سقط زعماء، هرب زعماء، قُتل زعماء. عاد بعضهم بوجوه مختلفة وتغير آخرون، كل ذلك على وقع انفجار اجتماعي - مطلبي، بدأ في العام 2011، وتحول لاحقاً إلى اقتتال أهلي وطائفي. وسط هذا المشهد، غابت أخبار الأموال العربية المجمدة والضائعة في الغرب. في أحسن الأحوال، أطلت هذه الأخبار خجولة لتتحدث عن "نصر" محقق في هذا الملف. ويبقى الأصح أن استرداد أموال الزعماء، التي جمدتها الدول الغربية إثر سقوطهم أو في مرحلة الحرب عليهم، يبقى عقدة شائكة، دونها مهمات مستعصية وطمع غربي على عدة مستويات.
يمكن أن نبدأ بـ"النصر" الحديث الذي تحقق في تونس، فلعلّ ذلك مفتاح لخطوات قادمة، تمد العالم العربي بأموال هو في أمس الحاجة إليها. أموال الشعوب التي تفنّن الحكام في سرقتها. حدث ذلك بموازاة انعقاد المؤتمر الدولي حول "منظومة استرجاع الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة في تونس"، بحضور السفراء العرب وممثلين عن منظمات إقليمية وعالمية، وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي ومعهد الأمم المتحدة لبحوث الجريمة والعدالة.
في الملتقى، أعلنت سفيرة سويسرا في تونس ريتا آدام عن إرجاع بلدها مبلغ 500 ألف دينار (حوالي 237 ألف دولار) من أصل 126 مليون دينار تونسي (حوالي 60 مليون دولار)، كانت على ذمة سفيان بن علي (شقيق الرئيس المخلوع). وأعلنت السفيرة أن هذا المبلغ سيُنزل في صندوق خاص بالأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة، يتم تخصيصه لتنمية المناطق المهمشة.
في سياق متصل، أعلنت فرنسا عن دراستها إرسال الملفات البنكية الخاصة بأفراد عائلة بن علي والطرابلسي إلى تونس، لأول مرة منذ الثورة، في مقابل قرار تونس إنشاء "صندوق خاص بالأموال المسترجعة ومكاسب التصرف بالأموال المصادرة" (اسمه N72)، يكون مستقلاً عن موازنة الدولة وتعود مداخيله للتنمية والمناطق المهمشة. ولأن الخوف هو على مصير الأموال في حال استرجاعها (وهي إحدى الحجج التي تتمسك بها الدول المُجمِّدة لتأخير رد الأموال)، فقد تعهدت تونس إشراك المجتمع المدني في التصرف بالصندوق، والانفتاح على الجمعيات غير الرسمية العاملة في المجال، ضماناً للشفافية وتفعيل أساليب الضغط.
طمأنت تونس المجتمع الدولي، وحققت بعض التقدم، لكن طريق استرداد الأموال لا يزال طويلاً. البعض انتقد المبلغ الضئيل الذي عاد، باعتبار أن استرجاع المبلغ كاملاً يستلزم قروناً والبعض الآخر شكك في تلاعب فرنسا بالملفات التي أرسلتها. أياً يكن، يبدو ضرورياً هنا استعادة كل العراقيل التي تواجه ملفاً مماثلاً، سواء في تونس أو مصر أو ليبيا أو سوريا وغيرها من الدول.
تتمثل العقبة الأولى في حصر هذه الأموال، فهي ليست منقولة فحسب، بل تتوزع بين عقارات واستثمارات ويخوت وحسابات وهمية. أما إذا حُصرت هذه الأموال وأُشهر تجميدها، فتطلّ العقبة الأخرى متمثلة بضرورة إثبات عدم شرعية هذه الأموال، في مهمة تُعدّ صعبة في ظل انعدام المستندات أحياناً وغياب الشفافية أحياناً أخرى.
