ربما تسمعون تلك الجملة من الوالدة، ترددها كل ما رأتكم تتلذذون بتدخين سيجارة مع فنجان قهوة في الصباح. وربما لا تأبهون لذلك التعليق، الذي يخرج من فم امرأة لم تعد تنتمي لجماعة "الكول" من مجتمعنا بنظركم. ولكن يبدو أن أهلنا على حق، والدراسات تؤكد ذلك. فتدخين السجائر ينتمي لذوي التعليم المحدود، وللعاطلين عن العمل، وذوي الدخل المنخفض، الذين يشكلون الهدف الأول للشركات التسويقية للتبغ، وأنت وأنا لم نعد كول البتة، كما زلنا نعتبر أنفسنا.
السيجارة أيام الخمسينات كانت ترمز للثقافة والحرية والثراء والشهرة والتطور. كانت ترمز لـJames Dean وAudrey Hepburn، ورشدي أباظة وفريد شوقي. للأنوثة القصوى، والرجولة الحقيقية، لهوليوود، للثوار، للشغوفين، لنخبة المجتمع. كانت نسبة المدخنين في الدول الصناعية تتعدى الـ50% من السكان، وفي بريطانيا، 80% دخنوا السجائر. أما في دول أوروبا الشرقية ومنطقة الشرق الأوسط والأقصى، فتبنّى الشباب موضة السيجارة ببساطة لتذوق طعم الغرب وشفتي مارلين مونرو.
حتى الدراسات العلمية التي أخذت تتكاثر منددةً بمخاطر الدخان على الصحة الشخصية والصحة العامة، لم تتمكن من إطفاء لهيب السيجارة المدفئ للأحاسيس. إلى أن ربحت Diane Castano عام 1994، التي توفي زوجها من سرطان الرئة، الدعوة القضائية التي رفعتها ضد شركة التبغ الأميركية، في إحدى أكبر الدعاوى التي شهدها التاريخ. حسناً، لا تغضبوا على دايان لأنه بسببها بدأت إمبراطورية التبغ بالانهيار، دولةٍ تلو أخرى، من خلال حظر التدخين في الأماكن العامة. ولأنه أيضاً بسببها، قد يصبح يوماً ما ممنوعاً عليك أن تدخن حتى في غرفتك، وأن تختبئ تحت لحافك لتأخذ "مجّة". بل علينا التفكير أنه بفضلها انخفضت نسبة المدخنين في العالم أجمع، وانخفضت نسبة المدخنين إلى أقل من ربع السكان في الولايات المتحدة، مناضلين كانوا هؤلاء أم مجرد حمقى.
رمز الإثارة الموهمة
نعم صورة الدخان الأبيض الرقيق الذي يتعالى من سيجارة مشتعلة بين شفتين حمراوين لامرأة جذابة بشعر أشقر، أو الدخان الكثيف الذي يحوم حول رجلٍ يساري الكسم، يخطط للثورة التي ستنقذ الشعب من ظلم الحكام، أصبحت في خبر كان. حتى لو بقيت محفورة في حقبات الخمسينات والستينات والثمانينات، كربما أفضل رمزٍ للإثارة اخترعه الإنسان.
فأنت وأنا اليوم ننتمي لفئة المهمشين من المجتمعات المتطورة، والهدف الأول والأخير لشركات التبغ، التي تضع كل إمكانياتها لتسويق سمومها في البلدان النامية ومجتمعات العالم الثالث.
في موضوعٍ لـLara Rutherford-Morrison على موقع bustle.com، تحاول الكاتبة تحديد هويات الأشخاص الذين ما زالوا يعتقدون أن التدخين هو نشاط اجتماعي "كول"، في وقتٍ تعتقد بقية المجتمع أنه مجرد غباء وغير مقبول اجتماعياً. ووزعت المدخنين على 8 فئات: المراهقين الذين تركوا المنزل العائلي للمرة الأولى للدراسة، والذين يدخنون السيجارة تلو الأخرى قبل دخول الصف، الكبار في السن، الذين ربما هم عالقون في حقبات القرن الماضي. الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم ثواراً ويتحدّون المجتمع بإشعال سيجارة في مكانٍ عام. الأفراد الذين يلعبون دور الأبطال والشخصيات المبدعة والشعراء والكتاب. الأشخاص الذين يريدون أن يبدوا كممثلٍ هولوودي قديم الطراز. الأشخاص الذين هم فعلاً كول، لكن ما زالوا يدخنون رغم أنهم يعرفون ويعترفون أن الأمر لم يعد "كول". مثلك ومثلي على الأرجح. هنا تتوقف الكاتبة عند فئتين مثيرتين للجدل، فئة الأشخاص ذوي التعليم المحدود، داعمةً فكرتها بدراسةٍ تقول إن 41% من الأفراد الذين يملكون شهادة اختبار تطوير التعليم العام يدخنون، بينما 5.1% من مالكي الشهادات العليا فقط يدخنون. والفئة الأخرى تنتمي لطبقة الفقراء، إذ 29% من الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة مدمنون على التبغ. بينما 16% من الذين يعيشون فوقه يدخنون، لأن الفقراء يلجأون للتدخين كحاجة وراحة ودعم في الأوقات العصيبة والمرهقة. وهذا أمرٌ يدفع شركات التبع العملاقة إلى استهدافهم بحملاتٍ إعلانية مكثفة، وبتقديم سجائر بأسعار منخفضة أكثر، وضرائب بالطبع منعدمة القيمة على قطاع التبغ.
