في خطاب له في أبريل 1953، قال الرئيس الأميركي الأسبق دويت إيزنهاور "كل بندقية يتم صنعها، وكل سفينة حربية تُدشّن، وكل صاروخ يطلق، هو بمعناه النهائي سرقة من الجياع الذين يشتهون اللقمة، ومن المتجمدين برداً ولا ثوب يدفئ أجسادهم. عالم صناعة السلاح لا ينفق المال فقط. هو ينفق عرق عماله، وعبقرية علمائه، وآمال أطفاله… هذا ليس سبيلاً للحياة بالمعنى الحقيقي. وتحت غطاء التهديد العسكري، تُعلّق الإنسانية على صليب من الفولاذ".
"عرف العام 2014 أكبر عدد من الحروب، مقارنة بما شهده العالم منذ العام 2000"، بحسب تقرير المركز الدولي لأبحاث السلام في ستوكلهولم "سيبري". وتحتوي قاعدة بيانات المعهد على جميع البيانات الخاصة بعمليات تبادل الأسلحة الدولية (صفقات تجارية أو هدايا أو تراخيص إنتاج). وتشمل الأسلحة التقليدية الرئيسية للدول والمنظمات الدولية والجماعات المسلحة غير الرسمية، منذ عام 1950 حتى العام الماضي.
لا شيء إذاً يوحي بتراجع الإنفاق العسكري، بل على العكس. تضاعف نحو الثلث خلال عقد من الزمن، ليصبح نحو 1700 مليار دولار عام 2014. وفي الشرق الأوسط تضاعف نحو الثلثين.
الولايات المتحدة في الصدارة وروسيا ثانية
بعد أكثر من ستين عاماً على خطاب إيزنهاور، بقيت الولايات المتحدة في صدارة الدول في الإنفاق العسكري بنحو 609.9 مليار دولار عام 2014، فتشكل ربع الإنفاق العالمي وحدها. بينما تنفق 9 دول مجتمعة 683.3 مليار دولار، هي الصين (216.4) فرنسا (62.3)، بريطانيا (60.5) الهند (50)، ألمانيا (46.5)، اليابان (45.8)، السعودية (80.8)، روسيا (84.5)، وكوريا الجنوبية (36.7). أما بقية العالم فينفق 482.8 مليار دولار. كانت الصدارة في بيع الأسلحة للولايات المتحدة أيضاً، علماً أن مبيعات السلاح كانت الأعلى خلال السنوات الخمس الماضية، منذ انتهاء الحرب الباردة. وتغطي الولايات المتحدة 32.8% من السوق العالمية (بين عامي 2011 و2015)، وقد باعت أسلحتها لأكثر من 90 دولة، يشغل الشرق الأوسط نسبة 32% منها. تليها روسيا بـ25.3%. وفي المرتبة الثالثة تأتي الصين بنسبة 5.9%، علماً أنها كانت في المرتبة التاسعة عام 2005، ما يعني أنها زادت صادراتها بنسبة 143%، ثم تأتي فرنسا 5.6% وألمانيا بـ4.7%. وبحسب الدراسة، كان يفترض أن تحتل فرنسا المرتبة الثالثة بدل الصين، لو سلمت نهاية عام 2014 حاملة المروحيات من طراز "ميسترال" إلى روسيا، وهي صفقة جمدتها فرنسا على خلفية الأزمة الأوكرانية. أما الجهة الشارية، فتتصدر لائحتها الهند، تليها السعودية ثم الصين فالإمارات وأستراليا. وأظهرت دراسة سابقة صادرة عن شركة IHS للأبحاث، أن السعودية تقدمت على الهند وأصبحت أكبر مستورد للأسلحة في العالم عام 2014، ومشترياتها من الأسلحة خلال الفترة (2013- 2014) ارتفعت بنسبة 54%، ووفقاً للخطط المستقبلية، يتوقع أن تنمو مشترياتها عام 2015 بنسبة 52% إلى 9.8 مليار دولار. ومع ذلك، فإن القوى الصاعدة "قادرة على الاستجابة في العديد من القطاعات للطلبات العالمية، وعلى منافسة كبار الموردين الغربيين"، بحسب تقرير فرنسي عن تصدير السلاح بحسب "لوموند ديبلوماتيك". الصين باتت عنصراً جوهرياً في التصدير، واليابان وضعت حداً عام 2014 لقرار منع بيع السلاح إلى الخارج عام 1967. وتعمل كوريا الجنوبية على تنمية مصنعها العسكري. أما إسرائيل، والكلام للملحق الفرنسي، فهي قوة مهمة في مجال الطائرات من دون طيار والحرب الالكترونية. علماً أن إيران، التي عانت من العقوبات المفروضة عليها أكثر من ثلاثين عاماً، طورت ترسانة صناعية - عسكرية لا تحتاج سوى للانتقال إلى الخارج. والإمارات، التي تهتم بالانتقال إلى مرحلة ما بعد النفط، تطمح لتطوير قواعدها الصناعية والتكنولوجية في مجال الدفاع بالشراكة مع فرنسا والجزائر. إذا، ليست المنافسة وحدها التي تحتدم، بل بات الشارون يطلبون نقل تكنولوجيا السلاح إلى بلدانهم أيضاً. وهو حال أندونيسيا وتركيا مثلاً، فلا بد أن ينفذ نصف العقد مع الشركات المحلية. كما تفترض بعض العقود نقل الخبراء المختصين إلى البلد، حيث الشركات المحلية والتنفيذ على الأرض. وهذا يعزز مع الوقت خبرة القوى الصاعدة، ما يشكل خطراً تنافسياً، وتهديداً خطيراً للأسعار العالمية كما في الخليج والمغرب. وتحدث مقال نشرته "الغارديان" العام الماضي عن سباق تسلح خطير في الشرق الأوسط، سيكلف نحو 18 مليار دولار، ما يعني تزايداً في الخلافات والصراعات. وصراع التسليح بين الولايات المتحدة وروسيا انعكس سباقاً تمثل بامتلاك المقاتلات الجوية، والصواريخ والمركبات المدرعة، والطائرات من دون طيار والمروحيات. علماً أن أهم مزودي الأسلحة للمنطقة، بلدان كانت في صلب مبادرتين استثنائيتين للتحكم في الأسلحة حول العالم، وكانت من الدول الأولى التي وقعت الاتفاقيات الدولية.تشريعات من دون تطبيق
