شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
لبنان من العيادة النفسية، إليكم التشخيص

لبنان من العيادة النفسية، إليكم التشخيص

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 11 أغسطس 201604:25 م
"أعضائي تتصارع في ما بينها، وتتسبب لي بألم وعدم استقرار، أشعر أنني مهزوم ومسلوب القرار، الكل يريدون أن ينهشوا قطعة مني، معتبرين أن في ذلك خيراً لي!". قرر لبنان زيارة المعالج النفسي، لعله يبني له تشخيصاً دقيقاً ويرشده في أزمته النفسية، التي تطول منذ عقودٍ طويلة. إليكم التشخيص.

في السياسة: لبنان "مراهق أبدي"

لبنان بلا رئيس. منذ مايو 2014 يتصارع اللبنانيون ومن يمثلهم على أي رئيس يريدون. كل طرف يريده بمقاس وهوية مختلفة بحسب انتمائه وطائفته، وبالطبع الكل يرى في خياره "الخير" للبنان. ضاعت الهوية، ساد الفراغ، وما زال كل طرف متمسكاً بمبادئه وأفكاره المتوارثة. ففي غياب الأب، تسود الفوضى في البيت ويصبح كل شيء مباحاً، فلا رقابة ولا محاسبة ولا عقاب. يمكن اعتبار هذا البلد كمراهق يعبث في غياب أبيه بلا قيود. في كتابه "الشعب المراهق"، أظهر الباحث الاجتماعي ميشال فيزي، أن الهوة الفكرية والعاطفية بين المراهق والراشد كبرت بشكل ملحوظ منذ 20 عاماً حتى اليوم، ما جعل فرص الحوار والتلاقي تتلاشى على حساب المناكفات والخلافات، فيخلق المراهق عالماً خاصاً به متميزاً بكل خصائصه. يتكلم لغته الخاصة، يختار نشاطاته، مبادئه، ثقافته، وذوقه في الأكل والملبس والموسيقى، وحتى الممارسات الدينية. ويبتعد عن كل ما له صلة بالبيت، بقوانينه وواجباته، فيصبح رمي النفايات على الطريق وعدم احترام القوانين العامة مسموحين. يحتاج المراهق في هذه المرحلة إلى الشعور بالتبعية، بعيداً عن محيطه العائلي الضيق، للتعويض عن غياب الأب. وهي ميزة المجتمع اللبناني، الذي تكثر فيه الأحزاب والمرجعيات السياسية والطائفية، كما الاجتماعية، والتي تستقطب عدداً كبيراً من المواطنين. فيكون الحزب بعقيدته العالم الأكبر والأوحد، فيذوب الشخص ويصبح غير قادر على أن يميز أو ينظر إلا من خلال عينيْ زعيمه. يتميز المراهق أيضاً بعدم قبول التغيير. فهو يفضل التمسك بالمبادئ التي تبعها، وترسخت في ذهنه حتى ما عاد يدرك إذا كانت تمثله أو تشبهه فعلاً، لكنه غير قادر على نقضها أو خلق مبادئه الخاصة التي تساهم في تطوره. هذا حال المجتمع اللبناني، الذي منذ نشأت الجمهورية اللبنانية، انقسم فئات دينية، مناطقية وطائفية، كونت أحزاباً ومرجعيات، ما زالت منذ سنة 1943 حتى اليوم، تتكرر وتمتد بأفكارها انطلاقاً من مبدأ الوراثة السياسية. نستحضر هنا مبدأ التماثل مع المعتدي Stockholm Syndrome، الذي يفسره علم النفس التحليلي على أنه حالة نفسية تقود الضحية إلى التمسك بالجلاد، والتمثل به حتى يتملكها شعور بالثقة أو العاطفة تجاهه، فتصبح مدمنة عليه. هذا يؤدي بالشخص غالباً إلى "المراهقة الأبدية"، فتجعله غير قادر على تحمل المسؤولية والاستقرار. يلجأ إلى حلول عشوائية ويغلب غرائزه على المنطق، فيصبح عالقاً في دوامة كبيرة تودي به إلى الكآبة. ما يفسر الارتفاع الملحوظ في استهلاك مهدئات الأعصاب، إذ باعت الصيدليات في لبنان 13 مليوناً و600 ألف علبة دواء مهدئ للأعصاب، علماً أن 47% من الشعب اللبناني يعاني من حالة اكتئاب عصبي.

في الدين: "تنافس الإخوة"

"تنافس الإخوة" Sibling rivalry مصطلح استعمله دافيد ليفي، الاختصاصي في علم النفس عام 1941، لشرح أسباب الغيرة والتنافس بين أبناء البيت الواحد حول الأفضلية. يشكو لبنان من تنازع أبنائه عليه، فالجميع يريد كسب وده واهتمامه، ويكمن اختلافهم حول الدين وتقاسم الحصص والمناصب، حسب الفئات الدينية في بلد تعتبر التعددية فيه ميزة بين بلاد الشرق الأوسط. لكن الواقع الحالي لهذا التنافس لا يسهم في إغناء الشخص فكرياً واجتماعياً، بل يجعله متقوقعاً داخل حجرته الصغيرة. تماماً كالمراهق الذي يشعر بالغيرة من أخيه، فيبحث عن أي وسيلة لدفعه إلى الفشل أو وضعه في موقع عقاب أو تأنيب فيظفر هو بمحبة الأهل ورضاهم. أو يلجأ إلى التقوقع ويرفض أن يلعب مع أخيه وأن يشاركه أشياءه الخاصة. الباحث النفسي ألفرد أدلر يفسر هذه المنافسة برغبة في "إثبات الذات"، وهي مرحلة مهمة في حياة كل شخص لتكوين شخصيته، وتعلم كيفية التعاطي مع الآخر المختلف، لكنها يجب أن لا تطول كي لا تخلق عداءً يصعب تخطيه.