أعطوا السجائر للفقراء!
لنتحدث بالأرقام: 2/5 من الرجال في الدول النامية ما زالوا يدخنون، أو يستخدمون التبغ. ومعدل النساء اللواتي يبدأن هواية التدخين في أعمارٍ مبكرة أخذ يرتفع، علماً أن تلك البلاد تملك نسبة منخفضة جداً ممن أقلعوا عن التدخين. وكأن الشعوب الفقيرة أو التي تعيش في ظروفٍ اقتصادية قاسية، لا تملك القدرة على التخطيط لمستقبلٍ أكثر ازدهاراً، أو حتى الحلم بالتمتع بمعاش تقاعد مقبول.
مليار فرد قد يفقدون حياتهم بسبب التدخين هذا القرن، معظمهم ينحدرون من بلاد العالم الثالث، ومن المجتمعات الفقيرة. الصين تضم 301 مليون مدخن، الهند 275 مليوناً، تليها بنغلادش، مكسيكو، الفيليبين، تايلاندا، تركيا، أوكرانيا، أوروغواي، والفييتنام. وإذا تعمقنا في هوية المدخنين داخل إحدى الدول المتقدمة، نلاحظ نموذجاً مصغراً لما تبدو عليه خريطة المدخنين حول العالم.
إذا أخذنا مثلاً المدخنين الفرنسيين، نلاحظ عدم مساواة اجتماعية فاضحة بلغة المدخنين. إذ أكدت دراسة أقامها المعهد الوطني للوقاية والتوعية الصحية Inpes، بعدما أخد عينة من 27000 فرد من المجتمع الفرنسي، أن الأشخاص الذين يملكون شهادات أعلى هم الأقل تدخيناً. وكمقارنة بالأرقام بين عامي 2005 - 2010، ارتفع عدد المدخنين الذين لا يملكون أي شهادة من 30% إلى 40% من فئتهم. بينما نسبة المدخنين الذين يملكون شهادات عالية انخفضت، من 24% إلى 23%. أما نسبة المدخنين العاطلين عن العمل فارتفعت من 44% إلى 51%، وأيضاً ارتفعت نسبة المدخنين من العمال ذوي الأجور المنخفضة من 44% إلى 47%. تقوم الدراسة حتى بربط زيادة نسبة استهلاك التبغ لدى الأشخاص ذوي الدخل المنخفض والعاطلين عن العمل، بالحملات المتزايدة ضد استهلاك التبغ، باعتبارها تحد من الحرية الفردية، وتدافع فقط عن حقوق غير المدخنين. ومع ارتفاع سعر علب الدخان، يرتفع طلب هؤلاء الأفراد عليها، فينتهي بهم الأمر بصرف قسم كبير من المدخول الشهري، إذا كانوا يملكون دخلاً، على شراء التبغ. رقمٌ آخر يدل على عدم وجود مساواة بين مختلف الطبقات الاجتماعية في استهلاك التبغ، أو عدم استخدام وسائل التوعية المناسبة، أو وجود أنظمة شيخوخة وصحة فعالة وعادلة لجميع الفئات. وكان 54% من الأولاد الآتين من بيئة فقيرة في المملكة المتحدة، عرضة لدخان التبغ في منازلهم. بينما النسبة في الفئات الثرية هي 18%.
