"كيف تحملت أربع سنوات ونصف السنة من الخطف والتعذيب؟"، قد يبدو هذا السؤال، بما تحمله الإجابة عنه من نصائح جسدية ونفسية، ضرورياً لكل واحد يعيش في هذه المنطقة من العالم. خطر الخطف يتربّص بكثيرين، لا سيما على يد الجماعات المسلحة. نعم، حينذاك لا يفيد كلام كثير أمام الخوف ومعاناة التعذيب والمستقبل المجهول، لكن تجربة شهباز تاسير، الشاب الباكستاني، الذي خطف في لاهور العام 2011 على يد "الحركة الإسلامية في أوزبكستان" (جماعة عُرفت في أوساط الميليشيات بأنها لا ترحم) ثم تحرره بعد حوالي 5 سنوات، تُعدّ ملهمة في هذا الإطار.
في أغسطس 2011، وفي يوم عادي ومشمس، كان تاسير يقود سيارته على الطريق المعتاد، متوجهاً إلى عمله. اعترض خمسة ملثمين مسلحين طريقه، وتحت تهديد السلاح وتأثير المخدر اختطف نجل حاكم ولاية بنجاب سلمان تاسير، الذي كان قد اغتيل قبل سبعة أشهر من ذلك اليوم، بسبب انتقاده قانون "التجديف" الذي يعاقب مهين الإسلام بالإعدام.
لا تفاصيل كثيرة عن عملية الخطف وظروفها، لأسباب أمنية، لكن ذلك لا يبدو جوهرياً أمام طرق التعذيب التي قاسى منها تاسير، والنصائح التي قدمها لاحقاً للمواجهة والصمود. نصائح مهمة على قاعدة "إسأل مخطوفاً سابقاً، ولا تسأل منظري المكاتب والتحليل الإستراتيجي"، ففي عتمة الظلم وتحت وطأة العذاب، يغيب كل ما في الرأس من اعتبارات سياسية وإستراتيجية، وتحضر التفاصيل النفسية/ العاطفية التي يلعب عليها الخاطف، ولا بدّ للمخطوف أن يواجهها.
بقي تاسير أسير الحركة في أوزبكستان، إلى أن اندلعت المعارك بينها وبين حركة طالبان الأفغانية حول مسألة الخلافة للبغدادي، وهي معارك استمرت ثلاثة أيام وأريق فيها الكثير من الدماء. هرب تاسير في الجبال ثم وقع أسيراً بيد "طالبان" التي حكمت عليه بالسجن. وقد تنقل خلال اعتقاله بين أماكن عدة في وزيرستان وأفغانستان. هرب لاحقاً بمساعدة عناصر من "طالبان" وسافر على دراجة نارية لثمانية أيام عائداً إلى أسرته في العام الماضي.
أما لماذا انتظر تاسير حتى اليوم للظهور أمام الإعلام العالمي، فلأن شفاءه استغرق عاماً كاملاً بعدما تعرّض لمختلف صنوف التعذيب من الجلد ونزع الأظافر وإطلاق النار والتجويع والتعريض للسعات النحل والدفن تحت الأرض وتركه مصاباً بالملاريا من دون علاج. يقول تاسير في مقابلته الأولى مع الإعلامية كريستيان أمانبور على قناة "سي أن أن"، شارحاً معاناته "لقد اقتلعوا أظافري، وبدأوا جلدي بالسياط، ففي أول يوم 100 جلدة، ثم ارتفع العدد إلى 200، وحفروا ظهري بالسكاكين ورشوا الملح داخل الجروح. وأغلقوا فمي بغرز الخياطة وجوعوني، وقطعوا أجزاء من لحم ظهري، وتركوني أنزف 7 أيام من دون دواء".
ويضيف "خلال فترة الأسر، صور عناصر الميليشيا لقطات عن عذابي ليصنعوا مقاطع فيديو على غرار أفلام "هوليوود" لإرسالها إلى العائلة والحكومة، للضغط طلباً للفدية".
وفي مقال لصحيفة "نيويورك تايمز" تحت عنوان "كيف صمدت خلال أربع سنوات ونصف السنة من الخطف؟"، كتب تاسير عن كيفية تخطيه يوميات الاعتقال. يقول "من السهل على المرء أن ييأس، لكنني استندت إلى إيماني والقرآن وذكرى والدي الشجاع وحب عائلتي".
مع بدء التعذيب، كان تاسير يفكر غالباً بوالده الذي عاش تجربة مماثلة في الثمانينات، وكان يقول له "التعذيب الجسدي يطال السطح فقط، لا تدعه يتسلّل ليكسر روحك"، وقد استحضر في احدى المرات مع سجانيه قولاً لوالده كان قد أرسله لوالدته خلال اعتقاله وفيه "نحن لسنا من نوع الخشب الذي يحترق بسهولة". وقد جعله ذلك يشعر براحة تامة.
