمير الدولة الإسلامية في سوريا رجلاً قصيراً ودوداً، فقد ساقه في إحدى المعارك. أضاف أبو علي: "لم يكن لديهم مشكلة في أي طلبٍ أطلبه. فقد قلت لهم إنني لا أريد القتال، بل أريد العمل في وظيفةٍ إدارية فوافقوا على طلبي، لكنهم اشترطوا حضوري التدريبات العسكرية والدينية".
بعد خمسة أيام، طُلب من المجندين الجدد الاستعداد للمغادرة فركب أبو علي الحافلة مع 15 رجلاً واتجهوا إلى الرّقة عاصمة الدولة الإسلامية. أمضوا يوماً في تلك المنطقة ليتجهوا بعده غرباً في رحلة دامت لساعات، ووصلوا إلى منطقةٍ وعرة، فتسلّقوا سلسلة جبال تقع شرق مدينة حمص ودخلوا كهوفاً، قيل لهم إنه المكان الذي تعطى فيه دروس الشريعة.
وعلى مدار الأسبوعين التاليين، تم إيقاظ جميع الرجال عند الفجر ليؤدوا الصلاة ويقوموا بالتمارين الرياضية، قبل بدء دروس الشريعة. كانت الدروس بسيطة جداً وتركز في مجملها على الفرق بين المسلمين وغير المسلمين، والمتطلبات لمحاربة الكفار والمرتدين. كان بعض المقاتلين أميين وبعضهم الآخر لا يتكلم العربية.
في إحدى الليالي قال الأمير المسؤول عن حصص التدريب إن اليوم سيتم تقديم مادة جديدة لهم، وبعد أن جلسوا جميعهم على أرض الكهف، قام الأمير بتشغيل مقطع فيديو يظهر رجلاً عربياً يرتدي بزة برتقالية ومحتجزاً داخل قفص. أظهر الفيديو ألسنة لهبٍ تقترب من القفص، وتلتهم ذلك الرجل. كان طياراً أردنياً يدعى معاز الكساسبة، قبض عليه بعد تحطم طائرته. جذبت طريقة إعدامه الغريبة انظار العالم بأسره، واعتبر بعض المجاهدين أنها طريقةٌ غير أخلاقية للإعدام. ذهل الرجال في الكهف مما رأوه ولكنهم التزموا الصمت. وقف الأمير وقال إن الطيّار ألقى القنابل على المسلمين، وإعدامه حرقاً كان مجرّد قصاص يستند إلى الشريعة الإسلامية.
شعر أبو علي أن الأعين تحدّق به، فقد كان الأردني الوحيد هناك، والجميع يعلم ذلك، لكنه لم يتفوّه بكلمة، غير أن الخوف الناتج عما رآه في ذلك الفيديو كان واضحاً على وجهه. نظر الأمير إليه أيضاً ومن ثم تمتم وضحك بسخرية. علم أبو علي وهو صغير أن الحرق في الإسلام حرام. شعر بالسوء جراء ما شاهده فوقف لدقيقة، وقال: "ليساعدني الرّب". وعلى الفور قام اثنان من حرّاس الدولة الإسلامية بإمساكه من يديه واقتادوه إلى خارج الكهف، ليتبعه الأمير بعد فترةٍ وجيزة. جلس الأمير إلى جانب أبو علي على صخرةٍ وسأله لماذا قال ما قاله. هل يستنكر أبو علي ما قامت به "الدولة". فأجاب أبو علي بالنفي. قال ما قاله لأن بعض الأشخاص استفزوه. اقتنع الأمير بإجابة أبو علي، وقال له: "في بداية هذه الحصص كنت كافراً أما الآن فأنت تصبح مسلماً".
شعر أبو علي بارتياحٍ كبير، فقد نجا من العقاب، ولكن بدءًا من تلك اللحظة أخذ يشك في كل شيء. بعد نهاية دروس الشريعة التي استمرت أسبوعين، نقل معظم الرجال إلى سلسلةٍ أخرى من الكهوف الجبلية التي تقع على بعد بضعة أميال للقيام بالتمارين العسكرية. اتبعوا النظام عينه فقد استيقظوا باكراً لتأدية الصلاة، وقاموا بتمارين على السلاح. كان عليهم الركض لمسافات طويلة ولكن أبو علي المدخن، كان يجلس على صخرةٍ عندما يشعر بالتعب، ليصرخ أحد المدرّبين في وجهه ويجبره على الوقوف فيقول له أبو علي: "إنني أقوم بالأعمال الإدارية، أنا لست هنا للقتال". وسرعان ما اكتسب أبو علي سمعة المتقاعس.