هنالك من يزعم أن قطاع تصنيع السلاح تقوده نقابات تدافع عن مصير الآلاف من الوظائف فيه، لكن النقابي الفرنسي إريك برون ينفي هذا بالقول: "إذا كان إنقاذ آلاف الوظائف يتسبب بموت مئات الآلاف حول العالم، فلا معنى لحفظ تلك الوظائف". ويشرح النقابيون أنهم يطالبون منذ وقت طويل، لتحويل وجهة عمل المصانع في مجال الدفاع، بشكل يحفظ السياسة الخارجية والقيم الجوهرية للبلاد. ولكن في النهاية القرار هو سياسي، ولا مصلحة للسياسيين في ذلك. فهنا صيد المليارات يحكم، والكلمة الفصل تبقى لديبلوماسية السلاح. ما يثير القلق أيضاً، بحسب تقرير “لوموند ديبلوماتيك" لفيليب لوماري، ما تقوم به فرنسا مثلاً من بيع لمعدات حربية كـ"الرافال" في منطقة مستعرة كالخليج وتحديداً لقطر. ولتبرر تزويد الخليج بالسلاح، تحاول فرنسا تجهيز الأرضية لتلائم الاتفاق، مثل توقيع الاتفاقيات الدفاعية والشراكة الاستراتيجية، والانفتاح بناءً على قرار ساركوزي عام 2008. وافتتاح قاعدة فرنسية في أبو ظبي، ومشاركة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الغربي الوحيد، في اجتماع استثنائي لمجلس التعاون الخليجي عام 2015، في خطوات استعراضية تجعل فرنسا وسط نظام ضبابي، يتعارض مع نظام المراقبة الذي أقرته للبرلمان في دراسة العقود. وينسحب الأمر على الدول الأوروبية، التي تبنى برلمانها في فبراير الماضي قراراً بمنع تزويد السعودية بالسلاح، على ضوء انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن. البعض التزم، والبعض قال إنه سيراجع الاتفاقيات مثل ألمانيا، والبعض تجاهل. المثير للانتباه أن كل هذا السباق، اقترن بتشريعات لمراقبة القطاع منذ عام 1925، حتى عام 2016، ولكن من دون التزام يذكر من هذه الدول، ما يظهر عدم وجود إرادة بما يحيط ذلك من عمولات وفساد، تشير الدراسات إلى أن نسبتها تصل إلى 40% من نسبة الفساد الإجمالي في العالم. أكثر من عشر سنوات مرت على المطالبة بالاتفاقية العالمية لضبط قطاع الأسلحة، فدخلت حيز التطبيق عام 2014، بعدما وقعت عليها أكثر من 80 دولة. لكن الدعوات، كتلك التي أطلقتها منظمة "اوكسفام"، بقيت للمطالبة بالحرص على تطبيقها."التسلح من أجل الازدهار"
يؤكد ما سبق كتاب مهم، نشر في عام 2012 لصاحبه آندرو فاينشتاين تحت عنوان "العالم الخفي/ نظرة من داخل تجارة السلاح العالمية". وفيه: "المجتمع الدولي وضع ضوابط لتجارة الأسلحة، لكن اندلاع الحروب في كل بقاع العالم يظهر عقمها، فتنتشر الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية، وتلك المدعومة من الخارج. أما التجارة غير الشرعية بالأسلحة، أي تلك التي تتم في الظل، مزدهرة من دون معرفة الحكومات أحياناً، وبمعرفتها وتعاونها بشكل مباشر وغير مباشر في أحيان أخرى". أما الخلاصة التي باتت شبه بديهية، في ظل قوانين تحاول تغييرها، وتطبيقات تضرب تلك القوانين بعرض الحائط، فهي أن صناعة العسكرة والسلاح هيمنت منذ الحرب العالمية الثانية على السياسة الخارجية للدول الكبرى، وبالتالي على المؤسسات السياسية فيها. وعليه تعتبر تجارة السلاح اليوم أهم سلعة دولية، وتحتل مركزاً متقدماً في قائمة أكثر السلع تأثيراً في حركة الاقتصاد العالمي. ويفسر المحللون أنها قد تكون العنصر الأساسي في الوقوف أمام خطر الركود الاقتصادي، وتراجعه الذي يهدد تلك الدول المتنافسة على السيطرة، وملكية العالم بأي ثمن ووسيلة. هكذا تصبح كل حرب إنقاذاً للعالم من الركود الاقتصادي، وكل دفاع عن حقوق الإنسان تهديداً له. وهنا تكمن الكارثة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...