تسيطر الواقعية السياسية على الحقل الأكاديمي من الدراسات الأمنية، فأولائك الذين يلتزمون هذه النظرية يؤمنون بالأدلة العلمية حين توضع بين أيديهم لكي ينظروا إلى العالم من منظور واقعي وليس من منظور الكمالية. يقول والتر ليبمان في هذه الإشكالية: "علينا أن لا نستبدل العالم الواقعي بآخر خيالي".
إليكم بعض الأدلة العلمية الملموسة التي لا يمكن إنكارها: استناداً إلى أوسع قاعدة بيانات كوّنتها بمساعدة 3 من زملائي عن وضع المرأة اليوم حول العالم، استنتجنا أن هناك رابطاً قوياً ومهماً بين استقرار الدولة وأمن المرأة. ففي الواقع لا يمكننا الاعتماد على الثروة، ولا على مستوى الديمقراطية، أو حتى على الهوية الدينية الإثنية كمؤشرات لقياس مستوى رفاهية دولة ما بل على الطريقة التي تعامل المرأة بها. بالإضافة إلى ذلك، فالدول الديمقراطية التي لديها معدلات مرتفعة من العنف تجاه المرأة لا تتمتع بالأمن والاستقرار، حالها حال الدول المستبدة.
إنَّ أبحاثنا التي تم توثيقها في كتابنا الذي سيصدر هذا الشهر تحت عنوان "الجنس والسلم العالمي" Sex and World Peace، تتماهى مع نظريات العلماء الذين استنتجوا أنه مع اتساع الفرق بين طريقة معاملة الرجل والمرأة في المجتمع، تزداد فرص الدولة في الانخراط في صراعات داخلية وصراعات مع دول مجاورة، كما أنّها ستصبح مؤهلة أكثر من غيرها لاستعمال العنف والقوة. وعندما يتعلق الأمر بالأمن الصحي القومي والنمو الاقتصادي، والفساد والرعاية الاجتماعية تعتبر العوامل المتعلقة بالمرأة المؤشرات الأفضل. إنّ ما تتعرض له المرأة يمكن أن يؤثر على أمن واستقرار وازدهار وفساد وصحة وطبيعة النظام في دولةٍ ما، كذلك يمكنه التأثير على قوة الدولة أيضاً فالأيام التي كان باستطاعة أحدهم الادعاء أن وضع المرأة ليس له علاقة بالأمن القومي لدولة ما ولّت. الدلائل العلمية على هذا الواقع عديدة وواضحة إلى حدٍ يصعب تجاهلها.
لكن عندما ننظر إلى العالم من حولنا، نلاحظ أن وضع المرأة بعيدٌ كل البعد عن الأمان. تصنّف قاعدة بياناتنا الدول حسب فئات عدّة تتعلق بأمن المرأة وتراوح من صفر للأفضل إلى 4 للأسوأ. وقد تم تحديد المعدلات استناداً إلى بحوث شاملة أجريت على أكثر من 130,000 وحدة بيانية في موقع WomanStats Database. شاركنا في البحث شخصان محايدان قاما بتقييم بحثنا، ليتوصلا بالإجماع إلى تقييمٍ عن وضع المرأة في كل دولة. لم تستطع أي دولة الحصول على معدل صفر على مقياسنا، الذي يأخذ بعين الاعتبار الأمن الجسدي للمرأة. استقر المعدل العالمي على 3.04 لكي يشهد على استمرار العنف ضد المرأة، واتساع رقعته حول العالم حتى في الدول المتطورة التي تتمع بحرية، فحصلت الولايات المتحدة مثلاً على معدل 2، بسبب انتشار العنف الأسري والاغتصاب.
من المضحك أن بعض الكتّاب كستيفن بينكر الذين يدعون أن العالم يتحول لكي يصبح أكثر أماناً، لم يتنبهوا إلى أن العنف ضد المرأة في دولٍ عدة ينتشر بسرعة، لدرجة أنه أصبح أكثر خطراً من العنف الناتج عن الحروب والنزاعات المسلّحة. إنّ الإيمان بأن دولة ما تتمتع بالسلام، في الوقت الذي تتعرض فيه النساء للقتل أو تجاهل العنف ضد المرأة، والادعاء أن العالم في أمانٍ تام كما فعل بينكر، يمثل قمة التناقض.