وفي اليوم الأخير للتمارين القتالية، تم استدعاء جميع الرجال في الصباح، وطلب منهم أن يقسموا قسم الولاء. وبعد الانتهاء من هذا الواجب، جرى تقسيم الرجال إلى مجموعات. وقال لهم قائدٌ سوري إنّهم متجهون إلى القتال على الخطوط الأمامية في العراق، فقال أبو علي: "سيدي، لا أريد الذهاب إلى الجبهة. قالوا لي إنه بإمكاني القيام ببعض الأعمال الإدارية في الرّقة". فنظر إليه القائد وقال له: "لقد قمت بتأدية اليمين. لذلك عليك تلقي الأوامر وتنفيذها وإلّا فستواجه عقوبة الموت".
بعد بضعة أيام على انطلاق الرحلة وصل أبو علي إلى "الكرمة"، وهي بلدة تقع غرب بغداد بالقرب من الخطوط الأمامية للقتال. تم اقتياده و12 رجلًا إلى ضابطٍ سابق في الجيش العراقي يرتدي لباساً مدنياً. تمكن أبو علي والرجال من سماع صوت المقاتلات الحربية تمرّ من فوقهم، كما اهتزت الأرض من تحتهم بين الحين والآخر جرّاء القصف. أشار القائد العسكري إلى ساترٍ ترابي يقع على بعد 350 متراً وقال: "الجيش العراقي خلف هذا الساتر وعليكم السيطرة على تلك المنطقة مع حلول الصباح". فقال أبو علي: "كيف لنا أن نسيطر على هذا الساتر؟ إننا فقط 12 رجلًا في مواجهة الجيش العراقي". فنظر إليه القائد مستغرباً مما قاله، فذلك يعد خرقاً للأعراف وأجابه: "إن الله معكم وسوف تكونون من المنتصرين". بعد ساعات قليلة قدم لهم شرحاً مفصّلاً عن العملية. سوف يشنون هجوماً عند الساعة الثالثة صباحاً. اقترح قائد المجموعة وهو عراقي الجنسية أن يرتدي أبو علي حزاماً ناسفاً، فرفض أبو علي قائلاً: "ولماذا لا ترتديه أنت؟ أنت تريد الجنّة أكثر منّي". فطلب منه أن يطلق النار من "الدوشكا"، وهو سلاحٌ روسي متوسط، فأجاب أبو علي قائلًا إنّه لا يعلم كيفية استخدام هذا السلاح، فاقترب رجل آخر منهما، وقال إنّه يعلم كيفية استخدام الدوشكا، فأوكلت إلى أبو علي المهمة الإسعافية.
في صباح اليوم الثالث، قام أبو علي وصديقه الجديد ويدعى أبو حسن بالتوجه إلى مقر العمليات والتقيا بالقائد العراقي، وقالا له: "لا نريد القتال فأنتم تتركون رجالكم المصابين وجثث القتلى في أرض المعركة، كما أن الرسول محمداً لم يكن ليرغم الرجال على القتال"، فقرر القائد إرسالهما إلى منطقةٍ أقل خطورة نسبياً.
علم أبو علي أن رفضه للقتال قد يعرضه للخطر، ولكن البديل عن الرفض كان الموت المحتّم. توقع أن تتم معاقبته ولكن لحسن حظه وجد نفسه منسياً. بعد بضعة أيام مرّ مقاتلٌ كردي بجانب المنزل الذي مكث فيه أبو علي وأبو حسن، ورآهما يشاهدان التلفاز، فنهرهما ووعداه بعدم القيام بذلك مجدداً. لكن بعد أن غادر أعادا تشغيل التلفاز. وفجأةً فتح الباب ليظهر المقاتل الكردي نفسه ويطلق النار على التلفاز، ما دفع الرجلين إلى القفز إلى الخلف لتجنب حطام التلفاز المتطاير في الغرفة، وصرخا قائلين: "يا رجل نحن إخوتك لقد ارتكبنا معصيةً ولن نعيد الكرّة". نظر إليهما المقاتل الكردي ثم غادر المنزل.