في التعليم: يحكم "اللاوعي الجماعي"

أين مدارس لبنان من مبادئ المواطنة والانتماء للدولة؟ وهل تساهم فعلاً في إنشاء مواطن مسؤول، أو أنها تستنسخ الجيل السابق؟ يحتوي لبنان أكبر عدد من المدارس الموزعة في جميع المناطق اللبنانية، بين رسمية وخاصة، وأقساط معدلها 4600$ سنوياً. هل يكفي هذا ليصبح التلميذ مواطناً قادراً على الاستثمار والعمل داخل وطنه والتمتع بحقوقه المدنية وقبول الآخر؟ هذا الأمر غير مضمون. فالنظام التربوي أيضاً لم يتطور، وبالرغم من أن المدارس الخاصة تستقبل التلاميذ من مختلف الطوائف والانتماءات، فإن هذه المشاركة الشكلية مشوشة بحالة الانفصام الذي يعيشه المجتمع اللبناني. ولم تمنع النفوس من التمسك بأفكار بالية، ما يفسره المحلل النفسي غوستاف يونغ بـ"اللاوعي الجماعي" Collective Unconsciousness أو الأفكار المتوارثة، والعابرة للأجيال، والتي تجعل الشخص يردد عادات ومبادئ أسلافه. يترجم ذلك عملياً بعاملين أساسيين: الأول اعتماد أساليب قديمة في التعليم، والثاني التركيز في المناهج التربوية على تنشئة جيل من "العباقرة"، فيتم التشديد على إغراق ذهن التلميذ بالحساب واللغات وعلوم الحياة، في غياب مواد أساسية تعتمدها مجتمعات متطورة، حيث التنشئة المدنية وإرشاد الفرد على كيفية اختيار المهنة التي تناسبه، وأصول احترام القوانين والتوعية الجنسية والتوعية البيئية ومواد أخرى. ينتقل الطالب اللبناني بعدها إلى الجامعة، التي لا تختلف حالاً، وبعدها إلى مجال العمل، الذي يعاني أزمة متخرجين. فوصلت نسبة البطالة عند الشباب إلى 34%، ما يدفعهم إلى الهجرة للعمل في الخارج.

في العائلة: بين الوقاية المفرطة والتخلي عن الدور

تتخبط العائلة اللبنانية بين مفاهيم قديمة تقوم على الذكورية والتسلط، يكون فيها للأب السلطة المطلقة، والأم "ست بيت"، تسهر على راحة الزوج، وتأمين حاجات الأولاد الأساسية، من دون أي دور مؤثر. وأخرى حديثة يكون للمرأة فيها دور، فهي تعمل وتحقق ذاتها وتقاسم الرجل مسؤوليات الحياة والقرار كما السلطة على الأولاد. هذا نظرياً. أما في الواقع، فإن بيوت اللبنانيين تعج بالعاملات الأجنبيات، اللواتي يأتين بهدف المساعدة في الأعمال المنزلية، لكن سرعان ما يجدن أنفسهن مربيات لأطفال ليسوا من صلبهن. طبيب الأطفال والاختصاصي في التحليل النفسي دونالد وينيكوت، درس العلاقة البدائية بين الأم والطفل، منطلقاً من مبدأ "حضور الأم المعتدل". فهو إن زاد أصبح الطفل اتكالياً ولم يعد يشعر بالمسؤولية تجاه أي شيء. وإن قل يشكل نقصاً عاطفياً فتصبح علاقته بالآخر محكومة بالشك والخوف.

في المجتمع: "مثلث دراماتيكي"

ضحية أو مخلص أو جلاد؟ بحسب الاختصاصي في علم النفس ستيفن كاربمين، يمر الـ"أنا" الإنساني بتلك المراحل الثلاث. فإما ينجح في توازنها ودمجها، أو تتأرجح في شخصيته وتحكم علاقاته بالعالم الخارجي، فيرى نفسه ضحية والآخر جلاداً أو مخلصاً. وبهذا يرفع عنه كل مسؤولية، سواء في الشعور أو التصرف، وأنه مغلوب على أمره. هل يمكن اعتبار المواطن اللبناني مسؤولاً عما آلت إليه الأمور في لبنان، أو هو ضحية؟ وهل من مخلص في نظره سوى الزعيم؟ يعتبر الكثيرون أن هذا البلد الصغير يتأثر بالتجاذبات التي تحصل في دول مجاورة، والدول الكبرى. وأنه لطالما كان ضحية يدفع ثمن حروب الآخرين الجلادين على أرضه. ولكن هذا لا يعفي المواطن من تحمل مسؤولياته، واستثمار طاقته لمساعدة لبنان على تخطي أزمته النفسية، وإلا فستطول زياراته إلى العيادة النفسية لأجل غير معروف.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image