تمتد جذور العنف الجنسي في العديد من الثقافات إلى درجة أن ذلك يؤثر على المرأة ليس خلال حياتها فحسب، بل حتى قبل أن تولد. بالعودة إلى مقياسنا، قمنا بقياس معدل تفضيل إنجاب ذكرٍ عوضاً عن أنثى وحصلنا على نتيجة 2.41، ما يشير إلى أن الغالبية تفضل إنجاب ذكرٍ. وفي 18 دولة من أرمينيا إلى فيتنام، تشير الإحصاءات إلى أن نسبة الذكور مرتفعة جداً لدى الأطفال مقارنةً بالإناث. يعتقد القيمون على صندوق الأمم المتحدة للسكان أن عام 2005 خسر الآسيويون أكثر من 163 مليون امرأة سواء عبر الإجهاض حسب جنس المولود، أو عبر الوأد، أو بطرق أخرى. استناداً إلى حسابات العالم الديمغرافي دادلي بوستون Dudley Poston من جامعة تكساس إيه اند إم ستقع الصين في عجزٍ بشري يفوق الـ50 مليون أنثى مع نهاية العقد الحالي. فكروا في مدى تأثير هذا الاختلال في التوازن على استقرار الصين وأمنها، ثم على مكانتها كقوة عالمية في هذا القرن.
هناك أيضاً مؤشرات عالمية أخرى مخيبة للآمال، ففي قانون العائلة لا يتم إنصاف النساء في مسائل كالزواج والطلاق والإرث، فيؤدي عدم المساواة إلى أرضٍ خصبة لممارسة العنف ضد المرأة، وإضعاف قدرتها على حماية نفسها وأطفالها. توصلت مع زملائي إلى خلاصة مفادها أن معدّل اللامساواة العالمي بحق المرأة في القانون العائلي يصل إلى 2.06، ما يشير إلى أن غالبية الدول لديها قوانين تمارس التمييز بدرجةٍ أو بأخرى بحق المرأة. كما تدل المؤشرات إلى أن بعض دول الربيع العربي ومن ضمنها مصر، هي أكثر قابلية لارتفاع معدلها بحسب مؤشرنا. يبلغ معدل وفاة الحوامل عالمياً 2.45، وهو مؤشر مؤسف، حين يتعلق الأمر بأولويات الدولة وتقديرها لحياة المرأة.
وختاماً فشراكة المرأة في مواقع القرار استناداً إلى معدل مشاركة المرأة في الحكومات يبقى عند معدلٍ متواضعٍ يصل إلى 2.7.4 لكن الأمر ليس مستغرباً، فنسبة تمثيل المرأة في الحكومة تصل إلى دون الـ20%. لكنه من الصحيح أن بعضاً من أسوأ الدول في ما يتعلق بتمثيل المرأة في الحكومة دول تعتمد الديمقراطية، ففي اليابان تصل نسبة تمثيل المرأة في الحكومة إلى 13.4%، وفي كوريا الجنوبية إلى 14.7% وفي المجر إلى 8.8%.
حصلت الولايات المتحدة على نتيجة تحت المعدل، فوصلت نسبة تمثيل المرأة في الكونغرس إلى 17%. ومن المضحك أنه عندما قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان والعراق، طالبت البلدين بأن تصل نسبة تمثيل المرأة في الحياة السياسية فيهما إلى 25%. واليوم حصل البلدان على معدل أعلى من الولايات المتحدة على مؤشرنا، فسجلت أفغانستان 28% والعراق 25%. ولكن للأمانة علينا القول إن الولايات المتحدة نجحت بالتعامل مع النساء الأفغانيات والعراقيات أكثر من الأميركيات.
علماً أن الدلائل على العنف ضد المرأة واضحة، لكن ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للسلم العالمي؟ إذا قمنا بتحليل تأثير الإجهاض على أساس جنس الجنين وتعدد الزوجات، فإنها تساعد على خلق طبقةٍ متواضعة من الشباب الذكور ليس ليدهم ما يربطهم بالمجتمع، لأنهم لن يصبحوا أرباب أسرٍ، الأمر الذي يشير إلى الرجولة في ثقافاتهم. إن ارتفاع نسبة العنف والجرائم والسرقة والتهريب ليس مفاجئاً، فهذه أساليب يلجأ إليها الشباب ليدخلوا المنافسة في سوق الزواج. لكن انتشار هذا النوع من الشبان قد يساهم أيضاً في نجاحٍ ساحق لمجندي الإرهابيين، أو ربما ستصبح الدولة مهتمةً أكثر بحروب الاستنزاف التي ستخفض مراتب هؤلاء الشباب. يقول الإرهابي الوحيد الناجي من تفجيرات مومباي عام 2008، إن والده أقنعه بالقيام بذلك ليؤمن المبلغ اللازم لدفع مهر من أجل الزواج.
نعلم أيضاً من خلال الدراسات التجريبية أن الاتفاقات بعد الحروب، التي يتم مناقشتها من دون حضور المرأة سرعان ما ستفشل مقارنةً باتفاقات أبرمت بحضور المرأة. كما أظهرت الدراسات أن المجموعات التي تتألف فقط من رجال، تميل إلى اتخاذ قراراتٍ خطيرة وعدائية من المجموعات المختلطة، وهما ظاهرتان تؤديان إلى حروبٍ بين الدول.
وعلى صعيدٍ آخر فإن نموذج العيش مع شخصٍ آخر مختلف في أي مجتمع من طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. في البلدان التي يسيطر فيها الرجال على بيوتهم بالقوة تقوم السلالات الحاكمة التي تتألف بغالبيتها من الرجال بالسيطرة على الدول مستخدمةً العنف، وهذا ما أشار إليه رجلٌ إيراني منشق خلال الثورة الخضراء عام 2009، مفسراً قرارهم ارتداء حجاب كإشارةٍ على تمردهم ضد النظام، وكوقفةٍ تضامنية مع المرأة المقموعة. يقول أحد المتظاهرين إن الرجل الإيراني تأخر في إظهار الدعم للمرأة. لو أننا قمنا بالاحتجاج عندما فرض الحجاب على شقيقاتنا اللواتي لم يردن اعتماده ربما ما وصلنا إلى هذا الحال. إنه تصريحٌ مهم! الرجال الذين يرون المرأة مخلوقاً خاضعاً سيصبحون بدورهم خاضعين، أمّا الرجال الذين يرون المرأة كشريكٍ لهم فهم الوحيدون الذين يتمتعون بفرصةٍ حقيقية للاستمتاع بالسلام والحرية.
في حركةٍ واعدة صرحت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أن مشاكل المرأة هي في صلب السياسة الخارجية للولايات المتحدة. بـالعودة إلى العام 2010 قالت إن قضايا المرأة ليست قضايا أخلاقية أو إنسانية فحسب، ولا حتى مسألة إنصاف بل هي قضايا تتعلق بالأمن. وأضافت أن الأمر في منتهى الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة. ولكن مع أن الدليل واضحٌ على أنّ تحسين أمن المرأة يؤدي بدوره إلى رفع أمن واستقرار الدولة، فمن المثير للعجب كيف أن البعض لا يزال يدعي عدم جدوى تحسين وضع المرأة بسبب الموروثات الثقافية. لعل أفغانستان هي المثال الأوضح، فبعض المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن المشاكل المتعلقة بالتوازن بين الجنسين تحظى باهتمامٍ أقل مقارنةً بمواضيع اخرى أكثر أهمية. تقول بعض النساء في أفغانستان إن وضع المرأة في البلاد سيزداد سوءاً مع رحيل القوات الأميركية. فكيف يتماهى ذلك مع نظرة كلينتون؟
بمقدور الولايات المتحدة مساعدة المرأة الأفغانية حتى بعد رحيل قواتها عن البلاد، فبإمكانها على الأقل وضع سياسة لجوء للمرأة الأفغانية، التي تواجه القتل بسبب جنسها، أو يمكن وضع برامج تعليمية تساعد النخبة منهن على الدراسة في الجامعات الأميركية. كما يمكنها التأكد من حسن تمثيل المرأة في محادثات السلام مع طالبان.
يمكن للولايات المتحدة أيضاً حث المحكمة الجنائية الدولية على متابعة محاكمة قادة طالبان الذين أمروا بقتل النساء، ويمكنها أيضاً مواصلة الدعم المادي لمحطة المرأة الأفغانية الحرة الإذاعية، ويمكنها وضع برامج تعليمية موجهة للنساء في الجوامع. ويمكن للولايات المتحدة الطلب من الحكومة الأفغانية عدم مصادرة مكان إيواء النساء، ودعم أفغانستان عبر تحسينات خاصة وفعالة لوضع المرأة. نأمل أن يأخذ السفير الأمريكي في أفغانستان ريان كروكر Ryan Crocker وآخرون أيضاً هذه الاقتراحات على محمل الجد.
الدليل واضح: التحدي الأول في القرن الواحد والعشرين يكمن في التخلص من العنف ضد النساء ورفع الجواجز لتنمية قدراتهن وإبداعهن وإيصال أصواتهن، فلا يمكن لطائرٍ بجناحٍ مكسور، ولا يمكن لسلالة أحد جنسيها عليل، الازدهار. لقد واجه البشر هذه المشكلة على مدار آلاف السنين، وتم دفع الثمن دماً ومعاناةٍ لا داعي لهما. على دول العالم محاولة طريقةٍ أخرى كالرفاهية والازدهار والأمن، من أجل نظامٍ عالمي أفضل. وعندها سيتضح الرابط بين الجنس والأمن العالمي.
ترجمة عن المقال الذي نشر باللغة الإنجليزية على موقع Foreign Policy تحت عنوان: What Sex Means for World Peace، لـValery M. Hudson.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...