في اليوم التالي، نقل أبو علي إلى منزلٍ آخر يعج بالرجال في الفلوجة، ليفاجأ بسماع صوت أنثيين تضحكان في غرفةٍ مجاورة، فقال له مقاتلٌ إن هاتين الفتاتين من الأيزيديات تم إلقاء القبض عليهما في شمال العراق قبل 8 أشهر، عندما سيطر التنظيم على المنطقة. وأضاف المقاتل أن الفتاتين تبلغان من العمر 13 و14 عاماً، وتم تقديمهما إلى حاكم الفلوجة، الذي لم يكن يريدهما، لذلك تم الاحتفاظ بهما في ذاك المنزل. سمع أبو علي عن الأيزيديات اللواتي يتم بيعهن كالعبيد لممارسة الجنس معهن إلا أنه لم يلتق بهن مسبقاً.
كانت تلك "الصبايا" كما يطلق عليهن مقاتلو داعش، يقدمن للضباط الذين يقاتلون بشراسةٍ على الجبهات. استمر أبو علي بسماع ضحكات الفتاتين على مدار الساعة، ليسمع بعد ذلك بكائهما. اعتقد أنهما تبكيان لأنهما تفتقدان عائلاتهما. في ذلك اليوم نشب خلافٌ بين الرجال في المنزل، الذي هو فيه، فجميعهم أرادوا "الصبايا"، وفجأةً دخل رجلٌ إلى المنزل وسأل أين "الصبايا"، فأشار أحدهم إلى غرفة. توجه ذلك الرجل إلى تلك الغرفة من دون التفوه بكلمة، ثم سُمع صوت إطلاق نار. خرج الرجل من الغرفة، فسأله أبو علي: ما الذي فعلته؟ فأجاب أن الفتاتين تتسببان بالمشاكل بين المقاتلين، لذلك قام بحل المشكلة وخرج من المنزل.
بعد أسبوعين على وصوله إلى ذلك المنزل في الفلّوجة، نقل أبو علي والعديد من الرجال بواسطة حافلة إلى سوريا. ظن معظمهم أنهم سيتلقون العقاب، وعندما وصلوا إلى الرقة، قادهم عناصر الدولة الإسلامية إلى ملعب كرة قدم يعرف باسم النقطة 11، وهو سجن لداعش ومركز أمني. اُخذت البنادق من الرجال جميعهم، واحتجزوا في غرف للملابس مدة يومٍ كامل. لاحقاً نُقلوا إلى مركز اعتقال آخر. ظنوا جميعهم أنهم سيعدمون هناك، لكن لحسن حظهم وصل رجلٌ في اليوم التالي وقال: "إخوتي، لا تقولوا إنكم لا تريدون القتال، بل قولوا إنكم تفضلون القتال في سوريا. سوف تحظون بفرصةٍ أخرى".
بعد ثلاثة أسابيع في النقطة 11، نقل أبو علي إلى منطقة قتال لا تبعد كثيراً عن حلب. اقترب كثيراً من الخطوط الأمامية، حيث تمكن من سماع صوت المقاتلات الحربية، والشعور بالأرض تهتز تحت قدميه جرّاء القصف. كان الأمر أشبه بما اختبره في العراق. سأل قائده الجديد: "لماذا عليّ القتال؟ لقد قالوا لي إنه يمكنني استلام وظيفة إدارية. أنا لست شاباً مثلكم، أنا في الـ38 من العمر وركبتاي تؤلماني. لا أستطيع الركض". تمنى أبو علي أن يصيبه طلقٌ ناري في يده ليتمكن من العمل في وظيفة إدارية والابتعاد عن القتال.
في اليوم التالي تذرع أبو علي بأنه اعتاد شرب الخمر، قبل الانضمام إلى الدولة الإسلامية، ما سبب له مرضاً في الأعصاب. جميع القادة الذين تكلم معهم علموا أنه يكذب، لكنهم سئموا التعامل معه. قام قائدٌ تونسي بإعطائه مستنداً يعفيه من القتال بسبب مرض يعاني منه.
