قد يبدو بديهياً اليوم أن نبحث في خرائط على هواتفنا المحمولة عن أي بقعة على وجه الأرض، ولا نتردد في إدراك توجه الخرائط بحسب ما نعتبره أساس الاتجاهات: اتجاهات البوصلة الأربعة. لم تكن تلك الحال في العصور الوسطى، بل كانت الخرائط تتجاوب مع الأراضي المقدسة باعتبار أنها مركز العالم. ربما تكون أولى خرائط العالم الإسلامي هي الخرائط التي أمر الحجاج برسمها أثناء ولايته على العراق، في نهاية القرن الأول للإسلام، من سنة702م. إلا أن الأعمال المختصة بجغرافيا العالم بدأت في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين، في نوع من الأدب الجغرافي الذي عرف بـ"المسالك والممالك"، بني على ما عرفه العالم الإسلامي من علوم الثقافات البابلية، واليونانية، والمصرية القديمة، والصينية، وقدمها العلماء المسلمين كنوع خاص بهم، تطور وتنوعت أشكاله على مدى ثمانية قرون في معظم أنحاء العالم الإسلامي.
المسالك والممالك هي مخطوطات متخصصة بتقسيمات العالم ومعالمه الجغرافية. في كل منها 21 خريطة: أولاها خريطة للعالم كله، و20 لأجزاء العالم الإسلامي: شبه الجزيرة العربية، المحيط الهندي، المغرب العربي والأندلس، مصر، سوريا، المتوسط، العراق (شماله وجنوبه)، و12 خريطة لأقاليم إيران ومحيطها. تتميز خرائط هذه المخطوطات بأشكالها الهندسية التي تجسد "ممالك" العالم من دون محاولة تصويره.
نهرا الفرات ودجلة،"الجزيرة"، من مخطوطة المسالك والممالك للاصطخري
في البدء، كانت وظيفة مخطوطات المسالك والممالك إدارية، تساعد الولاة على تحديد طبيعة الأقاليم، وطرق التجارة والسفر، لكنها تطورت لتصبح توثيقاً لسفرات وانطباعات كتابها، وخرائطها أصبحت نوعاً من الفن. ومع أن النصوص المرافقة للخرائط تميز العالم الإسلامي عن غيره، وتفضل الشعوب المسلمة على بقية شعوب العالم، فإن الخرائط نفسها، على عكس ذلك، تتمتع بروح غير اصطفائية. فـ"شمال المتوسط" هو انعكاس لجنوبه، وكل أنحاء العالم تشترك بتناغم وانسجام نابعين من أشكال هندسية وزخرفات وتلاوين متماثلة.
ما الذي يجعل خرائط المسالك والممالك إسلامية دون غيرها؟
لا تبدو خرائط المسالك والممالك إسلامية بشكل مباشر. فلا توجد فيها معالم إسلامية واضحة، كتلك التي نجدها في نظيراتها الأوروبية. مثلاً ما يعرف بـ"الخرائط الأوروبية" كالخريطتين المرفقتين هنا، هي خرائط ذات طابع ديني مسيحي، تعرف أيضاً بخرائط TــO، لأن فيها تقاطعاً للحرفين: شكل حرف O هو إطار الخريطة، وشكل حرف T (وهو رمز لجسد السيد المسيح المصلوب) يصل قلب ساحل المتوسط الشرقي والأرض المقدسة (شمال الخريطة)، بقارتي أوروبا وإفريقيا. كما نرى فيها رموزاً مسيحية واضحة.
مثال من خريطة Tــ O الأوروبية، نسخة من القرن الثاني عشر لمخطوطة إيسيدور الإشبيلي (560 حتى 636).
من أشهر وأجمل خرائط TــO، من عام 1300، خريطة جدارية من كاتدرائية هرفورد في بريطانيا. تتوسط الأراضي المقدسة الخريطة، و"الشرق" يحتل شمال الخريطة، أما قارة أوروبا فهي في الجزء الجنوبي الغربي، وأفريقيا في جنوبها الشرقي.
تقول المختصة بعلم الجغرافيا الإسلامية الدكتورة بينتو، إن معالم الخرائط العربية لا تظهر هوية خاصة، أو طابعاً إسلامياً، إلا بعد التدقيق في دلالات رموز وأشكال معينة فيها. وإذا تمعنا في هذه الخرائط، نبدأ باستشفاف ملامحها الإسلامية في رموز وأماكن ذات أهمية دينية عند المسلمين. وكمثال من خريطة للاسخرطي، قسم مهم من الخريطة يأخذ شكل سمكة ضخمة تصور "المحيط". وفي هذه الخرائط أيضاً مخلوقات تختبئ في المحيط، وهي تجسيد لحس إسلامي بما هو غرائبي. ومن الأمثلة الجديرة بالذكر "الكهف" الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، في قصة الوثنيين الذين تركوا معتقدات قومهم، وعبدوا الله وحده، تذكر قصتهم "سورة الكهف". تستخدم الخرائط هذا الرمز الديني كأحد أهم معالمها المكانية. ومن الأمثلة المهمة، في خرائط مصر، الرسم المصغر للنبي موسى عليه السلام. لعل أبرز هذه المعالم البحر المتوسط. فهو مصور على شكل دمعة هي طائر كبير، رأسه في الجزيرة العربية، وقارة آسيا هي صدره، وجناحاه يمتدان مع نهر النيل في أفريقيا وبحر البوسفور شمالاً، أما أوروبا فهي ذنب الطير. في تحليل رموز هذه الخرائط، تعتقد بينتو أن رمز الطير قد يكون تجسيداً لكتابات العالم الإسلامي ابن سينا. ففي فلسفته، وفي شعره يتحدث عن مفاهيم فلسفية ودينية يصور فيها الطير رمزياً كصلة الوصل بين العالم والسماوات، لأنه يحلق بينهما.
نموذج لخريطة من كتاب المسالك والممالك للاسطخري (1193م.) من مخطوطات مكتبة جامعة لايدن
مع بدايات القرن الثالث عشر، ازدادت غزارة هذه المخطوطات وتنوعت أشكالها، ولعل ذلك يعطينا فكرة عن شعبيتها الهائلة في العالم الإسلامي التي استمرت لعقود طويلة، والتي لاقت اهتماماً من سلاطين الامبراطورية العثمانية، أجدرهم بالذكر هنا هو الامبراطور محمد الثاني (1429ـ1480)، الذي ذاع صيت مكتباته الضخمة التي ضمت مخطوطات جغرافية من كل أنحاء وعصور العالم الإسلامي. خرائط الممالك والمسالك، استفادت من الحضارات المجاورة التي سبقتها، ثم أضافت عليها، وطورتها على أساس تجارب السفر والثقافة حتى أصبحت جنساً مستقلاً قائماً بذاته، ينطوي، على نحو عميق، على هويته العربية الإسلامية على شكل رموز وإيحاءات شفافة داخل تكوين الخرائط البديعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...