وضع الأقدمون أساطير عدّة لتفسير نشأة الكون. فعلى عادتهم، كانوا يفسّرون كل ما يحيط بهم كجزء من عالم حافل بالخوارق والكائنات الخرافية. هذه بعض القصص التي تركها لنا السابقون في محاولاتهم للإجابة عن السؤال المثير: كيف نشأ الكون؟
الحضارة الفرعونية
في البدء لم يكن في الوجود سوى محيط من الماء يغلّفه الضباب، وفوقه بيضة ذهبية بحجم ألف من بيض النعام. وفجأة انفجرت البيضة وخرج منها الإله الأول "أتوم". عطس أتوم وخرج منه صوت "تشو" فظهر الرب تشو إله الفضاء، وبصق فظهرت "تفنوت" ربة الندى. تزوجت تفنوت من تشو وولدت "نوت" ربة السماء و"جب" رب الأرض. وخلقت "نوت" النجوم والكواكب والشمس والقمر، وارتفعت عن "جب" لتكون هي السماء وهو الأرض.
الآلهة جب ونوت وتشو
تمرد الشمس "رع" على أتوم واستولى على منصب كبير الآلهة. ولأنه أدرك حاجته للحكمة ليحكم العالم، خلق "تحوت" إله الحكمة. ولأن "رع" كان يخلق بمجرد الكلمة، فقد خلق له "تحوت" "حتحور" ربة الأنوثة و"أبيس" رب الذكورة، وخلق من كل نوع من الكائنات ذكراً وأنثى.
بعد ذلك قرر "رع" أن يجعل الآلهة ذكوراً وإناثاً لتتزاوج. ولكن الآلهة رفضت ذلك خوفاً من أن يكتب عليها الموت فلا تعود خالدة. فقام "رع" بإغرائها من خلال خلق أنثى فاتنة اسمها "قمة الغرب" لتغري الآلهة بالتناسل. وبالفعل، وقع "أتوم"، كبير الآلهة السابق، في حبها وتزوجها، ولكنها كانت كلما أراد مضاجعتها طلبت مهراً جديداً، فكان كل مرة يخلق لها أنواعاً مختلفة من النباتات والأشجار والورود ليرضيها. وأنجبت "قمة الغرب" من "أتوم" الآلهة خنوم وبتاح وآمون وأتون.
ثم اندلع الصراع على السلطة بين "أتوم" الراغب في استعادة مكانته و"رع" المسيطر، وانقسمت الآلهة بينهما وتحاربت، فخلقت الشياطين والأرواح الشريرة والمسوخ وكائنات أبو الهول والتنانين لتعينها في الحروب.
ثم أنجبت "قمة الغرب" توأماً ملتصقاً من الظهر، ذكراً اسمه "جبتو" وأنثى اسمها "جبتانا". أحب الإله "خنوم" "جباتا" فضاجعها وأنجبا توأماً ملتصقاً مماثلاً، وتزوج كل نصف ذكر من كل نصف أنثى. ثم قرر "رع" أن يفصل بشعرة مقدسة من رأسه التوائم الملتصقة ليصبح كل منهم منفصلاً يبحث عن أنثاه.
ولما زادت شرور الشياطين والمسوخ التي خلقتها الآلهة في الحرب، اتحدت الآلهة مع البشر ضد تلك الكائنات الشريرة. وقررت الآلهة هجر الأرض التي امتلأت بدماء الحروب وعاشت في السماء، بعد أن شقت للبشر نهر النيل الذي كان قبل ارتفاع الآلهة يجري فيه العسل والخمر. وأصبح هذا الشعب يحمل اسم "الجبتوس" (لاحظ التشابه مع كلمة كوبتوس أو أقباط) وعاشوا حول النيل قبل أن يتفرقوا إلى شعوب وقبائل متصارعة. ومن هنا وجدت مصر. ومن هنا وجد العالم.
الحضارة السومرية
من أرض العراق أتت الأسطورة السومرية التي تقول إن العالم كان فراغاً ولم يكن فيه سوى الإلهة "نمو" ربة الماء، والتي ولدت ذكراً اسمه "آن"، رب السماء وأنثى اسمها "كي"، ربّة الأرض. تزوجت "كي" من "آن" فأنجبا "انليل"، رب الهواء. وكان أبواه، السماء والأرض، ملتصقين، فضاقت المساحة المتاحة له، فرفع أبيه بقوة، فارتفعت السماء عن الأرض وعاش في المساحة الكبيرة بينهما.