يشرح تاسير أنه كان من الصعب تحديد ما هو أقسى: هل هو الوجع الجسدي أم الألاعيب النفسية التي كان يمارسها الخاطفون لغسل دماغه؟ يقول "كانوا يعرضون عليّ ما يكتب على تويتر ليقنعوني أنني قد دخلت دائرة النسيان. كانوا يخبرونني كم سهل عليهم أن يستهدفوا والدتي عبر تفاصيل وصور في حوذتهم، ويتباهوا بهشاشة عائلتي".
ويتذكر تفاصيل أخرى "عرضوا عليّ صورة زوجتي خلال تأديتها مراسم الحج معلقين بأنها منافقة في تقواها. وشاركوني تغريدة لشقيقتي عن نلسون مانديلا وكيف أنها تظهر الولاء لكافر. وصورة لشقيقي في إحدى المناسبات الاجتماعية وكيف يظهر فساد عائلتي. لكن كل هذا الضغط أمدني بمفعول قوة عكسي. علمت أن عائلتي بخير، وهي، كما الكثير حول العالم، تفكر بي وتصلي من أجل تحريري".
يعترف تاسير في مقاله بأن الحبس الانفرادي والوحدة والشك والاكتئاب، عوامل تؤثر بشكل غريب على الذهن. حينذاك يبدأ المرء بالتساؤل حول سلامة عقله. الوجوه التي يحبها المرء تبدأ بالضمور في الظلام، والأصوات التي يحفظها تبدأ بالتلاشي. لكن "للذاكرة قواها السحرية أيضاً"، يعلق تاسير، مضيفاً "قد لا أستطيع الذهاب إلى المنزل لكن بإمكاني أن أحضره إلى هنا. كنت أمرّن عقلي على زيارة أماكن محببة أحفظها من الماضي. يومياً كنت أستحضر وجوه أصدقائي الواحد تلو الآخر". وما ساعد تاسير أيضاً هو أنه كان يتخيل نفسه كوميدياً على مسرح، يقدم "ستاند آب كوميدي" حول عادات رفاقه المضحكة.
في مقابلة أخرى له مع قناة "بي بي سي" البريطانية يقول تاسير بأنه مدين كذلك في تحدي ظلمة السجن لفريق "مانشيستر يونايتد" الذي يشجعه.
كان أحد سجّانيه من "طالبان" مشجّعاً للفريق في السرّ، فذلك يعتبر من الخطايا لدى الحركة. يوضح أنهما لم يصبحا صديقين، لكن تشجيع الفريق جمعهما مع المذياع سراً للاستماع إلى المباريات. كان ذلك صلته إلى العالم الخارجي. كان محرّماً وخطراً الاحتفال علناً بأهداف الفريق، والصراخ فرحاً كما يفعل المشجعون عادة، لكن الفرحة كانت تكفي تاسير، كما يقول. حينذاك كان يفكر أنه "المشجع الوحيد لـ"مانشستر يونايتد" في هذه الوضعية"، مقتنعاً أن فريقه المحبب "يلعب من أجله وينتصر من أجله".
في إحدى تغريداته على تويتر، يقول تاسير إن المتابعة الإعلامية لقصته أبقته "عاقلاً"، وإن صوت والدته كان يشجعه على تحمل المعاناة. لا يفكر بالمستقبل كثيراً، فهو ولد من جديد ويريد الاستمتاع بكل تفصيل مع العائلة والأصدقاء.
#SuperMoms pic.twitter.com/9UlyW7xgQR
— Shahbaz Taseer (@ShahbazTaseer) May 14, 2016
When a mother found alive her child after many years No word to describe the feelings God bless you #AliHaiderGilani pic.twitter.com/zYy1w8j8aD — Shahzad Shafi (@shahzadShafi007) May 11, 2016وفي نصيحة أخيرة يقول تاسير "لا أحد يمكنه سجنك باستثناء عقلك. قد ينجح الخاطفون بجعل حياتي لا تحتمل، ولكن ما دمت أحتفظ بصحة عقلي كنت أنجح في البقاء حراً". الله كان معه أيضاً، هكذا يقول، فهو أنقذه من الحرب وضربات القذائف، ومن المرض والعذاب الجسدي والنفسي، ومن القتل خلال رحلة الهرب. نعم المعجزات تتحقق، إنها قصة مخطوف كان خيار حياته صعباً وموته سهلاً، وقد اختار الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...