يبدو أن السلطة في مصر تتجه إلى مزيد من التعتيم على المعلومات. فبعد إصدار المجلس الأعلى للقضاء، في 25 يونيو 2014، قراراً حذّر فيه القضاة وأعضاء النيابة العامة المصرية من التدوين على المواقع الإلكترونية، أصدر النائب العام، المستشار نبيل صادق، منذ أيام قليلة، كتاباً دورياً حمل الرقم 6 لسنة 2016، وفيه حذّر أعضاء النيابة العامة من التدوين على وسائل التواصل الاجتماعي في شأن الأحداث الجارية، وكذلك من الإدلاء بأيّ تصريح لأي وسيلة إعلامية بخصوص القضايا التي يتولون فيها التحقيقات.
وأضاف الخطاب الصادر عن إدارة التفتيش القضائي والمعمم على جميع النيابات في المحافظات المصرية: "تلاحظ في الآونة الأخيرة قيام بعض من أعضاء النيابة العامة بالتدوين على المواقع الإلكترونية في شأن بعض الأحداث الجارية في البلاد التي تتسم بالطابع السياسي بالمخالفة لما توجبه التعليمات القضائية من عدم الجهر بالآراء السياسية أو التعليق عليها".
ونبّه الخطاب أعضاء النيابة العامة والسلطة القضائية إلى عدم قبول طلبات الصداقة التى ترد إليهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو التطبيقات الإلكترونية، إلا بعد التحقق من شخصية الطالب لضمان عدم مخالطة من هم "ليسوا فوق مستوى الشبهات".
كذلك طلب منهم عدم الظهور العلني في وسائل الإعلام، وعدم إجراء المداخلات في البرامج المسموعة أو المرئية.
تفسير القرار من وجهة نظر القضاء
وتفسيراً لهذا القرار، أوضح المستشار رفعت السيد، رئيس محكمة جنايات القاهرة الأسبق، أن القرار جاء متوافقاً مع ما نص عليه قانون السلطة القضائية "حيث أن الأصل في تحقيقات النيابة هى السرية وليس إفشاء المعلومات، وحيث أن النيابة العامة تُعتبر أمينة على الدعوى العمومية، وبالتالي لا يجوز التحدث في أي قضية سواء عن طريق الإعلام المرئي أو المسموع أو المقروء". وأضاف أنه لا يجوز لوكيل النيابة أن يعقّب على الأحداث الجارية حتى لا يفقد حياديته ونزاهته، لأنه قد يأتي يوم ويحقق في قضية كان قد أدلى فيها برأي سياسي من قبل، فيصبح حينها غير مؤهل ولا جدير بالتحقيق فيها، وهو ما يعرضه للرد أو الاستبعاد إذا ما ثبت أنه له عقيدة تجاه قضية ما ينظر فيها. وتابع أن هذا القرار هو نوع من التنظيم الداخلي يجريه النائب العام لما له من سلطة رئاسية على جميع الوكلاء العموم في أنحاء الجمهورية، مشيراً إلى أن وكلاء النيابة لا يمكنهم أن يتضرروا من القرار لأن وكيل النيابة مقيّد بأعمال وظيفته، ولا بد أن يوافق عمله القانون، وبالتالي لا يصح أن يبدي رأياً يمكن أن يكون سبباً لرده او استبعاده في ما بعد، كما لا يصح أن يخالف قرارات النائب العام. وحول إلزامية القرار، أكد رئيس الجنايات الأسبق أن الأصل في جميع الكتب الدورية هو التوجيه وليس الإلزام، لكن في ما يتعلق بهذا القرار فإنه ملزم لأنه إذا جرت مخالفته من قبل أي عضو نيابة يمكن أن يحاسَب على ذلك تأديبياً، خاصة إذا كان من شأن ما قاله أن يثير بلبلة لدى الجمهور. وأبدى السيد معارضته لبعض ما جاء بمضمون القرار، وأكد أن هناك تزيّداً فيما يتعلق باشتراط عدم إبداء الإعجاب بصفحة أو بخبر ما، ورأى أن أعضاء النيابة العامة يجب أن لا يعلقوا على أحداث جارية، لكن يمكنهم إبداء الإعجاب فقط بضغط زر "لايك" على حد تعبيره. وأشار إلى أن جميع وكلاء النائب العام يعملون لدى النائب لعام ومن خلاله، وبالتالي يجب أن يطيعوا أوامره ويتجنبوا نواهيه، تطبيقاً لمبدأ التدرج الرئاسي، موضحاً أن وكيل النيابة يمكن أن يلغي قراره رئيس النيابة ثم المحامي العام وصولاً إلى النائب العام، أعلى سلطة إدارية في النيابة العامة وقراراته سارية على جميع الأعضاء لأنه على قمة هرم السلطة.خلط كثير في القرار؟