الإله إنكي
امتعض "انليل" من الظلام فتزوج من الربة "ننليل" التي أنجبت منه ابنه "نانا" ليصبح القمر. ومن "نانا" جاء حفيده "أوتو" وصار الشمس. وهكذا تبدد الظلام وبدأت الشمس تساعد الأرض على ظهور الأشجار والنباتات. وكذلك ظهرت الأرباب الأخرى. وبسبب وقوع "انليل" في إغواء إلهة ومضاجعتها، قرر الآلهة خلعه عن مكانه ونفيه إلى العالم السفلي. ويتولى ابنه "إنكي" إله الحكمة إدارة بلاد السومريين، فيخلق لهم أنهار الماء العذب. وعندما اشتكت الآلهة من تعب القيام بالأعمال، طلبت من "انكي" أن يخلق لها العبيد والخدم، فخلق البشر.
الحضارة البابلية
ومن أرض العراق أيضاً أتت الأسطورة البابلية الأكثر تعقيداً. ففي البداية كان الرب "أبسو"، إله الماء العذب، و"تيامات"، إلهة الماء المالح، ومعهما "ممو"، الضباب. تزوجت "تيامات" من "إبسو" وأنجبا "لخمو" و"لخامو" اللذين أنجبا "أنشار" و"كيشار"، ثم تناسلت الآلهة حتى أزعجت الأب "أبسو" والأم "تيامات"، فقررا إفناء تلك الآلهة وقتلها.
وعندما علمت الآلهة بخطة "أبسو"، لجأت إلى الرب "أيا" الذي نصب شبكة سحرية على "أبسو" وقتله، وسيطر على "ممو" الضباب، ونصب نفسه سيداً للآلهة. وهربت "تيامات" وتزوجت من الإله "كينغو" وبدأت تعد جيشاً من المسوخ والثعابين والعقارب متحالفة مع الآلهة القديمة ضد الآلهة الصغيرة التي انحازت للإله "أيا". وكانت الحرب بين جبهة "تيامات" التي تطالب ببقاء الكون في حالة ثبات بلا مخلوقات أو حياة، وجبهة "أيا" الراغب في خلق العالم وتعميره بالحياة.
وعندما هجمت "تيامات" وجيشها على الآلهة الصغيرة، تخلى "أيا" عن موقع القيادة، وبدأت الآلهة الصغيرة بالتراجع عن المواجهة. فتدخل "مردوخ"، إبن "أيا" الذي فاق والده قوة وحكمة، وخلق الرياح الأربع ليستعين بها في حربه، وهزم جيش "تيامات" وقتلها وأسر الرب "كينغو" وصار كبير الآلهة.
وبعد أن انتصر "مردوخ"، شق جثة "تيامات" إلى نصفين، ورفع النصف الأول فصار السماء وخفض النصف الآخر فصار الأرض. ومن دم الرب "كينغو" خلق الإنسان فالشمس والقمر. ثم عمّر الأرض بالحيوانات والنباتات، وبنى مدينة بابل لتكون مدينة إلهية مقدسة. وهكذا عبد البابليون "مردوخ" باعتباره السيد المنقذ.
الحضارة الكنعانية الفينيقية
في لبنان وسوريا وفلسطين، تبدأ قصة الخلق بأن كان الإله "إيل"، كبير الآلهة، يعيش في السماء العليا مع زوجته "إيلات" ومعهما عاشت الآلهة التي كان أبرزها "بعل" رب السحاب والمطر والصواعق والذي كان دائماً في حالة حرب مع الإله "موت" رب الموت والجفاف. وينتصر "بعل" في حربه فتوجد الأرض والبشر والمخلوقات بعد أن كان الكون عبارة عن عناصر ملتهبة تتفجر وتتصادم بشكل فوضوي.
