كان يوماً استنثائياً في القاهرة. خلت الشوارع من الناس، وأغلقت كل المحال أبوابها، واختار كثيرون البقاء في منازلهم تجاوباً مع مناشدات، رسمية وغير رسمية، باتخاذ "أقصى درجات الحيطة والحذر". حتى المقاهي الشعبية، التي تعمل على مدار اليوم، وطوال أيام السنة، ظلّت مقفلة.
عشية ذلك اليوم الاستثنائي، كانت أركان المقاهي القاهرية تعبق بنقاشات حول ما سيحدث غداً، حين تنطلق أصوات التكبير من المآذن فجراً، أو حين تنتهي صلاة الجمعة في المساجد والزوايا المحاطة بـ"كردونات" الشرطة والجيش.البعض غيّر خططه ليوم الجمعة هذا، وهو يوم الإجازة الاسبوعية في مصر، وكثيرون تسمّروا، حتى ساعات الليل، في منازلهم، أمام شاشات التلفزيون أو الهواتف المحمولة.
"استثنائية" ذلك اليوم كانت نتيجة لدعوة أطلقتها مجموعة سلفية متطرفة إلى "ثورة إسلامية". ولكن الإنجاز الوحيد الذي حققته كان أن "أحداً لم يذهب إلى صلاة الجمعة"، كما قال مازحاً أحد الصحافيين الشباب، وهو يجول القاهرة من شمالها إلى جنوبها بسيارته، من دون أن يعيقه أي ازدحام، ومردداً بين وقت وآخر: "يا ريت كل يوم فيه ثورة إسلامية".
يوم كهذا يكاد يكون نموذجياً لصحافي يزور القاهرة لبضعة أيام، خصوصاً أن فراغاً بشرياً كهذا لم يشاهده إلا في فيلم مصري أُنتج قبل "ثورة 25 يناير" بعنوان "طباخ الريّس"، ويردد فيه الممثل (خالد زكي) المتقمص شخصية رئيس الجمهورية، وهو يكلّم أحد مساعديه عبر جهازه الخلوي: "ودّيتوا الشعب فين يا حازم... 75 مليون ما لاقيش منهم ولا واحد".
الفراغ البشري، برغم تحوّله سريعاً إلى مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، عكس إدراك الشعب المصري لخطورة الموقف في البلاد التي تواجه تحديات أمنية قد تكون غير مسبوقة على امتداد تاريخ مصر القديم والحديث.
لكن المقلق في الموضوع أن هذا "الحرص الأمني" قد وصل إلى مستوى هستيري، تبدّى في سلوكيات اجتماعية تجعل أي "أجنبي" – عربياً كان أم أعجمياً – سواء كان يلتقط صوراً لأنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي وهم يحتفلون بفشل "الثورة الإسلامية" (كما حدث مع الصحافي المذكور أعلاه)، أو يناقش الأوضاع المصرية في أحد المقاهي الشعبية (كما حدث مع رئيس تحرير صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الفرنسية، آلان غريش)، أو حتى يتلكم الإنكليزية مع صديقه في محطة "المترو" (كما حدث أخيراً مع سائحَين بريطانيَين)، عرضة لمشاكل أمنية، قد تصل إلى حد تسليمه إلى الشرطة "تسليم أهالي".
حصار المخاطر
ومع ذلك، فإن هذا الرهاب النفسي يبدو مبرراً في حال تتبع المرء مسار السنوات الأربع الماضية من عمر "ثورة 25 يناير"، وما رافقها من انفلات أمني كان له تأثير مباشر على كل مواطن مصري. فقد أفضت الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو 2013 إلى عودة تيار الإسلام السياسي إلى ممارسة أعمال العنف، بما في ذلك الهجمات بالأسلحة وتفجير العبوات الناسفة. كذلك تحوّلت شبه جزيرة سيناء إلى معقل للجماعات المتطرفة، وأبرزها جماعة "أنصار بيت المقدس" التي أعلنت إخيراً البيعة لـ"الخليفة" أبي بكر البغدادي.