اللافت هنا أن الدول الغربية التي تفرض قوانينها إثبات المتابعين عدم شرعية أموال الزعماء كشرط لاستردادها، هي نفسها تسارع بمجرد إعلان الثورة إلى التجميد. تفسّر حكومات هذه الدول الخطوة في إطار دعم الشعوب ضد طغاتها، لكن الأمر يبدو أبعد من ذلك لدى معرفة أن المصارف التي تُجمّد الأموال تتصرف بها إقراضاً واستثماراً مما يعزز ربحيتها ويزيد من رخائها ونموها، لا سيما أن الأموال المجمدة، سواء خلال الربيع العربي أو قبله من إيران والعراق وغيرهما، هي أموال طائلة جداً. وبينما تعمل المصارف على استثمار الأموال والإفادة منها، فإن الأموال المجمدة تبقى ثابتة، وتحتسب عليها فائدة بسيطة لا مركبة، بمعنى أن الأموال المتراكمة تتآكل قيمتها بمرور الزمن.
بالعودة إلى العقبات، نستعيد هنا تحقيقاً للكاتب الأمريكي روبرت وورث الذي لفت فيه إلى الجهود التي تمارسها الأسر الحاكمة، عبر محامين محنكين من أجل التصدي لاستعادة الأموال المجمدة. ويذكر التحقيق الذي أنجز في العام 2012، ما قاله المحامي السويسري إنريكو مونفريني، الذي كان يمثل الحكومة التونسية الجديدة، عن تصدي أسرة بن علي القوي لكل جهد مبذول لأجل استعادة الـ70 مليون دولار من المصارف السويسرية. وبذلك تقول الأسر الحاكمة: "قد لا نحصل على الأموال، لكن لن يحصل عليها من تولى الحكم بعد سقوطنا".
وهكذا يختصر المحقق في مكافحة الفساد روبرت بالمر صعوبة الأمر بضرورة إيجاد الأرصدة، ثم الإثبات بأنها تعود إلى سياسي معيّن (لا الاسم الوهمي)، ثم إثبات أنها أموال غير شرعية. مع العلم أن البند الأخير يقتضي أدلة موثقة، وهذه عملية تستغرق الكثير من الجهد والمال والوقت.
وفي العقبات أيضاً، يظهر خوف من كانوا محيطين بالعائلات الحاكمة ولديهم معلومات مهمة. هؤلاء يفضلون الصمت حفاظاً على حياتهم، ففضح الصفقات المشبوهة التي كانت تتم في عهدهم، يعرّض حياتهم للخطر، كما حصل مع وزير النفط الليبي السابق الذي وُجد جثة هامدة في نهر بعد أيام قليلة على تلقيه طلباً للحصول على معلومات بشأن صفقات نفط مشبوهة، ومع بشير صالح بشير، المسؤول الوحيد الذي عُرف بأنه مطلع على مصير المليارات السبعة التي استثمرها القذافي في أفريقيا، وعلى صفقات القذافي مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. لقد اختفى بشير في فرنسا من دون أثر.
ولا بد من الإشارة إلى توطين بعض الدول الأفريقية أموالاً مجمدة لديها، وامتناع أو تحايل بعضها عن التعاون مع فريق الأمم المتحدة الذي أرسل للتحقيق في هذا الإطار.
ومن العقبات أيضاً، ثمة ما هو متعلق بطبيعة وآليات عمل العصابات التي كانت تدير عمليات الفساد الكبرى في البلاد وخارجها، وبالتحالفات الإقليمية والشراكة مع بعض دول الخليج للأنظمة السابقة، وثمة ما يرتبط بطبيعة النظام القضائي الدولي والاتفاقات الموقعة لمكافحة الفساد. تُضاف هنا العقبة المرتبطة بطبيعة الأنظمة التي تسلمت الحكم وتطالب بالأموال المجمدة وحجم الفساد الذي لا يزال ينخرها، عدا النظام القانوني الداخلي في البلاد التي تطالب بالأموال بما يتعلق بقوانين الضرائب والجمارك وغيرها.
يطول الكلام عن العقبات لتشابكها المخيف، بين داخلي وخارجي، فيما تبدو الآليات المطروحة للعلاج مقصّرة على صعيدَيْ الشكل والتنفيذ. وتبقى الأموال المسروقة مجمدة خوفاً من إعادة سرقتها لاحقاً، في دائرة مفرغة تدور سريعاً، قد يبطئها أحياناً "إنجاز" كالذي سجلته تونس، لكنه لا يوقفها أقلّه في الأمد المنظور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين