كنت أتسكع في روسيا بين موسكو وسان بطرسبرغ لعشرة أشهر بين عامي 1992 و1993 إبان سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه رويداً رويداً.
كانت روسيا قد بدأت عصراً من الانفتاح، تحولت خلاله شأنها شأن دول المعسكر الاشتراكي سابقاً إلى محطة للهروب منها إلى دول غرب أوروبا التي لا تمنح تأشيرات الدخول للفقراء، وخاصة من شعوبنا، ومع ذلك فإن شعوبنا تدخل إليها بواسطة التهريب، بل وتطلب اللجوء الإنساني هناك، فيحصل اللاجئ على حقوق لم يكن يحلم بها في حياته، وأهم حق هو حق الحصول على بيت وراتب دون أن يعمل حتى.
في ذلك الوقت بداية التسعينيات، لم يكن السوريون على دراية بأمور التهريب كما الآن، باستثناء الأكراد منهم الذين كانوا يعتبرون مضطهدين في سوريا من قبل النظام البعثي.
بدأت ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا تتفشى في أوساط أكراد سوريا منذ أواخر الثمانينيات بعد مجزرة حلبجة في كردستان العراق التي ارتكبها النظام العراقي بواسطة السلاح الكيمياوي.
كان الأكراد السوريون، ليسهلوا الأمور على أنفسهم، يدَّعون بأنهم من كردستان العراق بعد أن يمزقوا جوازاتهم السورية حال وصولهم إلى الجنة الأوروبية الغربية.
لم يقتصر الأمر على الأكراد، بل حتى إن العرب أنفسهم كانوا يدعون بأنهم من العراق، أو من كردستان العراق.
يحكى أن أحد المصريين وصل إلى السويد وادعى أنه عراقي، فأتوا له بمترجم عراقي، فسأله من وين أنت؟ فأجاب المصري: من العِراء يا باشا. دهش المترجم العراقي من لهجته فسأله مجدداً: من وين من العراق أنت؟! فأجاب: من حلبكَة يا باشا (أي من حلبجة لكن بالجيم المصرية)، فقال له المترجم العراقي: أنتَ لهجتك مو عراقية! فأجاب المصري: هوَّ الكيمياوي خلا لنا لهكَة يا بيه؟!
في موسكو تلك الأيام، كان العراقيون والإيرانيون يقفون جنباً إلى جنب أمام ماكدونالدز موسكو صحبة الأكراد والأفغان بانتظار سمسار يوصلهم إلى مهرب مضمون النتائج.
منهم من كان يفضل البر، ومنهم من يفضل البحر، ومنهم من يفضل الجو، والتهريب الجوي يتم عادة عبر جوازات سفر مزورة وتأشيرات مزورة، ولكل طريق سعره ومخاطره.
بعض المغامرين كانوا يرفضون الاستعانة بمهرب، ويقومون بالمغامرة بأنفسهم.
أعرف شخصاً كردياً من حارة الأكراد بدمشق تعلَّق أسفل قطار من سان بطرسبرغ بروسيا إلى أول قرية فنلندية، وهو الآن يستمتع بالجنسية السويدية والفودكا والشقة والضمان الصحي ومجانية تعليم أولاده والراتب الشهري يا حبيب، بينما لم يكن الصينيون الذين يربو عددهم على الستين بمحظوظين مثله فقد اختنقوا داخل شاحنة مغلقة كانت تهرِّبهم من دولة شرقية إلى دولة غربية في مأساة مشهودة ذات يوم أواخر التسعينيات.
أما عن السفن التي تغرق فحدِّثْ ولا حرج، من شمال أفريقيا، إلى غرب تركيا... ومع ذلك فشعوبنا تغامر. المهم ما لكم بالطويلة، فإن أفضل وأضمن طريقة للوصول إلى الدول الإسكندنافية من روسيا كانت الاستعانة بمحمد علي، وهو كردي من العراق شهير شهرة مدينة فيبورغ الروسية على الحدود الفنلندية بالنسبة إلى أهالي عامودا على الحدود السورية التركية، فكل أهالي عامودا يعرفون فيبورغ (فيبورغ التي لا يعرفها حتى الروس)، يوصونك حال ذهابك إلى روسيا أن تذهب إلى فيبورغ وتدخل منها إلى فنلندا. صارت شعوبنا فقيهة بالجغرافيا السياحية غير الشرعية، والجميع على كافة مستوياتهم في المعرفة السياحية يحترمون محمد علي ويقدرونه.
لكن محمد علي يتأخر بالسفر، فهو لا يقلع بالسفينة حتى يكتمل النصاب، والنصاب هو أربعمائة شخص، وهناك أناس لا يستطيعون الانتظار لعدة شهور حتى تمتلئ السفينة بالركاب…
محمد علي يمتلك الجنسية السويدية أيضاً، فهو مهاجر غير شرعي سابق، لذلك تراه يشعر بزبائنه، ويقولون عنه إنه يقبل بمبالغ دون التسعيرة إذا لمح في وجه صاحبها مظاهر البؤس وعدم التمكن من الدفع أكثر، بل إن لديه أسعاراً خاصة بالنساء المتقدمات في السن.
إذهب إلى محمد علي، إنه الأفضل، هكذا يقولون للمهاجرين الواقفين أمام ماكدونالدز موسكو، ولعل رحلته الأسطورية بداية التسعينيات في سفينة ملأى بأربعمائة مهاجر بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ تشهد على حنكته وعلو كعبه في مجال السياحة غير الشرعية، إذ أنه وصل إلى سواحل الدانمارك، لكن السلطات البحرية هناك طردت السفينة وسط تغطية تلفزيونية استمرت لعدة أيام والسفينة تتلوى في عرض البحر إلى أن اختفت عن عيون الكاميرات في لحظة أسطورية ولم يجدها أحد إلا وهي ترمي بركابها الأربعمائة على رصيف بحري في مالمو السويدية.
استيقظ العالم على صور مباشرة لهؤلاء وهم يفترشون أرض الجنة السويدية بانتظار الإقامة والراتب والضمان الصحي والتعليم المجاني. على أثر هذا الحدث الجلل انهارت الحكومة والبرلمان وقتها، بل وتقول الأساطير أيضاً إن السلطات سحبت الجنسية من محمد علي دون أن تثبت أنه الفاعل، فاندلعت المظاهرات الحاشدة من قبل (المواطنين السويديين) ـ وهم في الحقيقة من الذين صاروا مواطنين بفضل محمد علي على مر السنوات ـ ضد القرار الذي تراجعت عنه السلطات فوراً بسبب داء الديمقراطية. فجمهور محمد علي صار أكبر مما قد تتخيله في بلاد الشمال.
نشر الموضوع على الموقع في 08.04.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...