وفي إحدى مقابلاته مع قناة "سي بي سي" المصرية، ضمن سلسلة "مصر أين... وإلى أين"، رأى الكاتب محمد حسنين هيكل أن كل نظريات الأمن القومي المصري التي سادت منذ أيام (الفرعون) "تحتمس"، مروراً بصلاح الدين الأيوبي ومحمد علي وجمال عبد الناصر قد سقطت. فتلك النظريات، بحسب هيكل، كانت تقوم على فكرة أن الخطر الوحيد الذي يهدد مصر مصدره المشرق، بالنظر إلى أن كل الغزوات، باستثناء غزوة نابوليون بونابرت، كانت تأتي من الشرق. غير أن المخاطر اليوم، في رأيه، أصبحت تأتي من كل مكان. ويكفي النظر إلى خريطة العالم العربي لاكتشاف أن مصر تقع عند منتصف خط الزلازل الإقليمية، الممتدة من العراق وسوريا شرقاً، وصولاً إلى ليبيا والساحل الافريقي غرباً.
سيناء: خطر مزدوج
ومن ناحية الشرق، يبدو الخطر مزدوجاً. فهناك أولاً إسرائيل، بأطماعها التاريخية ومخططاتها المريبة التي لم تمحُها اتفاقية كامب ديفيد وترتيباتها الأمنية. ومنذ الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، تكاثر الحديث، في وسائل الإعلام العبرية، عن خطط إسرائيلية في سيناء، أخطرها ما يعرف بـ"خطة عوزي" (نسبة إلى مؤسس مؤتمر هرتسيليا عوزي أراد)، أو خطة "غزة الكبرى"، التي تتضمن إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية على الجبهة المصرية، تمهيداً لإقامة منطقة تمتد بطول 24 كيلومتراً وبعمق 700 كيلومتر، لتوطين الفلسطينيين.
وهناك ثانياً تهديد جدي يمثله تنظيم "أنصار بيت المقدس"، الذي برز بعد "ثورة 25 يناير"، وذاع صيته غداة سقوط نظام "الإخوان"، وهو جماعة متطرفة، تمكنت من استقطاب جميع التنظيمات الجهادية في سيناء، قبل أن تبايع تنظيم "داعش" وتغيّر إسمها إلى "ولاية سيناء" في 14 نوفمبر الماضي، أي بعد ثلاثة أسابيع على عملية كرم القواديس التي راح ضحيتها 31 مجنداً مصرياً، في ما وصف بالهجوم الأعنف على القوات المسلحة المصرية. ومعروف أن سيناء تمثل بالنسبة إلى مصر سداً إستراتيجياً يحمي منطقة وادي النيل.وإذا نظرنا إلى الخريطة لوجدنا أن حدود مصر الشرقية قائمة على خط يمتد من رفح إلى العقبة، ولا توجد فيها معالم طبيعية تشكّل خطاً دفاعياً، وبالتالي فإن أي اختراق أمني في شبه الجزيرة المصرية يعني إمكانية الوصول بسهولة إلى قناة السويس.
ليبيا: ميليشيات وسلاح وحدود مفتوحة
وعلى المقلب الآخر، فإن الخاصرة الغربية، المتمثلة بليبيا، تبقى التهديد الأكبر للأمن القومي المصري. وبحسب ما يقول أستاذ العلوم السياسية مصطفى علوي، في دراسة صادرة عن "مركز الدراسات المستقبلية" فإن تلك التهديدات تكمن في أن "هذا البلد يعيش الآن بلا دولة"، وذلك نتيجة للتطورات التي تلت سقوط نظام العقيد معمر القذافي، ومن تداعياتها "تفكيك منظومات التسلح الخاصة بالجيش وقوات الأمن، وانتشار تلك الأسلحة في أرجاء المجتمع المختلفة".
وتشير تقديرات أمنية مصرية إلى وصول نحو 12 مليون قطعة سلاح ثقيل إلى مصر، معظمها من ليبيا، خلال العامين الأخيرين.وفي هذا الإطار، يرى علوي أن "وجود تلك الأسلحة (المضادة للطائرات والدبابات مثلاً) مع أفراد أو تنظيمات في مصر، سرية أو غير مسجلة، أو غير معروفة لدى الدولة، يمثل تحدياً خطيراً للأمن القومي المصري، وذلك لأنه ليس من السهل مطلقاً أن تتعامل أجهزة الدولة المصرية المعنية مع العناصر أو التنظيمات الحائزة لتلك المنظومات من الأسلحة الثقيلة".
وما يجعل الامور أكثر خطورة في هذا الإطار، أن الحدود الغربية لمصر تفتقر إلى حاجز إستراتيجي كذاك الذي تمثله سيناء. وتكفي مقارنة بسيطة بين الحدود الشرقية التي تمتد على طول 210 كيلومترات، وبين الحدود الشرقية الصحراوية التي تمتد على طول 1050 كيلومتر، لمعرفة مدى الخطوة التي يمثلها وجود تنظيم مبايع لـ"داعش" في درنة الليبية، أي على بعد أقل من 150 كيلومتراً من مصر.
العمق الافريقي: إكسير الحياة
أما جبهة الجنوب، التي ليس من المبالغة وصفها بأنها إكسير الحياة لمصر، بالنظر لكونها منطقة منابع النيل ومجراه، فقد باتت مخترقة بفعل التدخلات الإسرائيلية المؤثرة على سياسات بعض دول المنبع (كما هي الحال مع أثيوبيا التي بدأت بالفعل في إقامة "سد النهضة")، وأيضاً بفعل سياسات العهدين المصريين السابقين.
فقد أجهضت سياسات الرئيسين الأسبقين حسني مبارك ومحمد مرسي كل محاولات تحصين العمق الأفريقي التي بدأت منذ أيام الملك فؤاد الاول، وتعززت في الحقبة الناصرية بفعل دعم مصر لحركات التحرر في افريقيا، وبحكم العلاقات الوثيقة بين الكنيستين المصرية والأثيوبية، إلى أن خرّبتها شخصانية مبارك (غداة محاولة اغتياله في نيروبي) وخفة مرسي (الاجتماع "المغلق" الشهير بشأن "سد النهضة" والذي بثت قنوات التلفزة وقائعه مباشرة على الهواء).
القمع والخطر القادم من الشمال
كل تلك التحدّيات الأمنية لخصها صحافي مصري مؤيّد للرئيس عبد الفتاح السيسي، في جلسة مسائية عشية "الثورة الاسلامية"، التي لم تحدث، بقوله إن "الأمن القومي المصري مهدد طوال الوقت، ويندر أن كان مهدداً إلى الدرجة التي نشهدها اليوم"، ليخلص إلى نتيجة، اختلف معه فيها صحافيون آخرون ينتمون إلى المعسكر الثوري، ومفادها أن "ثمة ضرورة إلى اتخاذ استراحة مؤقتة من الثورة، وأن نساهم في ترميم بناء الدولة المصرية، حتى لا نكرر تجربة غيرنا".
قد يبدو ما قاله الصحافي السابق صحيحاً، وهو ما ينسحب على ما قاله السيسي لرئيس الوزراء الإيطالي خلال لقائهما في القاهرة في أغسطس الماضي، بأن على "الأوروبيين ألا ينظروا إلينا بعيون أوروبية ولكن عليهم النظر بعيون مصرية أيضاً"، وأن "على الجميع النظر إلى ما يحدث في دول الجوار ونجاة مصر من الانزلاق إلى المصير نفسه"، في إشارة إلى الانتقادات الأوروبية بشأن انتهاكات حقوق الانسان في مصر.لكن التجارب التاريخية أظهرت أن "دولة المخابرات"، التي أعلن عبد الناصر "سقوطها" في بيانه الشهير يوم 30 مارس 1968، وما رافقها من أعمال قمع، كانت من بين الأسباب التي هزّت الأمن القومي المصري بوصول إسرائيل إلى الضفة الشرقية لقناة السويس في حرب العام 1967.
ولعل الحديث عن القمع الأمني، الذي بلغ حد قتل الناشطة اليسارية شيماء الصباغ في مسيرة سلمية عشية الذكرى الرابعة للثورة، يفتح الباب أمام الحديث عن خطر آخر يتهدد مصر من الشمال، ويتمثل في أن الغرب يقتنص الفرص لاستخدام حق التدخل، الذي اعتمدته الأمم المتحدة بعد مجازر رواندا، والذي يتطور يوماً بعد يوم، ليصبح أداة في يد الدول الكبرى تحت شعار "حماية حقوق الإنسان".
هكذا يبدو المشهد الأمني في مصر مع دخول "ثورة 25 يناير" عامها الخامس. وفي ظل مشهد معقد كهذا يدور الصراع بين مفهوم "الأمن والاستقرار" الذي قد يقود إلى عودة النظام البوليسي في ظل الهستيريا الأمنية السائدة، وبين مفهوم "الحرية والديموقراطية" الذي قد يقود إلى الفوضى غير الخلاقة في ظل تطور الأوضاع في الإقليم وغياب الرؤية المنهجية الواضحة لدى كثيرين. وبغياب التناغم بين هذين المفهومين فإن احتمال انهيار الأمن القومي يبقى قائماً في أي لحظة.
الصورة من أ ف ب
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين