من المستحيل أن يجتمع اليوم عدد من اليمنيين في الشتات من دون أن تكون الحرب مُستهل الحديث، عمن قضى حتفه، عمن نجا بنفسه، عمن تهدم بيته، عمن ما زال صامداً. حين جلسنا في بهو الفندق نخبر بعضنا بعضاً عن آخر مستجدات حياتنا، ترددت جملة "ذاك كان قبل الحرب، أو بعد الحرب"، وأنا كنت أظن أن ثورة العام 2011 هي النقطة المفصلية في حياة المواطن اليمني. لكن يبدو أن الحرب هي النقطة التي أثرّت في حياتنا. بين التندر والتنهد، أخفينا ألمنا وحاولنا أن نُركز على السبب الرئيسي للقائنا.
في الشهر الماضي كانت عمّان مكان لقائنا، نحنُ يمنيي الشتات الجُدد. كانت في جعبة كل منّا لغة وتجربة جديدتان، استقاهما من مسكنه الجديد المفروض عليه بعد النزوح. منّا من أصبح يتحدث السويدية، أو التركية، أو يتقن اللهجة الأردنية. بالرغم من تفاوت مدة تجربة الشتات، من مر عليه شهور أو سنين، لكن تبقى هي نفسها تفاصيل تجارب الاغتراب، اللجوء، الشتات، سمها كما تشاء. تلك الملاحظات المحلية نفسها التي لن يفهمها غير اليمني، الذي يرى العالم بعين من فعل المستحيل لينجو بنفسه من الحرب.غرض لقائنا كان المشاركة في ورشة عمل حول التصوير الفوتوغرافي، ومعالجة قضايا التابوهات والنزاعات برعاية منظمة الصالون اليمني، لكن في قرارة أنفسنا كنا مدركين أن لقاءنا كان محاولة عنيدة لتحدي اليأس وصدمة الحرب.
الصالون اليمني
كنتيجة لإصرارنا على رفع راية قضية اليمن في حركة المطالبة بالديموقراطية والحرية، في زمن الربيع العربي 2011، وكنتيجة للتخفيف من لهيب الغُربة، وُلدت منظمة الصالون اليمني في السويد، حيثُ أقيم منذ عام 2011، لتكون مساحة يلتقي فيها ما هو ثقافي وسياسي له علاقة باليمن. فمنذ عام 2012 ومنظمة الصالون اليمني تعمل على إقامة برامج ثقافية توعوية عن اليمن، من خلال ندوات وعروض أفلام ولقاءات مع الإعلام السويدي. هذه المرة نظمت منظمة الصالون اليمني ورشة عمل تدريبية لعدد من المصوريين اليمنيين في العاصمة الأردنية عمّان، بعد أن حالت الحرب دون إقامتها في اليمن.
وأنا أحضّر لورشة العمل، كأحد المؤسسين (مع زميلتي هناء الخامري)، والعاملين في منظمة الصالون اليمني، لم يفارقني التوتر. كيف سيكون الجو العام في الورشة؟ كيف علينا أن نتظاهر بأن توقيت الورشة وموضوعها لهما قيمة، بينما بلدنا تحت القصف الخارجي والداخلي؟ كيف لي أن أجد الجمال والإبداع في الأعمال الفوتوغرافية للمشاركين، في الوقت الذي تعاني فيه ذاكرتي من صور تدمي القلب من اليمن ووضعها الإنساني المأسوي؟ شعرتُ أيضاً بضيق وأنا أفكر بأنه سيكون عليّ التخفيف عن المشاركين والمشاركات، الذين اضطروا للفرار من القتل والرعب في اليمن.
حضّرتُ نفسي قبل بدء الورشة إذ ليس من المعيب ولا من الإحراج أن لا يكون لديّ أجوبة عن أي سؤال. فتشتّ عن روح المجازفة بداخلي ومضيت إلى الورشة، كمن سيرمي نفسه بالمظلة من السماء.
تخيّل غير المرئي
بمشاركة 5 مصورين ومصورات من اليمن، وهم نازحون إلى الأردن وتركيا، بدأنا ورشة العمل المعنونة بـ"تخيل غير المرئي"، التي استمرت من 28 إلى 29 يناير. حاولت منظمة الصالون اليمني أن تدعو عدداً من المصورين المقيمين في اليمن، لكن بسبب إجراءات الدخول المتغيرة بفعل الحرب، والتعجيزية غالباً، كان من الصعب أن نساعدهم على السفر. قاومنا الإحباط، لأنه كان من المفترض أن نكون أكثر عدداً، وباشرنا الورشة.
مع مرور الجلسات، كنت أنبهر بالطاقة الإبداعية لدى مشاركينا ومشاركاتنا، وتجاوزهم كل المحبطات. وكيف لا يكون ذلك والجلسات بإدارة المصورة الفوتوغرافية العراقية - الكندية تمارا عبد الهادي، وبمشاركة المصور المصري الحائز جوائز عدة، مصعب الشامي. هؤلاء مصورون عرب كرسوا عدساتهم للمساهمة في تشكيل الذاكرة العربية الفوتوغرافية، في زمن نتعثر بركام من الوقائع المؤلمة في منطقتنا العربية الحزينة. وحين كنت أرى التفاعل بين المصورين المحترفين والمشاركين اليمنيين، الذين ما زالت أعمالهم الفوتوغرافية مبعثرة وتحتاج لبلورة، كان بريق الإلهام يضيء الصالون اليمني. ليس هناك أجمل من أن ترى شخصاً تتوسع آفاقه أمامك بسبب العمل المشترك.
أثناء وجودي في عمّان غردت على حسابي على تويتر، ونشرتُ على صفحتي على الفيسبوك بأنني في عمّان، على أمل أن يتواصل معي من أعرفهم في المدينة لنتقابل، فانهال عليّ عدد من الرسائل، وقمت بلقاءات كانت أشبه بورشة عمل خاصة بي، إذ رأيت ما هو غير مرئي. أكثر ما أثر فيّ هو لقائي مع شخصين من يمنيي الشتّات. الأول مع ناشط سياسي يمني كانت بيننا قطيعة منذ الثورة في العام 2011 لأسباب سياسية وشخصية، لكن رؤيتنا السياسية المشتركة على ضوء الحرب الحاليّة جمعتنا مرة أخرى. واللقاء الثاني كان مع يمني- فرنسي جسّد لي عمله في حملات المناصرة لليمن من فرنسا معنى الواجب الوطني الذي يتحدى الحدود من أجل الوطن الأم.
أدركت ما هو غير مرئي. رأيت أن هذه العينة من يمنيي الشتات هي جزء ممن تشتتوا في أرض الله الواسعة، أشخاص لهم محاولات عنيدة لفهم مستقبلهم المجهول، وأثناء ذلك المسار، سيقومون بكل ما في وسعهم ليتمتعوا بحياة أقرب ما تكون لحياة طبيعية، وتبقى قضيتهم الأساسية أن يعيشوا بكرامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...