لماذا فقط الأغنياء تخلوا عن التدخين؟
موقع Washington post اختصر أسباب تلك الظاهرة بـ3 نقاط بسيطة ومبسطة: أولاً الأفراد ذوو الدخل المحدود يأخذون نفخات أطول وأعمق من كل سيجارة، عن غيرهم من فئات المجتمع، ما يجعلهم أكثر إدماناً للتبغ، ويصعّب عليهم اتخاذ قرار التخلي عنه. النقطة الثانية ترد على السؤال من خلال فكرة أن الدخل يميل إلى التمييز بين الأفراد وفقاً لأماكن عملهم وعيشهم. فإذا كان طبيباً شاباً يدخن السجائر في وقت الراحة خارج المستشفى، فسيتلقى الانتقادات من زملائه والتشجيع على التوقف عنها. بينما ينال عامل التنظيف في إحدى المؤسسات الانتقادات المعاكسة من زملائه المدخنين إذا حاول التوقف عن التدخين. وسيشعر أنه خارج الحلقة الاجتماعية التي ينتمون إليها. والنقطة الأخيرة تتمحور حول أن أفراد الطبقة الوسطى لا يتلقون العلاج المناسب والفعال، والهادف للتوقف عن التدخين، ولا الرعاية من الأمراض العقلية كالاكتئاب وغيرها، وهذا ما يجعل قرار الإقلاع عن التدخين صعباً جداً.
إذاً الشرق الأوسط مدخنٌ كبير!
بالفعل. استهلاك التبغ هو مصدر قلق بحد ذاته في منطقة الشرق الأوسط، ودول عديدة منها قد تخطت الخط الأحمر. أكثر من نصف الرجال في الأردن (51%) يدخنون السجائر وغيرها من أدوات التبغ. بينما 8% من النساء مدمنات على الدخان، بمعدل 23 سيجارة يومياً للرجال مقابل 12 للنساء. والخطر الأكبر أن 20% من تلاميذ المدارس الذين تبلغ أعمارهم بين 13 و15 عاماً، مدخنون. 26.1% من الأطفال، تذوقوا سيجارتهم الأولى قبل بلوغ العاشرة. 67.9% من الأولاد المدخنين يشترون تبغهم بأنفسهم من المتاجر، رغم أنهم تحت السن. ننتقل إلى مصر، 43.6% من الرجال هم من المدمنين على التبغ، 4.8% من النساء يدخنن السجائر، معدل الأعمار لتناول السجائر الأولى هو 15 عاماً. وفي لبنان 52.6% من البالغين يستهلكون التبغ، 35% منهم نساء. في المغرب 30% من الرجال و10% من النساء. إيران تضم 24.8% من المدخنين الرجال، و4.7% نساء.
لا تعتقدوا أن النساء في الشرق الأوسط يمتنعن عن التدخين لأنهن ينتمين لفئات أكثر صحةً وعافية، بل لأن تقاليد لا تحبّذ رؤية امرأة مدخنة، في الشارع أو في العمل أو حتى إلى مائدة العائلة. ما يعني باللغة التسويقية أن المرأة العربية أو الشرق أوسطية هي الهدف الأهم في العالم لشركات التبغ المختلفة، لأن التقاليد في المنطقة تتغير الآن، والمرأة تميل أكثر من أي وقتٍ مضى للتحرر منها.
وقد شهد العالم الغربي على مدى 100 عام من التغييرات الاجتماعية السريعة التي تتعلق بالمرأة، وتخبرنا رمزية السيجارة بين اصابعها أو بين شفتيها عن تطور دورها في المجتمع. عام 1908 تم توقيف امرأة في الولايات المتحدة لأنها شوهدت وهي تدخن سيجارة علناً. قرنٌ على مرور تلك الحادثة، والمرأة في بعض البلدان العربية ما زالت تخضع للمصير نفسه، إذا حملت سيجارة بين شفتيها في الشارع، ما يجعلها 100 عام متأخرة بثقافة السيجارة عن غيرها من النساء. إذا لخصنا ذلك القرن من الحملات الترويجية للتبغ، التي استهدفت المرأة، نرى أن السيجارة انتقلت من يد امرأة لأخرى على مرور العقود كـ"شعلة الحرية"، وكأداة التحرر من المجتمع الذكوري. وكذلك كإثبات للذات وإعلان الاستقلال المادي، وعلامة للنجاح. 100 عام من تطور النظرة إلى المرأة المدخنة على أنها ساقطة أو بائعة جنس، مروراً بنظرة المرأة "أخت الرجال"، إلى نظرة جذابة للمرأة المدخنة حتى أواخر القرن الماضي، قبل أن تسقط في خانة الطبقات الاجتماعية الوسطى والمنحدرة أخيراً، لتتطور بالتأكيد إلى نظرةٍ مختلفة بعد مع مرور العقود. العالم وشركات التسويق بانتظار الموجة الثانية من وباء التبغ كما يسمونها، والتي ستصيب النساء في البلاد النامية، التي تشهد تغيرات اجتماعية هامة. إذ ستتضاعف نسبة استهلاك المرأة للتبغ 3 مرات حتى بلوغ عام 2025 لأن التبغ سيكون رمزاً لتحررها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع