يتابع مركز الصورة المعاصرة مشروعه "لو لم يكن هذا الجدار"، عبر فصل عن المرض النفسي. كان الفصل الأول حول السجن ورسائله. بينما يطرح الفصل الجديد "مزمن Chronic"، تساؤلات عن الفروق بين العاقل والمريض النفسي، بل عن معنى أن تكون عاقلاً من الأساس. تتنوع أنشطة مزمن بين الفيديو، والقراءات، وعروض الأفلام، مثل "جبر الخواطر" (عاطف الطيب، 1998)، لفتح نقاش حول تناول الفن والدراما للتعب النفسي، والعزلة، والجنون. ستستمر هذه الأنشطة حتى 4 يونيو المقبل، إذ لم يعلن عن بعضها حتى الآن.
تتراص على الجدران صفحات من حجم A5. تتنوع أحجام خطوط الكلمات المطبوعة في تنسيق بصري يهدف لشد الانتباه لنص دون آخر. كتبت هذه النصوص في القاهرة عام 2016، وهي نتاج ورش عمل شاركت فيها مجموعات مجهولة من الشباب والشابات، نظمتها مجموعة اختيار النسوية. تحمل النصوص عنوان "خوارج العباسية"، من دون كشف كتّابها السريين. يحيل الاسم لمَن خرجوا من مستشفى الأمراض النفسية في الحي القاهري (العباسية)، وإن كان ذلك يتلاقى مع مقر الورشة في الحي نفسه.
يركز أحد النصوص على خوف كاتبه/كاتبته من الأسلحة الموجهة للمارة في الشارع حيث تتمركز قوات الحراسة الخاصة بتأمين حماية منشآت سفارات أجنبية. يرصد النص حالة الخوف من رصاصة طائشة تطلق نحو المارة. كما يتناول نص آخر خطر الاعتقال، مفترضاً أن هذا الاحتمال بات قريباً، أكثر مما يخيل للطبيب النفسي.
طبعت هذه النصوص في مطوية شكلها أقرب إلى تابلويد، وعنوانها: "كل ذلك يشعرني بالإهانة". تعبر هذه النصوص عن مشاعر خارج دائرة المجال العام، مثل الشعور بالإهانة أو الضعف. ربما لم تكن هذه الكتابات/المشاعر لتخرج إلى العلن لولا هذه السرية.
سنوات العزل
تعلن الشابة الإيطالية ليا في ليلة باردة من نوفمبر عام 1977، رفضها لسياسات العزل داخل المؤسسات العلاجية في بلادها. في شريط أبيض وأسود تتحدث طالبة الطب النفسي بشكل عفوي خلال جلسات/وقفات "مؤتمر الصوت الآخر لمكافحة الطب النفسي"، التي سجلها المخرج الإيطالي ألبرتو جريفي. ونشهد مداخلات حادة ضد سياسات العزل، مع تقديم المرض النفسي بوصفه نتيجة لعنف المجتمع ضد أفراده.كان المؤتمر قائماً لمواجهة مؤتمر آخر نظم في مدينة باريرا، حيث وقف معارضو المؤتمر الرسمي ضد تحدث الأطباء بدلاً من المرضى عن أوجاعهم. لم يسمح للمعارضين بدخول المؤتمر الرسمي، فنظموا مؤتمراً آخر ليتحدثوا ضد مؤسسات الطب النفسي. يلتقط جريفي تفاصيل الحدث الفوضوي، مؤكداً أن هذه الأمراض ليست بالأمر الخطير. وتتحدث ليا عن كونها لا تختلف كثيراً عن المرضى، إلا في إمكانية خروجها عبر أسوار المستشفى، وأخذ الكتب معها إلى بيتها، بينما لا يسمح للمرضى بذلك. كما تختم حديثها بالدفاع عن حقهم في دخول الحمام مرة كل يوم من دون إهانة. تقدم دورا جارثيا، سيرة الطبيب النفسي الإيطالي فرانكو بازاليا عبر "الأغلبية المنحرفة" (فيديو، 2011). وضع بازاليا مصطلح الطب النفسي الديمقراطي، وانتهت هذه التجارب إلى إغلاق مؤسسات الصحة العقلية والنفسية في إيطاليا، وتحولها إلى شكل تعاوني بين الأطباء والمرضى السابقين، والسعي إلى دعم الممارسات البديلة، من دون أن يكون هناك عزل للمرضى. تتقاطع هذه السيرة مع تجارب حديثة في هذا المجال، مثل تجربة فرقة "كل من على المسرح مجنون"، في ريو دي جانيرو في البرازيل لدعم المرضى النفسيين.تغيير معاصر
تتداخل بسلاسة خيوط الحكايات، بين سيطرة مؤسسات اجتماعية، وما يعكسه الخروج عنها كأحد الأعراض المعبرة عن الجنون، من خلال فيديو لمحمد شوقي. يبرز المشروع، الذي لم يكتمل بعد، أن السيطرة تعد مرادفاً للجنون. خلال 15 دقيقة يكشف شوقي جنون المؤسسات، تحت العنوان الغامض لمشروع فيلمه: كومبوس مينتيس. كما تحضر بقوة مقاطع من شريط صوت الفيلم المصري بئر الحرمان (كمال الشيخ، 1969)، خصوصاً جلسة تجمع الطبيب النفسي (محمود المليجي) مع المريضة (سعاد حسني). كذلك نشاهد مدربة للأسود تروض أسداً، بينما تتحرك هي والوحش المروض داخل قفص كبير. نلمح صوراً تروي للمشاهد حكاية نزهة إلى حديقة الحيوان. تقبع الحيوانات داخل الأقفاص، لنكون أمام تنويع أخير حول فكرة العزل، ثم تتوالى صور عائلية، لتتداخل مع عمادة الأطفال داخل الكنيسة الأرثوذكسية المصرية المتزامنة مع بكاء الرضع، لنعود مجدداً إلى صوت جلسة العلاج. ويقدم أوريال أورلو عملاً آخر غير مكتمل عن دير ياسين، وهول مذبحتها عام 1948، ومستشفى كفر شاؤول للأمراض النفسية، التي تأسست على أنقاض هذه القرية الفلسطينية عام 1951. لم يكتمل مشروع أورلو، فقدّمه في "مزمن" مفككاً. نسمع التسجيل الصوتي لراوٍ مجهول، يحكي عن نشأة المستشفى وتاريخها، خلال رحلة طويلة. يحضر الجانب البصري في هذا العمل المفكك عبر عرض صور فوتوغرافية أو مطبوعة لفضاء هذه المؤسسة العلاجية، وقصص مصورة أعدها تلاميذ دار الطفل العربي لرعاية الأيتام في القدس. كانت القصة المصورة مشروعاً لإعداد عمل عن تاريخ هذه الدار، برؤية روادها من الأطفال. يتمثل الجزء الأخير في تقارير طبية لحالات ضحايا تعذيب أحد مراكز الدعم النفسي في رام الله لعلاج ضحايا السجن وصدمات أخرى مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي. يقف خلف "مزمن" جهد كبير بذله المنظمون، بالتعاون بين مركز الصورة المعاصرة، وكل من المركز الثقافي الإيطالي والمؤسسة الثقافية السويسرية، ومؤسسات فنية أخرى، لفتح نقاش جديد حول التعب النفسي عبر الفن المعاصر.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...