واختلف قاض في مجلس الدولة، تحفظ على نشر اسمه، مع رأي السيد، وأوضح أن هنالك الكثير من الخلط في ما يتعلق بفكرة الظهور الإعلامي والاشتغال بالسياسة، إذ إن الاشتغال بالسياسة محظور على جميع القضاء وأعضاء النيابة العامة، معتبراً أن ذلك يعني عدم الانضمام إلى أحزاب أو الجهر بآراء سياسية تناصر فصيلاً سياسياً ضد فصيل آخر، مما يؤثر على حيادية القاضي وتجرده، ويوقعه تحت طائلة القانون لمخالفته أحكام قانون السلطة القضائية. ولكن، برأيه، هذا يختلف تماماً عن فكرة الظهور الإعلامي للقضاة وأعضاء النيابة العامة للتحدث في الشؤون القانونية البحتة دون التطرق للسياسية. وأبان أن المادة 73 من قانون السلطة القضائية حددت المقصود بحظر اشتغال القضاة بالسياسة، بما يعني عدم جواز الترشح لانتخابات مجلس الشعب أو الانتماء للأحزاب السياسية إلا بعد تقديم الاستقالة من العمل القضائي، مشيراً إلى أن صدور فتوى من قسم الفتوى والتشريع في مجلس الدولة حملت الرقم 351 لسنة 4 قضائية، حددت أن المقصود بالحظر هو الاشتغال بالسياسة تنظيمياً وليس مجرد التحدث في وسائل الإعلام عن قضايا قانونية بحتة. وتأسيساً على ذلك، اعتبر أن حظر الحديث لوسائل الإعلام يُعتبر توسّعاً في تفسير المادة 73، وهذا ما يؤدي إلى عزل القاضى وعضو النيابة تماماً عن الشعب، وهو ما يعدّ فصلاً بين مختلف فئات الشعب. ورأى المحامي طارق العوضي أن التعليق على فيسبوك يُعتبر اشتغالاً بالسياسة. وذكّر بعزل قضاة من مناصبهم بسبب الإدلاء بآراء سياسية على فيسبوك أو الجهر برأي سياسي معيّن مثلما حدث مع قضاة "بيان رابعة العدوية" وما يسمى بحركة "قضاة من أجل مصر" والذين أحيلوا على المعاش على خلفية تصريحهم بآراء سياسية تناصر فصيلاً ضد فصيل آخر وهو ما يتنافى مع حيادية وتجرد القاضي. وأشار العوضي إلى أن القرار لا يخالف القانون أو الدستور لأنه من حق مجلس القضاء الأعلى وإدارة التفتيش القضائي إصدار التعليمات إلى مرؤوسيهم بعدم الحديث في القضايا المنظورة لديهم، لأن وكيل النيابة العامة محظور عليه الكشف عن القضايا التي يحقق فيها طبقاً لقانون السلطة القضائية. وأضاف أنه من المفترض أن تتوافر بدائل للإفصاح عن المعلومات بطرق أخرى، كأن يُخوّل قلم جدول المحكمة بالإفصاح عن تفاصيل أي قضية في جميع المراحل. ولفت إلى أنه على النيابة العامة أن تصدر بيانات توضيحية للإفصاح عن المعلومات الخاصة بالقضايا المثارة والمطروحة على الرأي العام وعدم كتمان تلك القضايا حتى لا تزيد الشائعات وتكثر الأقاويل المغلوطة، مما يعرّض الجمهور والرأي العام لحالة من التشويش في حالة انعدام توافر المعلومات الصحيحة والموثقة.منع "السياسة الإلكترونية"
تطورت طرق إسكات الآراء المعارضة داخل الأسرة القضائية، في محاولة لعزل هذه الفئة عن الشعب. فقد قرر المستشار محفوظ صابر، وزير العدل، في أبريل 2015، إحالة قاض ووكيليْ نيابة إلى مجلس الصلاحية والتأديب بسبب الاشتغال بالسياسة، إلكترونياً، عبر الكتابة على صفحاتهم الشخصية على فيسبوك. وجرى التحقيق مع المستشار مدحت الملط، رئيس محكمة المنصورة الابتدائية، من قبل إدارة التفتيش القضائي، وأُدين بتهمة أن كتاباته على فيسبوك هي ضد الدولة وتسيء إلى الهيئة القضائية. وأُحيل محمد السبروت وكيل النائب العام للصلاحية بسبب ما أُسند إليه من اشتغاله بالسياسية وانضمامه إلى حركة 6 أبريل. وجرت مواجهته بمحضر تحريات للأمن الوطني وبصور شخصية له مع أعضاء في الحركة، فضلاً عن كتاباته السياسية عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقد أوقف عن العمل. وأُسندت اتهامات إلى محمد شعبان، وكيل نيابة البداري بأسيوط، تتعلق بتعبيره عن رأي منحاز لفصيل سياسي عبر صفحته الشخصية على فيسبوك. هل من حق القاضى إبداء رأيه أم لا؟ على هذا السؤال، انقسمت الآراء إلى فريقين، الأول يرى أن التوسع في حظر الحديث بالسياسة يكفله قانون السلطة القضائية، والثاني يرى أنه يجب إتاحة الحديث في السياسة والأحداث الجارية أمام القضاة وأعضاء النيابة، على أساس أنهم جزء من المواطنين في النهاية. بينما يرى عدد من المراقبين والباحثين القانونيين أن الفريقين على خطأ ويحتاج كلاهما إلى مزيد من التدقيق. برأي هؤلاء، إن فصل القضاة تماماً عن الشعب غير جائز ويعرض الرأى العام لانتشار الشائعات والمعلومات المغلوطة، ويحجب المعرفة القانونية عن الشعب. وفي الوقت عينه، يقولون إن التوسع في إبداء الرأي السياسي أو التعليق على الأحداث العامة يمكن أن يحدث نوعاً من الإغراق في العمل السياسي المحظور على القضاة إذ يفترض فيهم الحياد والنزاهة. ويخلصون إلى أنه يجب تعديل التشريعات بقانون السلطة القضائية المرتقب تعديله، لضمان الاستقلالية عن السلطة التنفيذية والأنظمة السياسية التي تسعى دوماً إلى اختراق القضاء والسيطرة عليه لاعتباره من الأعمدة الرئيسية لقيام الدولة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...