بعد بضعة أيام وصل أبو علي إلى منزلٍ في مدينة منبج، التي لا تبعد كثيراً عن الجبهة. كان هناك بجانب المنزل مقهى، ولحسن حظه استطاع الدخول إلى شبكة الإنترنت، ثم تلقى رسالةً على هاتفه من زوجته السابقة، تقول: "إذا كنت تحب شيئاً ما دعه يذهب فإن لم يعد فهو لم يكن ملكك أبداً وإن عاد فهو ملكك للأبد". بعد قراءة الرسالة تردد أبو علي قبل الإجابة واهتاجت عواطفه. تلقى رسالةً أخرى تقول فيها: "ما الأمر؟ ألا تتذكرني؟" فأجاب: "كلا لا بد أنك تتكلمين مع الشخص الخطأ". لكن بعد بضع ثوان أخذ يراسلها ويطمئن على حالها، ويعتذر عما اقترفه من خطأ. يقول لي أبو علي وهو يتذكر تلك اللحظة: "في اللحظة التي رأيت فيها تلك الرسالة بدأت أشعر بالكراهية تجاه كل شخص التقيته هنا. شعرت بأنني مغفل وبدأت أفكر في ما فعلته لنفسي". حينها قرر أن عليه الخروج من هذه الدوامة. سمع إشاعة مفادها أن أحد زملائه في معركة العراق فرّ إلى تركيا، فأرسل إليه رسالة عبر "الواتساب"، فأجاب أنه في اسطنبول وأعطاه رقم شخص يمكنه مساعدته على الهرب. راسل أبو علي ذلك الرجل، فأجابه أن عليه انتظار التعليمات. وبعد يومين راسله الرجل، وطلب منه الذهاب إلى الرّقة. ركب أبو علي حافلةٍ مدنية في صباح اليوم التالي، وارتدى عباءةً أفغانية ليظهر كأنه أحد مقاتلي الدولة الإسلامية ليجنب نفسه المتاعب.
بعد أن وصل إلى الرّقة، مكث في مقهى للانترنت لساعات. لم يكن يعلم ما الذي عليه أن يفعله إذا ما بقي هناك طوال الليل. وأخيراً وصلته رسالة تطلب منه الذهاب إلى تلّ الأبيض على الفور. ثم وصلته رسالة أخرى تحمل إسم مقهى للإنترنت وتوقيتًا محددًا. وصل إلى تل الأبيض الساعة التاسعة مساءً، ووجد المقهى، فدخل إليه وانتظر الرسالة التالية. وبينما هو ينظر من حوله علم أن جميع من هم في المقهى ينتمون إلى تنظيم الدولة الإسلامية. شعر بالخوف وحاول تجنب النظر إلى الموجودين، لكن أحدهم نظر إليه نظرة ارتياب. إنها الساعة الحادية عشرة ليلاً، وقريباً سيقفل المقهى أبوابه.
وأخيراً توقفت دراجتان ناريتان في الخارج، وناداه أحدهم: "أبو علي، الطعام جاهز ونعتذر عن التأخير". نهض من مكانه، واستعد للمغادرة، فسأله ذلك الرجل الذي كان ينظر إليه: "من أين أنت؟" فأجابه أبو علي بلكنةٍ حلبية: "عذراً لقد تأخرت عليّ الذهاب". غادر أبو علي المقهى وركب إحدى الدراجتين. وفي اليوم التالي، وبعد ليلةٍ قضاها من دون نوم في منزلٍ مجاور، رافقه الرجل الذي اصطحبه من المقهى إلى منطقةٍ حدودية نائية. كان منقذاه الشابان نفسهما اللذان استقبلاه بعد عبوره المنطقة الحدودية باتجاه سوريا في تلك الليلة من مارس 2015. قضى أبو علي ثلاثة أشهر تحت حمايتهما في شقةٍ مستأجرةٍ تقع قرب الحدود.
بعد بضعة أسابيع اُعطي أبو علي الإذن بركوب الحافلة متجهاً شمالاً إلى أنطاليا، وهناك انتظر حتى الثالثة فجراً واتجه إلى منزلٍ حيث كانت زوجته وعائلتها تعيش. وعندما وصل إلى أسفل شرفتها أخذ هاتفه وأرسل لها رسالةً يخبرها فيها أنّه هنا. بعد دقائقٍ التقى بزوجته وتعانقا لفترةٍ طويلة. اتجها معاً إلى حديقةٍ عامّة قريبة وجلسا على مقعد وتحدّثا لساعة. وأخيرًا قالت له إنّها تسامحه شرط أن لا يرتكب أي حماقة مجدداً. ومع اقتراب الفجر مشيا باتجاه المنزل، ووعدته أنها ستقنع شقيقيها بالسماح لهما بالزواج مرة أخرى. قبلها قبلة أخيرة ودخلت المنزل.
نسخة مترجمة عن المقال الذي نشر على موقع صحيفة The Guardian تحت عنوان The reluctant jihadi: How one recruit lost faith in Isis لـRobert F. Worth.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...