الإله بعل
ثم يقوم "يم"، رب الماء، بإرسال رسولين إلى مجمع الآلهة سعياً إلى أن يسلموه "بعل" ليصبح عبداً له. فيثور الأخير عليه ويبارزه ويغلبه. وتحتفل الآلهة بهذا النصر وتطالب "إيل" ببناء بيت مقدس لـ"بعل" تكريماً له، وتهدد الربة "عناة"، إلهة الجنس والخصوبة وحبيبة "بعل" أباها "إيل" بالقتل إنْ لم ينفّذ هذا الطلب، فتتدخل الربة "إيلات" لإقناع زوجها، وبالفعل يصبح لـ"بعل" بيت مقدس ويعلو اسمه بين الآلهة.
ولسبب ما تغضب "عناة" على بعض الناس فتندفع لتقتل قوماً من الغرب وآخرَ من الشرق. وهنا يتدخل "بعل" ويهدئها، ويعم السلام. وبذلك يكون "بعل" قد فرض النظام على عناصر الكون، وفرض سيطرته على الماء المضطرب، الرب "يم"، وفرض السلام بين الآلهة والبشر. وهنا يصبح "بعل" سيدا للآلهة ويصبح المجال مفتوحاً للبشر ليعمروا الأرض.
يذكر أن كلمة "بعل" قد دخلت إلى اللغة العربية وصارت تحمل معنى "سيد الأسرة أو سيد البيت"، فنرى سارة زوجة النبي إبراهيم تصف زوجها في القرآن بـ"بعلي"، وهو لفظ مستخدم في العامية حتى اليوم. كذلك فإن مدينة "بعلبك" اللبنانية اسمها يرجع إلى الإله "بعل"، و"بك" تعني البيت.
الحضارة الفارسية
أرجع الفرس خلق العالم إلى اتحاد العناصر الأربعة: الماء والنار والهواء والتراب، وقدسوا هذه العناصر فحرموا إحراق جثث الموتى أو دفنها. أما الكون فهو في عقيدتهم الزرادشتية، نسبة إلى مؤسسها زرادشت، نشأ نتيجة صراع بين قوتين هما النور والظلام.
ويمثل الإله "أهورامزدا" النور ومعه جيش الخير الذي يحمي العناصر المقدسة ومكونات العالم من أرض وسماء وكواكب وشمس وقمر، وكذلك قيم الخير والحق والحكمة وكل القيم الطيبة، بينما يقود الظلام "أهيرمن" ومعه جيش الظلام والشر وأتباعه "بني الشيطان" وقيم الشر والكذب والتكبر والصفات السيئة.
الإله أهورامزدا
في البدء كان "أهورامزدا" يحكم عالم الأرواح لمدة 3000 عام، ثم فجأة ظهر "أهيرمن" ونازعه السلطة فأعطاه هذا الأخير فرصة مدتها 9000 عام قبل المعركة الفاصلة بينهما. واستغل "أهورامزدا" المهلة في خلق الكون فخلقه على ستّ مراحل آخرها مرحلة خلق الإنسان. بينما انشغل "أهيرمن" بخلق الشرور مقابل كل مخلوق طيب يخلقه خصمه.
وهكذا تدور الحياة في العالم، وكلما تحلى المرء بالصفات الطيبة وعمل على إعمار الدنيا ونشر الخير عزز جانب "أهورامزدا وجيش النور"، بينما من يفعل عكس ذلك يقوّي طرف "أهيرمن" وجيش الظلام، وهكذا حتى تنشب المعركة المنتظرة بين الجيشين ثم ينتهي العالم الدنيوي. كان الصراع بين الخير والشر إذن هو محرك الخلق عند الفرس، ولهذا كانوا من أكثر الشعوب القديمة حرصاً على تقديس القيم الفاضلة لإدراكهم أن لها بعدا إلهياً يتجاوز الماديات.
الملاحظ أن العامل المشترك في قصص الخلق الشرقية هو الصراع. فهؤلاء القوم لم يقفوا عند تفسير الظواهر الطبيعية فحسب، بل كذلك سعوا إلى تفسير السلوك البشري فقدموا لنا في قصص الخلق آلهة تتصارع وتتنافس وتتبادل الغيرة والتآمر والتحالفات كالبشر. وهذا ما يجعل قصص الخلق القديمة وسيلةً لمعرفة كيفية تفكير الشعوب القديمة وطريقة نظرتها إلى العالم وما وراءه.
نشر الموضوع على الموقع في 11.06.2015
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...