لماذا صار تنظيم داعش عنواناً للهمجية مع أننا إذا قارنّا عدد ضحاياه بعدد ضحايا الأنظمة العربية نجد أنه قتل بضعة آلاف بينما الأخيرة قتلت مئات الآلاف؟
هذا التساؤل يُطرح بشكل خاص في ظل حقيقة أن النظام السوري قتل أكثر مما قتله داعش بأضعاف مضاعفة. ولعلّ الطائرات الروسية قتلت أكثر مما قتله هذا التنظيم خلال الفترة التي عملت فيها. ولكن داعش أكثر همجية. لماذا؟
الخوف من الموت
قد تُجيب عن هذا السؤال حقيقة أن الحضارة لا تهتمّ فقط بسقوط ضحية لكي تتخذ موقفاً من فعل القتل، بل هي أيضاً تهتم بطبيعة فعل القتل نفسه أكثر بكثير مما تهتم بفكرة سقوط الضحية.
ففي أساس الحضارة أنها قنّنت الموت غير الطبيعي ووضعت له ضوابط تجاوزها ممنوع. فالعقاب بالموت بموجب القوانين الوضعية أمرٌ طبيعي جداً بينما جريمة القتل أمرٌ غير طبيعي، وإن كانت الضحية قد قُتلت لقيامها بفعل كانت المحكمة ستحكم بإعدامها بسببه لو عُرضت القضية أمامها.
لقد أعطت الحضارة في أدبياتها للنفس البشرية قيمة كبيرة، وهذا ناتج عن قلقها الدائم من الموت، وبشكل أساسي من الموت قبل الأوان، وهذا هاجس لازم البشرية عبر التاريخ.
للموت أشكال
للموت أشكال عدة. الموت الذي يقع ضمن الإطار القانوني يجد أساسه في تفويض الناس للسلطة مهمّة قمع غرائزهم لكي لا تنفلت الأمور ويردهم ذلك إلى مرحلة الهمجية. لذلك فإن القتل من خارج النسق القانوني هو تعدٍّ على السلطة التي تفرض ضوابط الحضارة.
لم تصل البشرية بعد إلى مرحلة منع القتل بشكل مطلق. علاقات القوة بين الشعوب وداخل المجتمعات لا يمكن أن تعبّر عن نفسها بدون موت بعض المعترضين. ومن هنا كانت فكرة التمييز بين فعل قتل وآخر بحسب طريقة القتل.
القتل الأكثر مقبولية هو ذاك الذي ليس متاحاً للجميع. إنه القتل بواسطة التقنيات غير المعمّمة. يثير القتل بواسطة طائرة مقاتلة الامتعاض أقل مما يثيره القتل بواسطة دبابة. والقتل بواسطة دبابة يثير الامتعاض أقل من القتل بواسطة رشاش حربي. والقتل بواسطة رشاش حربي قد يكون ألطف من القتل بواسطة المسدّس. ونصل إلى أن القتل بالسلاح الحديث أقل إثارة للاستنكار من القتل بواسطة سكّين لأن الوسيلة الأخيرة معمّمة ويمكن للجميع استخدامها.
فكرة تقنية القتل، والتمييز بين تقنية وأخرى بحسب سهولة الحصول عليها، مرتبطة بفكرة أخرى، وهي المسافة بين القاتل والضحية. البشر المتحضّرون يرفضون القتل عن قرب أكثر بكثير مما يرفضون القتل عن بعد. وكلما كانت الضحية غير مرئية كان قتلها أقرب إلى العادية.
لنضرب هنا مثلين. الأول هو فيديوهات الصواريخ الروسية العابرة للقارات التي صُوّرت فوق سوريا. عندما شاهدناها، كان الإعجاب بهذه التقنية المتطوّرة أو الخوف منها أولى الأفكار التي تبادرت إلى ذهننا. لم يخطر لنا أن هذه الصواريخ سقطت على مكان فيه بشر وأنتجت مشهداً يشبه ذلك الذي نراه حين تصل إلينا صور تفجير سيارة مفخخة.
والمثل الثاني هو الفيديوهات المصوّرة من قمرة قيادة الطائرات الحربية الأميركية التي صوّرت كيف "تتصيّد" مجموعات من الإرهابيين. هذه الفيديوهات بالأبيض والأسود لم تُثر فينا أيّة مشاعر. القتلى كانوا بعيدين ولم نرَهم بوضوح ولم نرَ لون دمهم الأحمر القاني، ما يعني أننا لم نستطع في تفكيرنا أن نضع أنفسنا مكانهم، ولذلك لم تتحرّك فينا أيّة مشاعر، وكل ما تبادر إلى ذهننا هو حقيقة إعجابنا بهذه التقنية الخاصة وغير المعمّمة وتقتل عن بعد.
الإعجاب بالتقنية التي تقتل من دون أن نرى الضحية كان قد شهدها العالم أثناء حرب الخليج الثانية ثم أثناء الغزو الأميركي للعراق. احتلت التقنية المشهد وابتعدت الكاميرات عن مكان الحدث الحقيقي وهو الأرض حيث يسقط قتلى وتسيل دماؤهم.
الآن... داعش
وحده داعش هو الهمجي لأن هذا التنظيم أولاً يخرق فكرة تفويض صلاحية القمع إلى السلطة وهو أساس الحضارة. وثانياً، يستخدم في عمليات قتله تقنيات متاحة للجميع، وثالثاً، يلتحم عناصره بالضحية حين يمارسون جرائمهم.
والالتحام بالضحية هي الفكرة المركزية التي تدفع الجميع إلى كره داعش، فهذا التنظيم في فكرنا هو القاتل الملتحم بضحيته. فمثلاً هو يمتلك دبابات وأسلحة نارية مختلفة ويستخدمها، وهو بالتأكيد لم يتمدّد ويسيطر على أراضٍ شاسعة بالسكّين أو بالسيف. ولكن حين نتحدث عنه لا نفكر في ضحايا مدفعية دباباته بل نفكر بسكينه وبسيفه حصراً.
داعش هو إعلان التراجع عن الهدف الذي تبتغي الحضارة الوصول إليه، ولهذا نكرهه
كل فيديو لجريمة من جرائم داعش يسمح لنا بتخيّل أنفسنا مكان الضحية ولهذا نحن نكره هذا التنظيم. فهو نقيض للحضارة ويعيدنا إلى مرحلة الهمجية حين كان أيٌّ كان قادراً على قتل أيٍ كان. وعنصر التنظيم حين يقتل يقترب من الضحية ويتلمّسها ويشتمّ رائحتها، ما يعني أنه لا يُنكر رغبته في قتلها، بعكس قائد الطائرة الذي يمكن أن يتحدث عن موت غير مقصود للمدنيين. والأنكى أن داعش لا يحاول إخفاء لا جرائمه ولا رغبته في القتل. هو قاتل وقح يحرص على التسويق لغرائزيته.
داعش هو تجسيد حيّ لما تنكره الحضارة عن نفسها. هو يشبهها نوعاً ما ولكنّه نقيضها لأنّه لا ينضوي تحت خطابها الإنساني الداعي إلى تقنين القتل ووضع ضوابط له. ولهذا هو وحده مَن يوصَف بالهمجية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 20 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت